محمد حليم يكتب: أن تكون مصرياً في عصر النيوليبرالية

بكل مرة أكتب أضع جزءا من روحي فيما أكتب، بتلك المرة أكتب عن روحي بلا مواراة، عن قلقي العميق كبرجوازي صغير كافحت لأحقق بعض الطوح المادي –على قلته- مستلهما رحلة صعود تقليدية لابناء الطبقات الوسطى، موظف ابن موظفين يعتبرون الوظيفة هي الفرصة الوحيدة المتاحة أمامنا للترقي الطبقي. أعتبر نفسي محظوظاً كوني أحد ابناء جيل التسعينات الذي أتاحت له ثورة الانترنت الولوج لعالم الفرص في التعليم والعمل، قافزين على اعتبارات المكانة الاجتماعية وضعف شبكة علاقات ذوينا، الأمر الذي كان سيحول –دون شك- على حصولنا على فرصة ما في تعليم جيد أو وظيفة مرموقة، ففي مجتمع مغلق كالمجتمع المصري، يصعب على أمثالنا دخول كليات معينة كونها مقصورة على أصحاب النفوذ، أو لاعتبارات الثروة التي”تفلتر/filter out” المتقدمين إليها.

دخلنا مرحلة الشباب بحلم جميل “ثورة 25 يناير” بآماله العريضة في وطن عادل وحر، يحفظ كرامة ابناءه، واستيقظنا على كابوس مر وواقع آخذ في التداعي. دخلنا عالم الثورة متحدين بفضل العالم الافتراضي الذي خلقته مواقع التواصل الاجتماعي، محاولين التعرف على ذواتنا وعلى العالم من حولنا، لم نخجل من استعراض همومنا وقد اضحت هما واحدا، تمثل في تحرير وطننا وكيفية تقدمه؛ واليوم صارت تلك المواقع ذاتها بعوالمها المفترضة هماً آخر يعمق جرحنا القديم-الجديد، جرح التفاوت الاجتماعي الذي صار أشرس وأكثر عدوانية فيما قبل عوالم الانستجرام والتيك توك ، فقديماً كان الفقر عيباً، واليوم صار عدم الغنى عيباً، فكونك إنسان “طبيعي” يعني بداهةً إنك إنسان فاشل!

في هذا المقال أآمل أن أجيب عن سؤال كيف وصلنا إلى تصورات هكذا؟

سرديات المكانة والوصم

في كتاب “قلق السعي للمكانة” يقدم لنا “آلان بوتون” عرضاً تاريخيا لتغير سرديات المكانة الاجتماعية عبر التاريخ، حيث قسم تاريخ البشر إلى مرحلتين أساسيتين:

المرحلة الأولى) من العصور الوسطى إلى سقوط الاتحاد السوفيتي

حيث سادت ثلاث سرديات كبرى كانت بمثابة حقائق حاكمة لوعي المجتمعات:

السردية الأولى: الفقراء غير مسؤولين عن ظروفهم وهم الأشد نفعاً للمجتمع

فالاعتقاد الذي ساد بالعصور الوسطى أن الله هو من قسم الناس إلى فقراء وأغنياء، فهناك طبقة النبلاء ورجال الدين وهناك طبقة الفلاحين، وبجانب هذا الاعتقاد ساد إيمان قوي بأهمية الاعتماد المتبادل لتلك الطبقات، بل وساد تقدير عميق لقيمة الطبقة الأفقر، التي بدونها لن يجد النبلاء ورجال الدين ما يأكلونه، فصحيح أن طبقة الفلاحين كتب عليها الشقاء وهو مصير لا مفر منه، لكن لولاهم لتداعى المجتمع.

السردية الثانية: ليس للمكانة الاجتماعية دلالة أخلاقية

فقد أوضحت “المسيحية” أن الثراء والفقر ليس معياراً للصلاح الأخلاقي، فقد كان يسوع أسمى البشر ومع ذلك كان رجلاً فقيراً، بل أن المسيحية حبذت الفقر،فوفقاً للتعاليم التي سادت بالعصور الوسطى يكمن كل الخير في الاعتماد على الله، وينطلق كل شر من تصور أن الانسان بإمكانه أن يحيا هانئاً دون الاعتماد على الله، لذلك كان الاعتقاد بأن الثروة لابد أن تبعد العبد عن الله وأن الفقر بما يحمله من مصاعب يجعله يتوجه إلى الرب طلباً للعون.

السردية الثالثة: الأغنياء فاسدون اكتسبوا ثرواتهم بالسرقة

سادت تلك الرؤية مع تطور العلوم الاجتماعية وبلغت ذروتها ما بين عامي 1754 مع ظهور كتاب “مقال في أصل اللامساواة” لجان جاك روسو، حتى عام 1989 مع سقوط الاتحاد السوفيتي أول تجربة انسانية حملت أفكار العدالة والمساواة بين البشر إلى أرض الواقع ؛ حيث أرخ “روسو” لظهور اللامساواة بخطيئة أول شخص سيج قطعة أرض وقال تلك ملكي، ووجود أشخاص بسطاء بما يكفي لتصديقه، فكم من جرائم وحروب وسفك دماء، وكم من تعاسات وأهوال كان يمكن للجنس البشري أن يتجنبها لو أن شخص ما أقتلع هذا السياج الأول أو ردم تلك القناة الفاصلة، وصاح برفاقه من البشر:

” ملكاً لا تستمعوا إلى هذا المحتال، إنكم تحكمون على أنفسكم بالضياع اذا نسيتم أن ثمار تلك الأرض من حق الجميع، وأن الأرض ليس لأحد”.

ثم جاء “ماركس” بعد مائة عام ليستأنف صيحة “روسو” الخالدة، ويصيغها في سبيكة علمية محكمة، حيث أوضح أن النظام الرأسمالي يتضمن آلية استغلال دائمة، فأصحاب الأعمال يشغلون العمال مقابل أجر أقل مما يستحقونه ويضعون الفارق في جيوبهم بإعتباره ربحاً، وبذلك ينقسم المجتمع الرأسمالي إلى طبقة دنيا من العمال المستغلين وطبقة عليا من الرأسماليين يزدادون ثراءاً على حساب العمال.

المرحلة التاريخية الثانية) الطريق إلى النيوليبرالية

لم يعد الأغنياء موافقون على الاكتفاء بالتميز المادي، بل أرادوا الاستئثار بالمكانة الأدبية فسادت ثلاث سرديات آخرى مختلفة للحط من مكانة الفقراء.

السردية الأولى: الاغنياء مفيدون وليس الفقراء

أكد الاقتصاد التقليدي على أن الطبقات العاملة هي صانعة الثروة، تلك الثروة التي يبددها الأثرياء بأسرافهم على الملذات، وقد استمرت تلك النظرة حتى عام 1723 عندما قام “برنارد ماندفيل” بنشر كتابه “حكاية النحل، شرور خاصة ومنافع عامة”، حيث زعم الكاتب أن الأغنياء هم من يقدمون المساهمة الأكبر في المجتمع لأن انفاقهم يوفرعملاً لكل شخص أدنى منهم وبالتالي يساعدون الأضعف على الاستمرار بالعيش، لا يحدثنا الكاتب هنا عن طيبة الأغنياء ورفقهم بالفقراء، بل أنه أشار إلى أي مدى يتصف الأغنياء بالغرور والقسوة والطمع مع ذلك فهم بسعيهم وراء الثروة هم أفضل من العامل الطيب المخلص في عمله ولكنه غير مجزي مادياً، باختصار أراد “ماندفيل” أن يقول: “أنه من أجل الحكم على قيمة إنسان، ليس علينا أن ننظر إلى روحه –كما كانت تقول المسيحية- بل إلى تأثيره على الآخرين.

وفي عام 1752 كرر “هيوم” في مقاله عن الرفاهية حجة “ماندفيل” منحازاً إلى الأغنياء وانفاقهم على سلع تزيد عن حجاتهم مؤكداً أن مبادرات الاثرياء هي ما أنتج ثروة المجتمع وليس العمل اليدوي للفقراء.

بعد سبع سنوات تبنى “آدم سميث” رأي “هيوم” في كتابه “نظرية العواطف الأخلاقية”، حيث قال: ” على الرغم من أنانية الاثرياء وجشعهم، ورغم أن الهدف الأوحد الذي يرتأونه من وراء جهود آلاف الأشخاص الذين يوظفوهم هو إشباع رغبتهم النهمة في التميز، إلا أنهم يتقاسمون مع الفقراء مهمة إنتاج كل إصلاحاتهم، إنهم مقادون بيد خفية لتقديم الحصة ذاته امن ضرورات الحياة، وإنهم من دوم أن يقصدوا ذلك أو يعرفوه فهم يعملون لصالح المجتمع ويمهدون الوسائل لحياة وتكاثر ابناءه”.

السردية الثانية: للمكانة دلالات أخلاقية

بدءا من القرن 19 نشأ ايمان بوجود صلة بين النجاح المادي وبين السمات الشخصية للاثرياء، فصار ثراء الفرد أو وصوله إلى وظيفة مرموقه دليل على ذكاءه، فبدا الأمر بأن الأثرياء ليسوا فقط أوفر حظاً من المال، بل أنهم كأشخاص صاروا أفضل من غيرهم.

وعلى مستوى الدين ذهبت الطوائف البروستانتية الأمريكية إلى افتراض أن حيازة الثروة في الدنيا دليل على صلاح المرء.

السردية الثالثة: الفقراء آثمون وغبائهم هو سبب فقرهم

خلال القرن ال20 ساد تصور بالغرب بأن من تدهسه الحياة، يجب ألا يلقي باللوم إلا على افتقاره القدرة والذكاء، حيث تغيرت النظرة إلى الفقراء من كونهم مساكين أو أقل حظاً، إلى توصيفهم كفاشلين. لعل فلسلفة الدروانية الاجتماعية هي التعبير الأبرز لتلك النظرة، حيث تفترض أن جميع الناس بدأوا حياتهم بخوض معركة نزيهة على الموارد المحدودة كالمال والوظائف، فكان للأثرياء اليد العليا ليس لأانهم الأوفر حظاً بل لأنهم بالفطرة أفضل من خصومهم وهكذا حكمت مسبقا البيولوجيا لصالح هؤلاء فمنحتهم دور النمور في أدغال الانسانية ففاقوا الآخرين، بل أن المجتمع ككل ينتفع بمعاناة الفقراء وموتهم في نهاية المطاف، وبالتالي لا يجب على الحكومة ان تتدخل لانقاذهم تحت أي ظرف، فالفقراء الضعاف هم أخطاء الطبيعة ولابد أن يتركوا للفناء.

مآساة أن تكون مصرياً في عصر النيوليبرالية “تحوش قيم السوق”

غزت تلك الثقافة المفترسة المجال العام في مصر مبكراً، حيث كنا أول القافزين من مركب السوفيت عام 1974، وانقلابنا على أفكار العدالة الاجتماعية والاستقلال تجاه الغرب الاستعماري، الى غيرها من الشعارات والقيم التي سادت بالمرحلة الناصرية، بل وتحولنا إلى النقيض فصارت “الفلوس” هي معيار النجاح، وأصبحت قيم القناعة والاخلاص لمبدأ ما مجرد حجج يستخدمها الفشلة لتبرير فشلهم في عدم مواكباتهم للعصر الجديد الذي حمل حلم الثراء السريع، لينتهي الحلم سريعاً وتتبخر وعود الانفتاح الاقتصادي، ونفيق على أزمة اقتصادية طاحنة عام 1989 كادت أن تؤدي بنا إلى الافلاس، إلى أن آتى الحل مع الغزاة الامريكان بمؤسساتهم الدولية وبرامج “اصلاحهم” الاقتصادي، فانتقلنا الى أزمة اقتصادية/اجتماعية طويلة، رافقت أزمة وقوعنا في قبضة نظام سياسي شمولي عديم الكفاءة. لنجد أنفسنا محاصرين بين هوية غربية تشعرنا بالاستحقاق في حياة أفضل معيارها الاستهلاك أكثر، وبين واقع اقتصادي شديد التردي نكافح فيه البطالة والتضخم والديون والتفاوت في توزيع الثروة والدخل القوميين، تأمل أخي القاريء الأرقام التالية لتعلم في أي مجتمع نعيش:

ارتفعت ثروة البلاد القومية من 525 مليار دولار في عام 2010، إلى 1405 مليار دولار في عام 2021، أي أنها تضاعفت 3 مرات تقريباً.

بلغ عدد المصريين البالغين بعام 2021 عدد 61 مليون مواطن، يمتلك منهم 1.% (واحد من عشرة في المائة) فقط يملكون ثروة تتخطى المليون دولار “16 مليون جنيه وفقا لسعر الصرف وقتها”، أي أن 99.9% من الشعب المصري يملك ثروة أقل من مليون دولار، جاء تصنيفهم كالتالي:

60% منهم يملكون ثروة أقل من 10 آلاف دولار “160 ألف جنيه وقتها”.

39.9% يملكون ثروة أكبر من 10 آلاف دولار، حيث يرجع سبب تجاوزهم لهذا الرقم ملكيتهم لشقة سكنية أو قطعة أرض زراعية تتجاوز هذا الحد، معنى ذلك انك لو كنت تمتلك شقة سكنية في منطقة شعبية بها ما بها من مشاكل الصرف الصحي وتكسر الشوارع وسيادة قيم البلطجة وأوكار المخدرات، فهنيئاً لك أنت محظوظ لكونك أحد أفراد شريحة 39.9% الأكثر ثراءا في البلاد! ويمكن اعتبارك من الطبقة الوسطى بمجتمعنا المصري السعيد!

وبالعودة إلى فئة 0.01% من الشعب المصري (60 ألف شخص) فإنهم ينقسمون إلى:

17 ألف فرد يمتلكون 73.3% من الثروة في مصر.

43 ألف فرد يمتلكون 26.7% من الثروة في مصر.

وبعد كل ذلك يخرج علينا أصحاب “سبوبة” التنمية البشرية ليخبروك أنك تستطيع وانك المسؤول الوحيد عن بؤسك الشخصي، وفي الجانب الآخر نطالع مشاهير ال “social media” وهم يعيشون حياة هانئة في كومبونداتهم وسياراتهم موديل السنة لينصحونا من شفاه نفخها البوتكس وبابتسامة باردة من وجوه افسدتها عمليات الشد والتكبير والتصغير: “لازم تعيشوا ومتسبيوش الهم يفسد عليكم حياتكم، لأنكم هتعيشوا مرة واحدة”.

One thought on “محمد حليم يكتب: أن تكون مصرياً في عصر النيوليبرالية

  • 21 أبريل، 2024 at 9:49 ص
    Permalink

    الله ينور عليك يا صاحبي مقال أكثر من رائع وربنا يوفقك دايما

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *