محمد عيسى يكتب: هي نور في كل مكان (2)

ومثلما أتاحت صداقتي بنور بأن أتعرف على آرائها بشأن ثورات الربيع العربي وتداعياتها، أتاحت ليّ أيضاً أن أتعرف على الجانب الإنساني لنور، وعلى المعاناة التي تعرضت لها نور خلال فترة إقامتها في مصر، وما تعرضت له أيضاً في حياتها، وكان له آثراً بيّن في تشكيل وجدانها، الذي ولدت من رحمه آرائها بل وفلسفتها ونظرتها للعالم، فرغم أن نور كانت معتزة بأخوتها أعتزازاً حقيقياً لا مراء فيه، إلا أنه كان هناك هوة بينها وبينهم، دفعتها أن تفاجئني وترد عليّ في إحدى المرات التي كنت أحاول فيها أن أواسيها في غربتها قائلاً لها “أعتبريني زي أخوكي” بأنني صديقها فحسب لا أخيها، وحين لاحظت امتقاع وجهي بفعل الكبسة والدهشة، واستني قائلة ليّ بأنه لا يوجد صداقة بين الأخ وأخته، وأنها لو اعتبرتني مثل أخيها بالفعل لن تحدثني مرة أخرى عن أي شئ متعلق بحياتها الشخصية، أي أن صداقتنا القائمة على الصراحة والشفافية ستتصدَع دون أدنى شك.

وحين رأتني نورفاغر الفم، وعلامات الدهشة التي أمتزجت بعلامات الاستفهام مازالت على وجهي، تابعت حديثها محاولة أن توضح ليّ ما تعنيه بكلامها قائلة ليّ ” شوف محمد أنت دلوقتي عندك أخوات بنات.. الله يحفظهم.. هل مثلاً ممكن واحدة فيهم تيجي تحكي معك عن شاب بيحبها وبتحبه”، لا أخفي عليك أن أول ما انتهت نور من توجيه هذا السؤال ليّ، تأكدتُ وقتها أنني مهما أدعيت أني مؤمن بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فإن هذا المجتمع نضح عليّ بأفكاره الذكورية، وأعتقد أن هذا تجلى لها هي أيضاً حين رددت عليها مرتبكاً “هي تيجي تكلمني في حاجة زي كده ليه”، قبل أن أستدرك الخطأ الذي وقعت فيه الذي لا يستقيم بالمرة مع قناعاتي، وأحاول أن أغالب أفكاري الذكورية وأتحلى بالشجاعة اللازمة وأقول لها ” عادي يعني…هي مش بني آدمة زي زيها وعندها قلب ووارد أنها تحب أي حد.. زي ما أنا وارد إني أقع في غرام أي بنت”.

يبدو أن الطريقة التي أستدركت بها كلامي حينذاك أوحت لنورأني متردد ومحرج مما أقوله، فأجهزت على ما تبقى لدي من مقاومة لكي أظهر أمامها بمظهرالتقدمي المتفتح قائلة ليّ “ومادام يا محمد فخوربأفكارك كده.. ليش صوتك واطي ومحرج وأنت بتتكلم.. أنت مكسوف أن حد من أصحابك الولاد يسمعك وأنت بتقول حاجة زي كده فيقول ليك أن ماعندك نخوة”.

لن أكابر وأحاول أن أقنعك بأني تقبلت تهكمها عليّ برحابة صدر، لأني وقتها غضبت منها كما لم أغضب من قبل، بل وكبحت رداً حاداً كنت على وشك أن أطلقه في وجهها، وما ساعدني في كتم غضبي، هو أنني كنت أعلم في قرارة نفسي أن نور لم تخطئ فيما قالته، لأنني لم أكن وقتها عندي من الشجاعة أن أفصح عن هذه الأفكارعلى الملأ، بل أن مثل هذه المسائل حينما كانت تطرأ على ذهني قبل معرفتي بنور، كانت دائماً ما تُعيد إشعال صراع يدور داخلي ما بين الأفكار الذكورية التي ألتقطها من المجتمع الذي أحيا في كنفه، وبين مبادئ المساواة التي أسعى جاهداً أن أطبقها على الأقل في الدائرة المحيطة بيّ، ولكن ما لا تعرفه نور وما أريد أن أقوله لها الآن أنني أصبحتُ عندي من الشجاعة أن أفصح عن هذه القناعات في كل وقت وحين، لأنني بتُ مؤمن بها الآن أكثر من أي وقت مضى، بل أنني مُستعد أن أقف مدافعاً عنها وأتحمل مغبة التعبيرعنها.

لا أعتقد بعد الذي حكيته لك عن نورأنك ستستغرب كثيراً عندما أقول لك أن آثار البيئة المفعمة بالأفكارالرجعية التي نشأت نور في رحابها، لم تقتصر فقط على طبيعة علاقاتها بأخوتها، وذلك لأن الأمر للأسف الشديد أمتد إلى حياة نورالدراسية، التي لم يشفع لها نبوغها وتفوقها الدراسي لكي تستكمل دراساتها الجامعية، فالأفكارالرجعية التي خلقت هوة بينها وبين أخوتها هي نفسها التي جعلت أسرتها تختزل دورها كفتاة في الزواج والإنجاب فقط، وكان هذا هو السبب الذي جعل نور تتخلف أكثرمن عام عن البدء في دراستها الجامعية، لولا الثورة السورية التي أستحالت إلى حرب أهلية أجبرت نورعلى النزوح مع والدها إلى مصر، فقررت بعد أن أستقر بها المقام أن تتمرد وتُحيي حلمها القديم وتلتحق بالجامعة رغماً عن أنوف جميع أفراد عائلتها، وبرغم كل الظروف المضنية التي تكبدتها بتجلد وصبر منقطع النظيرفي سبيل إحياء حلم كانت تظن طيلة الوقت أنه حلم بعيد المنال.8m

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *