وائل توفيق يكتب: التشابه والتضاد.. حقوق العمال بين الحقبة الناصرية والوقت الحالي (3)

يمثل مشروع الدولة بالتخلص من ممتلكات الدولة، الذي طبقته السلطة الحاكمة خلال السنوات الأخيرة (في أعقاب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي) خطوة هامة بالنسبة للطريق الذي سارت عليه البرجوازية المصرية بتعثر منذ أواخر الستينات أوائل السبعينات عندما تفاقمت أزمة رأسمالية الدولة الناصرية: طريق الاندماج في السوق الرأسمالي العالمي.

شهدت السنوات القليلة الماضية تركيزًا على الجوانب المالية والنقدية من هذا البرنامج حيث تم (إلى حد كبير) كبح جماح التضخم وتخفيض العجز في الموازنة العامة من خلال سياسات انكماشية مثل خفض معدل الاستثمار وتقليل الأنفاق على الخدمات ورفع الدعم من السلع الأساسية وزيادة الضرائب ورفع، أسعارن الفائدة… الخ وينتظر أن تشهد السنوات القادمة مزيد من دفاع البرجوازية المصرية وإعلامها عن القرارات التي تستهدف زيادة معدلات التراكم والنمو عن طريق سياسات تكثيف الاستغلال، بما يسمح برفع معدلات الربحية ودعم قدرة الصادرات المصرية على المنافسة في الأسواق العالمية.

ولاشك أن هذه السياسات لها آثار واسعة على مجمل أوضاع المجتمع المصري. وهي تطرح على الطبقة العاملة المصرية مهام جسيمة وتحديات بالغة، فمنذ أكثر من عشر سنوات راحت الطبقة العاملة تتجاوز بشكل متزايد وصاية الدولة والنقابات الصفراء عليها، وعرفت طريقها نحو النقابات المستقلة، ولكنها عجزت في الوقت نفسه عن إفراز بديل تنظيمي مستقل نضالي لأشكال الهيمنة التي تحاول الدولة عبثًا تكبيلها بها.

لكن ما هو المسار الذي سارت فيه الحركة العمالية منذ احتوائها بواسطة الناصرية في الخمسينات حتى تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في أوائل التسعينات؟

عمل مجلس قيادة الثورة على إحتواء الحركة العمالية داخل جهاز الدولة، خصوصاً بعد أحداث كفر الدوار الشهيرة، وذلك من خلال مزيج من القمع والإصلاح. فمن ناحية راح النظام الجديد يعمل بدأب على القضاء على التأثير اليساري داخل النقابات بالوسائل القمعية، كما سحق بعنف إضراب عمال نسيج الشوربجي في سبتمبر 1953 حيث تم اعتقال ما بين 350 و500 عامل، وفي الوقت ذاته؛ عمل على خلق قاعدة تأييد عن طريق إصدار عدد من التشريعات الإصلاحية، فأصدر في ديسمبر 1952 سلسلة من القوانين والقرارات العسكرية التي لبت مطالب أساسية للحركة النقابية.

وكان أهم هذه المطالب هو توفير ضمان العمل من خلال الحد بدرجة كبيرة من حرية أصحاب الأعمال في فصل عمالهم تعسفيًا، أي الفصل لأسباب تتعلق باعتبارات السوق، مع العلم أن هذه التشريعات الجديدة اقترنت بحظر الإضرابات، وكما ذكر جون بنين أحد أهم مؤرخي الحركة العمالية المصرية: “فقد تم التوصل إلى اتفاق غير مكتوب: لا إضرابات في مقابل حظر الفصل التعسفي. ولكن عمليًا، وفي غيبة سلاح الإضراب الفعال، كثيرًا ما وجد أصحاب الأعمال طرقًا للتحايل على القانون”.

وتماشياً مع هدف السلطة الحاكمة أنذاك لخلق قاعدة من التأييد الشعبي، فبالإضافة إلى تشريعات ديسمبر 1952 العمالية، جاء قانون الإصلاح الزراعي المحدود الذي سبقها في سبتمبر، حتى يتمكن من فتح مساحة له بالتحرك بفعالية ضد أي معارضة محتملة. ففي يناير 1953، تم حل جميع الأحزاب السياسية واستبدالها بـ “هيئة التحرير التي صارت التنظيم السياسي الوحيد.

وخلال هذه الفترة ربط غالبية اللقادة النقابيون مصيرهم بعبد الناصر، وعقدوا اتفاقًا واضح المعالم، وإن لم يكن معلنًا، لقد وافقوا على تأييد سلطة الضباط الأحرار؛ التي دللت مرارًا وتكرارًا على معارضتها لحركة نقابية حرة، وأعلنوا موقفهم الرافض وبشدة لحق الإضراب، ولأي شكل من أشكال المبادرة والفعل المستقلين للعمال، وفي المقابل عزز النظام مواقعهم في القيادة ووافق على الإبقاء على المكاسب الاقتصادية التي تم تحقيقها وعلى توسيعها كذلك، وخاصة المطلب الشديد الأهمية الخاص بضمان العمل.

اتخذ احتواء الحركة العمالية المصرية بواسطة النظام الناصري شكلاً مؤسسيًا بين أواخر الخمسينات وأواسط الستينات، فبعد تطهير الحركة النقابية من التأثيرات اليسارية، وأعلن النظام في 30 يناير 1957 عن قيام “الاتحاد العام لنقابات عمال مصر”. ولم يشأ النظام أن يترك أي مجال للالتباس بخصوص التكوين السياسي لقيادات الاتحاد، ففي المؤتمر التأسيسي قامت الحكومة ببساطة بتسليم أسماء الأعضاء السبعة عشر في القيادة للمؤتمر لكي ينتخبهم” وفي ذات الوقت، فإن قانون العمل الموحد العام 1959 وقانون النقابات العمالية لعام 1964 قد أكملا تحويل الحركة النقابية إلى جزء من جهاز الدولة من خلال مركزة البنية النقابية حول عدد محدود من النقابات العامة تحت إشراف الاتحاد العام ووزارة العمل، وقد صارت عضوية الحزب الحاكم – الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي – شرطًا ضروريًا للترشيح في الانتخابات النقابية على كافة المستويات. كما أبقى قانونا 1956 و1964 على حظر الإضرابات.*

ولكن في ذات السياق توسع القطاع العام كثيرًا؛ سواء من خلال تأميم جزءًا كبيرًا من الشركات الصناعية والتجارية أو من خلال تسريع عملية التصنيع، وكان ذلك خلال النصف الأول من الستينات، وفي الوقت ذاته صدرت عدة قوانين هدفت إلى رفع مستوى معيشة العمال. فقد انخفض أسبوع العمل في المنشآت الصناعية إلى 42 ساعة، وتضاعف الحد الأدنى للأجور والتزمت الحكومة بتوفير فرص العمل لجميع خريجي الجامعات والمدارس الثانوية. وقد أسفرت هذه السياسات عن زيادة الأجور الحقيقية في مصر بنحو 60 % بين 1952 و1966.*

ووضعت السلطة الناصرية أنذاك عقدها الإجتماعي؛ الذي إستهدف تحقيق الإستراتيجية الاقتصادية الناصرية في التنمية “المستقلة”، المعتمدة على التصنيع السريع كثيف الرأسمال من خلال التخطيط الاقتصادي واستبدال الواردات بالمنتجات المحلية. حيث بدأت هذه الإستراتيجية تتزعزع في أواخر الستينات، وبدأت تخطو على طريق “الانفتاح الاقتصادي” تلك السياسة التي تبلورت في 1974، وتخلت الطبقة الحاكمة عن إستراتيجيتها باستبدالها بإستراتيجية تقوم على الاندماج الكامل في السوق الرأسمالي العالمي من خلال زيادة تنافسية وربحية الاقتصاد المصري. اقتضت هذه الإستراتيجية الجديدة للرأسمالية المصرية التراجع عن المكتسبات التي حصلت عليها الجماهير في المرحلة السابقة.

ثم جاءت انتفاضة يناير 1977 العمالية لتكون بمثابة النقطة الأعلى التي وصل أليها المد المتصاعد في الصراع الطبقي بين 1968 و1977، وبالطبع كان موقف اتحاد نقابات العمال الموالي للنظام؛ منها هو الإدانة المطلقة، وما أن وقعت الانتفاضة حتى هرعت البرجوازية الخليجية لإنفاذ أختها المصرية حيث قدمت منظمة التنمية الخليجية لمصر (التي كانت تضم وقتها السعودية والكويت والإمارات وقطر) قرضًا فوريًا بلغ 2 بليون دولار بفائدة 4 % فقط وفترة سماح خمس سنوات.

فبعد أن تقلصت أهداف العمل النقابي إلى التفاوض الجماعي على الأجر وساعات العمل وما إلى ذلك، تضاءلت أهمية النقابة في أعين أعضائها وأصبحت بالنسبة لهم مؤسسة خدمية ذات طابع تقني تحتاج للتخصص والخبرة والتفرغ، وتراجعت الديمقراطية الداخلية للنقابة.

ولهذا تبنى بعض قادة وأبناء الحركة العمالية؛ مشروع إكتساب حق حركة نقابية مستقلة، وإستطاعت أن تفرضها بدأية من قبل ثورة 25 يناير 2011 بعامين تقريباً، ثم كانت الثورة بمثابة قوة دافعة لتوسعها، ولكن ما إن سيطرت سلطة ما بعد 2013 على الأوضاع، فما كان منها إلا العمل من أجل إهدار هذا المكتسب.

فما كان من النظام  إلا أن يتدخل بفجاجة متزايدة في الانتخابات النقابية (باستخدام سلطاته بإستبعاد عدد كبير من المرشحين، بحيث يضمن فوز عملاءه، ثانياً المزيد من التضييق على النقابات المستقلة وعدم السماح لها بتوفيق أوضاعها، بالإضافة للمزيد من التضييق والعرقلة لغالبية المنظمات الجديدة التي ترغب في التأسيس، وفقاً للمكتسب التي إستطاعت الحركة العمالية المستقلة الحصول عليه بالقانون الجديد.

 ومن ناحية أخرى، أخذ النظام لضمان استمرار ولائهم حيث رجع لعادته القديمه بما يشبه  ترقيت رئيس إتحاد العمال إلى المنصب الوزاري، و”تعيين” عدد من قيادات الإتحاد الحكومي بالمؤسسات التشريعية (البرلمان .. الشيوخ).

استطاعت السلطة الحاكمة إذن أن تستعيد ترويضها للنقابات، بأن تقوم بدوراً هامًا في لجم سخط الطبقة العاملة واحتوائه داخل “الحدود الآمنة”. ولكن ليس هي المستفيد الوحيد من هذا الوضع، بل استفادت منه كذلك البيروقراطية النقابية، فعلى الرغم من أن عناصر هذه البيروقراطية تأتي في الأغلب من داخل صفوف العمال، فإن وظيفتهم الاجتماعية في الوساطة والتفاوض، ومستوى معيشتهم الذي يزيد بما لا يقاس على مستوى معيشة العمال العاديين، والاستقرار الذي يتسم به عملهم الذي لا يتهدد بتقلبات السوق، والعالم الذي يعيشون فيه عالم المكاتب المريحة والاجتماعات مع الشخصيات “الهامة”، كل ذلك يجعل من البيروقراطية النقابية طبقة منفصلة عن الطبقة العاملة.

أما في حالة حدوث بوادر تصاعد في الحركة العمالية – وهذا بالتأكيد ما سوف يحدث لأن التدهور في مستويات المعيشة لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية بدون مقاومة – فإن الأزمة ستتحول على أزمة طاحنة، إذ سيبدأ الضغط من أسفل في إحداث تأثيرات حاسمة على الحركة النقابية وعلى سياسات الطبقة الحاكمة في مجال الأجور، وفي هذه اللحظة ستصبح هناك إمكانية واقعية للهجوم القاعدي، ولكن لأن الرأسمالية المصرية المأزومة لن ترضخ بسهولة للضغط من أسفل (لو رضخت بشكل واسع ستهتز قدرتها التنافسية العالمية بشدة) حتى لو تحسنت أحوالها قليلاً فإن المعركة ستكون شديدة الصعوبة.

تواجه الطبقة العاملة المصرية اليوم هجومًا برجوازيًا شرسًا يستهدف تعظيم ربحية الاقتصاد المصري على حساب لقمة عيش الملايين. وما يحدث في مصر في هذا المجال ليس فريدًا على الإطلاق. فالأزمة المتفاقمة للرأسمالية العالمية تدفع البرجوازيات للتوحش واعتصار اللحم الحي في كل بقعة من عالمنا، أما الفريد حقًا في الحالة المصرية فهو ذلك النجاح “الباهر” للبرجوازية ودولتها في تجريد الطبقة العاملة من أسلحة النضال النقابي والسياسي.

فعلينا أن نجد السبيل إلى حركة عمالية منظمة وقوية، تمتلك أدوات نضالها وتعيد طرح مشروع الطبقة العاملة على جدول أعمال المجتمع والسياسة في مصر، قد يكون ذلك ما سنقدمه كاجتهاد كنا في مقالات لاحقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *