مجلة التحالف| مشكلة الكهرباء كاشفة.. قرارات الترشيد غير مبصرة وسياسات متسرعة في إنتاج الغاز وظروف مناخية لم توضع في الحسبان

بقلم / د. محمد نعمان نوفل

في تقديري حتى تعرف حجم مشكلة تؤثر على حياة الشعب المصري ما علينا سوى رصد كم السخرية المتدفق كالسيل، سوف نعرف الكثير عن حجم المشكلة وردود أفعالها ورأي الناس في السياسات التي أدت إليها.

مشكلة انقطاع التيار الكهربي في أشهر القيظ جنت كم من السخرية غير مسبوق، أوقع صناع السياسات في حيرة كشأنهم دائما للبحث عن شماعة يعلقون عليها مظاهر الفشل حتى أسعفهم تصريح سكرتير عام الأمم المتحدة الذي قال أن البشرية قد دخلت إلى عصر الغليان الكوني. “تاهت ولقيناها”، أمسك بها رئيس الوزراء وكرر التصريح للتأكيد على أننا نعيش حالة قيظ عالمي غير مسبوق. إذن المسئول تغير المناخ وهو مشكلة عالمية ليس لنا يد فيها، واعترف بها سكرتير عام الأمم المتحدة.

غير أن رئيس الورزاء ومن معه لم يتذكروا للحظة أنهم عقدوا في الخريف الماضي مؤتمر قمة المناخ السابع والعشرين والذي حذر في البيان الختامي الذي شاركوا في كتابته، وقرأوه وزير الخارجية المصري بصفته رئيس المؤتمر من أن الأعوام القادمة أي بدأ من هذا العام سوف يشهد الكوكب موجات ارتفاع كبيرة في درجات الحرارة. وفي التفاصيل ومنذ عام 2006 تم التحذير من المستويات المتوقعة لارتفاع درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا إذ تم التشديد على ذلك في التقرير العالمي لاقتصاديات تغير المناخ المعروف “بتقرير ستيرن” على أن الارتفاع في درجات الحرارة في  المناطق المذكورة في فصل الصيف سوف تصل إلى مستويات تسبب الوفاة. وفي ظني، لو لدينا في مصر نظام مناسب وعلمي لتحديد أسباب الوفيات لتأكدنا من حدوث هذه الظاهرة على أرض مصر. غاب كل هذا عن رشاد متخذي القرار، ولم يكتشفوا ضالتهم إلا في تصريح سكرتير عام الأمم المتحدة.

بعيدا عن كارثة التغير المناخي، هناك حقيقة أخرى يعرفها جيدا رجال الأرصاد الجوية في مصر ويحذرون منها كل عام وهو منخفض الهند الموسمي الذي يصل إلى مصر في شهر يوليو من كل عام مسببا ارتفاعا ملحوظا في درجات الحرارة والرطوبة معا.

غير أن متخذي القرار الذين قرروا في وقت مبكر من العام التعاقد على بيع كميات من الغاز الطبيعي لدعم حصيلة العملة الأجنبية فيما سماه رئيس الوزراء في تصريحاته في شهر يونيو بترشيد استهلاك الغاز الطبيعي في محطات توليد الكهرباء، نسوا تماما أن البلاد مقبلة على مشكلة مناخية مزدوجة تتمثل في آثار تغير المناخ والأثر الموسمي لمنخفض الهند. وبذلك أنكشف جانب هام من جوانب اتخاذ القرار وهو عدم قراءة الواقع حتى يمكن التحسب لتداعيات قرار ترشيد كهذا والذي عاد رئيس الوزراء لنفية يوم 29 يوليو، رغم انه قد تأكد من قبل منه شخصيا ومن وزير الكهرباء نفسه.

جانب آخر من المشكلة تكشفه بوضوح مجلة ميس mees المختصة بأخبار النفط والغاز في عدد 14 أبريل 2023 حيث تؤكد على انخفاض إنتاج حقل “ظهر” لأنتاج الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط والذي وصفته السلطات المصرية بأنه صمام الأمان لإنتاج الغاز في مصر، وهو كذلك بالفعل لأن الحقل وحده ينتج 39% من جملة إنتاج الغاز في مصر ويتكون الحقل في ظل التوسعات الحالية من 19 بئرا.

ترصد مجلة ميس بناء على المعلومات الواردة إليها من شركة إيني الإيطالية الشريك الأجنبي في الحقل والذي يحصل على 90% من الإنتاج!!  أن الحقل يعاني من مشكلات في الإنتاج ترتب عليها إنخفاض إنتاجه الأسمي (المستهدف) من 3.2 مليار قدم مكعب/ يوم في مارس 2021 إلى 2.1 مليار قدم مكعب/ يوم في أبريل 2023 أي أن نسبة الانخفاض عن الإنتاج الأسمي تبلغ حوالي 35%. غير أن مجلة ميس تعود لتوضح مستوى آخر للإنتاج الفعلي المتحقق في سبتمبر 2021 وهو 2.6 مليار قدم مكعب/ يوم فتكون نسبة الانخفاض الفعلي ما بين سبتمبر 2021، وإبريل 2023 حوالي 20% من الإنتاج.

تعزي شركة إيني هذا التدهور في إنتاج الحقل إلى الرغبة الشديدة للحكومة المصرية في زيادة الإنتاج بسرعة وتحقيق هدف 3.2 مليار قدم مكعب/ يوم، مما أدى إلى تسرب المياه إلى بعض الآبار فتراجع إنتاجها أو توقفت عن الإنتاج. تعرف مثل هذه الحالات في إنتاج النفط والغاز بعملية تجاوز المعدلات الفنية للإنتاج إما بسبب نقص الخبرة في إدارة الآبار أو الرغبة الملحة لمتخذي القرار في زيادة مستويات الإنتاج لمواجهة الاحتياجات المالية، فتقع مثل هذه الكوارث.

ترى شركة إيني أن المستوى المتدهور لإنتاج أبريل 2023 ليس مستداما وتتوقع أن ترفع الإنتاج إلى 2.4 مليار أو 2.5 مليار قدم مكعب/ يوم، وهذا لن يحدث بالطبع إلا بحفر آبار جديدة بتكلفة مالية إضافية.

إذن مشكلة حقل ظهر أضيفت إلى باقي المشكلات وقد تمثلت في نقص الغاز الطبيعي المتاح لمحطات توليد الكهرباء بعجز يقدر بحوالي 20%. على أي حال مشكلة حقل ظهر ليست الأولى في مجال إنتاج الغاز فقد سبق حقل دمياط إلى نفس الخطأ في الإدارة وتسبب في تدهور الإنتاج وتدفق المياه في بعض الآبار، وكأن من يديرون الإنتاج لا يتعلمون من الأخطاء.

الطاقة الكهربية لمحطات توليد الكهرباء العملاقة والتي تكلفت مليارات الدولارات تبلغ 37 جيجا وات/ ساعة. أنتاج الكهرباء لابد من استهلاكه أو توزيعة لمن يستهلكه لأن هذا المنتج ( نظريا يمكن تخزينه) ولكن تكلفة التخزين هائلة وغير اقتصادية لذا جرى العرف على القول بأن الكهرباء لا تخزن. لذلك نقول أن إنتاج المحطات الجديدة نظريا هو 37 جيجا وات/ ساعة ولكنه في الواقع ليس كذلك. المحطات كبنية أساسية تملك هذه المقدرة على الإنتاج، وهي جاهزة أيضا لإنتاجه. لكن تحويل هذه القدرة النظرية إلى إنتاج فعلي يحتاج إلى الكميات المناسبة من الغاز الطبيعي لتشغيل المحطات حتى يمكننا الحصول على طاقتها الكهربية، وهذا غير متاح إلا بنسب أقل (لا نعرف بالتحديد) والمتاح من الغاز بعد “عمليات الترشيد” الدولارية ونقص الغاز المتوافر من مصادر الإنتاج المصري أسفر عنهما المشكلة الحالية لنقص التيار الكهربي في البلاد.

يؤكد وزير الكهرباء على حجم الطاقة الكهربية التي يمكن للمحطات إنتاجها، وهذا صحيح تماما، ولكن الوقود الكافي لهذا الإنتاج غير متوافر. ما لدينا طاقة نظرية وما نستهلكه هو الطاقة الفعلية.

قرارات الترشيد غير المبصرة، وتدهور إنتاج الغاز بسبب سياسات الإنتاج المتسرعة في ظل ظروف مناخية لم توضع في الحسبان صنع هذه المشكلة الكاشفة التي كشفت كيفية تقرير السياسات العامة بعيدا عما يقوله العلم من ناحية، وبعيدا عن القيود الفنية الضرورية لضمان سلامة الآبار من ناحية أخرى، ويبقى تصريح سكرتير عام الأمم المتحدة شماعة مناسبة لتعليق الأخطاء عليها. وحتى هذا التصريح غير كاف للتبرير لأن علماء المناخ وصفوه بأنه مبالغ فيه، وأن الخطر المناخي الحقيقي في منطقتنا وهو خطر مذكور ومحدد منذ عام 2006 في تقرير ستيرن وهو ضمن وثائق قمم المناخ منذ ذلك الوقت، أي من المفترض أنه مر على منظمي مؤتمر الخريف الماضي في شرم الشيخ.

🛑 “تنويه: ينشر موقع درب الإخباري ملفات ومقالات العدد الخامس من مجلة التحالف”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *