مدحت الزاهد يكتب: المستشار هشام البسطويسى وجيل القضاة العظام

فى ابريل عام 2006 اهتز الضمير الوطني المصري بعد إحالة المستشارين هشام البسطويسي، ومحمود مكي، إلى لجنة الصلاحية وإجراءات التأديب، فى غمار مواجهة بين تيار الاستقلال فى نادى القضاة الذى رفض تحزيب القضاء وتتبيعه للسلطة وبين مؤسسات الحكم التى دأبت على محاولات إلحاق سلطة القضاء للسلطة التنفيذية، وزرع تيار المولاة فى صفوف القضاة المفترض فيهم الاستقلال.

ولأن المسألة لم تكن شخصية، بل استهدفت مبادىء وقيم ونصوص دستورية وقانونية وتيار كامل يقاوم تحزيب القضاء، التهبت الأجواء بإعتصام طويل ممتد فى نادى القضاة ومسيرة بالأرواب والأوسمة انطلقت منه إلى دار القضاء العالى، وسط تضامن كل القوى والمؤسسات الديمقراطية، وانتهى الأمر بتوجيه لوم للمستشار البسطويسى ، اعتذر عنه المستشار محمود أبو الليل وزير العدل وقتها، عندما قبل رأسه اثناء زيارته فى المستشفى، فاطيح بوزير العدل فى أول تعديل وزاري.

خلفية هذا المشهد تاريخ طويل كانت آخر محطاته قبول المستشار البسطويسي للطعن فى انتخابات دائرة الزيتون، وفوز زكريا عزمى، رئيس الديوان الجمهورى، المقرب من مبارك والذى ضغط بكل قوة للإطاحة بالتيار ورموزه.

وكانت الدائرة التى أصدرت الحكم قد ردت لرئيس محكمة النقض ملاحظاته على الحكم، بقولها أنه تدخل من غير ذي الصفة.

وكان المستشار البسطويسى قد خاض قبلها مع تيار الاستقلال  المواجهة مع المادة 76 التى فتحت باب التوريث وبعدها تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2005 .

وقبلها أبطل انتخابات مينا البصل بسبب التزوير، وتصدر إضراب القضاة عام 1992 رفضا لإحالة القضاة الشرفاء للتأديب، وتم تصنيفه من قبل السلطات كمشاغب ومن قبل القضاة والشعب كقاضى عادل ورجل نزيه واختارته الجمعية العمومية للنقض مستشارا بها وفى فترة لاحقة كنائب لرئيسها .

وأغرب التبريرات التى سيقت فى تبرير الصاق صفة المشاغب بالمستشار البسطويسى والتيار الذى انتمى إليه هو سعيهم لتسيسس وتحزيب القضاء وتدخلهم فى أمور خاصة بقضايا سياسية كالطوارئ والقوانين والمحاكم الاستثنائية .

والحقيقة أن تدخل القضاة فى هذه الأمور كان تجاوبا وترجمة للمذكرة التفسيرية لاستقلال السلطة القضائية ومواد الدستور الخاصة بالفصل بين السلطات واستقلال القضاء وشروط مزاولة مهنتهم .

وعلى سبيل المثال لم يكن يهم القضاة من فاز في الانتخابات من الأفراد أو الأحزاب، بل كان يهمهم ألا تنسب إليهم نتائج انتخابات مزورة، وقد تضمنت نصوص الدستور النص على إشراف القضاة على الانتخابات.

وحرصا على استقلال السلطة القضائية كان حرصهم على أن يحاكم المتهم امام قاضيه الطبيعى وبنصوص القانون العادى ومن هنا كان رفضهم للقوانين والمحاكم الاستثائية كعائق امام تحقيق العدالة ، كما كان حرصهم على ألا يرأس مجالس القضاء ، لا وزير العدل ولا رئيس الجمهورية .

وينتمى المستشار البسطويسى إلى جيل عظيم من القضاة من رموزه المستشار يحيى الرفاعى رئيس نادى القضاة، لعدة دورات، ونائب رئيس محكمة النقض، والذى ينسب اليه ما تسمى “بالطريقة الرفاعية” التى جسدتها الأجيال الجديدة من قضاة الاستقلال.

وفى حديثه امام مؤتمر العدالة عام 86 وفى حضور الرئيس مبارك ، وكان مدد قبلها بيوم الحكم بالطواريء، حتى يجهض مطالب الغاء الحكم بالطوارئ، خاطبه بأنه وقد مد الحكم بالطوارئ وكنا نتمنى ألا تفعل، فنامل أن تطبق فى أضيق الحدود وفى المجالات التى شرعت من أجلها دون غيرها وألا تكون غطاء لتعسف السلطات.

فأى كرامة وأى شموخ !

للدلالة على هذه الأجيال العظيمة من القضاة أذكر أنه مع تكرار تصريحات زكى بدر وزير الداخلية الأسبق ومطالبته الضباط علنا “اضرب فى المليان” “عاوزهم جثث” عقدت الجمعية العمومية لمستشارى النقض اجتماعا طارئا وبحثت مذكرة تندد بتصريحات وزير الداخلية الذى انتحل لنفسه صفة القضاء بإصدار الأحكام وطريقة تنفيذها بالضرب فى المليان وتغول سلطته على كل السلطات ثم التباهى بنشر جثث ضحاياه على صفحات الجرائد.

وكانت هذه المذكرة بنصها ما نشيت انفردت به الأهالي، وكنت وقتها محررها القضائى، وحققت معى نيابة أمن الدولة ببلاغات من زكى بدر والمستشار أحمد شوقى المليجى رئيس محكمة النقض وقتها، بتهمة الخبر الكاذب وتهديد السلم وتأليب السلطات والإضرار بالأمن وما شابه.. والمهم فى هذا السياق اننى وانا أعلم أن الخبر صحيح لجأت للمستشار يحيى الرفاعى فنصحنى بطلب شهادة أعضاء الجمعية العمومية للنقض، وقال أنهم لن يكتموا الشهادة! أى انه وهو نائب رئيس النقض والمستشارين زملائه سيشهدون معى ضد رئيسهم رئيس النقض، وضد وزير الداخلية .

وطوال التحقيق الذى أشرف عليه المستشار عبد المجيد محمود أصررت على طلب شهادة القضاة فتم حفظ التحقيق وتم انصرافى من سراى النيابة .. وللحديث عن هذا الجيل العظيم بقية .. ولروح المستشار البسطويسى ومن قضى منهم السلام وللاحياء العمر الطويل وكل المحبة والاحترام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *