كارم يحيى يكتب : يا “ياميش” سجونا ياحلوة

طالما نصحت نفسي وكصحفي بالكتابة من الميدان وبين الناس. وليس من فوق مكتب في غرفة مكيفة. وأظنني فعلت في السنوات المعدودة التي أتيح لي نشر مقالات برأيي في “الأهرام”. وسأظل، و كلما استطعت إلي هذه الكتابة سبيلا .
واليوم أكتب من أمام سجن مزرعة طرة المطل على طريق”الأوتوستراد” ومن خلفه الصحراء . وهذا بعدما كتبت من أمام سجن طرة الاستقبال والليمان المطل من جانبه المحجوب عن زوار معتقله وسجنائه على النيل . وكنت قد نشرت ما كتبت تحت عنوان ” ممنوع دخول العنب” في 14 أغسطس 2019 ، وذلك على صفحات جريدة ” للمشهد” القاهرية وموقعها الإلكتروني.
وقبل أيام، ذهبت إلى جحيم آخر في انتظار أهالى المحبوسين من أهل الفكر والرأي والسياسة وغيرهم . رحلة تبدأ في الصباح الباكر بتسجيل بيانات الزوار، وما يفيد بأنهم من أقارب الدرجة الأولى. وقد تنتهى بعد الثالثة عصرا، لتبدأ رحلات العودة. وكل هذا التعب وما يصحبه من تكاليف طبلية الطعام و انتقال بعضها من خارج القاهرة من أجل رؤية في حضرة ضابط الأمن الوطني لا تستغرق أكثر من 20 دقيقة. وهذه الدقائق ” الثمينة” على هذا النحو عددا مقتضى التعليمات الرسمية. لكنها قد تنخفض إلى 10 دقائق ليس إلا بحكم تعليمات أو أهواء مزاجية.
بوابة دخول الزوار تقع في أسفل حائط ممتد كثرت عليه مؤخرا لافتات تغيير المصطلحات الجديدة. وعلى هذا النحو : “نزلاء” بدلا من “محبوسين وسجناء”، و” مصلحة التأهيل والإصلاح ” بدلا من ” مصلحة السجون”. وهكذا حالنا مع اللغة برعاية مجلس النواب الذي كان رئيسه السابق لا يجد نطق جملة عربية واحدة دون أن يكسرها ويهينها.
بقعة الانتظار تختلف عما كان وعاينت مرارا أمام سجن الاستقبال والليمان الأقرب قطعا من خط مترو القاهرة ومحطة طرة البلد. هنا يتجشم الزائر مزيدا من تعب وتكاليف الانتقال العسير، و حتى ولو كان قادما من القاهرة وعلى مقربة من خطوط المترو.
ولا تختلف بقعة الأنتظار بأنها أكثر بؤسا من تلك القريبة من محطة المترو ونسمات نيل مصر العظيم. بل هناك أسباب أخرى أكثر جوهرية وإيلاما للزائرات والزائرين، بما في ذلك الأطفال. هنا الصحراء تعلن عن نفسها بدون خداع أو تغيير في المصطلحات والألفاظ . هنا الصحراء حيث لا ماء ولا أكشاك تبيعه ولا باعة فاكهة ولا مقاهي ولا أي متاجر أو مساكن تفتح أبوابها على مقربة. حقا إنها الصحراء القاحلة وعذابها . والأسوأ أيضا أنه لا دورات مياه رجالي أو حريمي، أو على أي نحو كان.
بقعة الانتظار القائمة في مواجهة ما تغير من عناوين للمراوغة والمخاتلة ـ بعدما بيعت ” لمجهولين إلى اليوم” أرض سجن الليمان والاستقبال المطلة على النيل العظيم ـ أمامها نقطتان للجلوس أو الوقوف. ومجبر أخاك لا بطل.
الأولى الأقرب لا تتسع لبضع عشرات ليس إلا . وهكذا وعندما يزيد عدد الزوار في المناسبات تجد العشرات وقوفا حولها في انتظار سماع المناداة على ” اسم الحبيب” الذين ينتظرون رؤيته.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد. ولأن الحكومة تحب الشعب والشعب يحبها على طريقة عبد الحليم حافظ :” حبك نار” ، فالأرائك الخشبية غير المريحة للظهر أبدا تجعل من المستحيل لشخصين أن يجلسا متقابلين . ببساطة لقد جرى تصميم شغلها أسفل حيز الظل الضئيل جدا بحيث لا تبعد مساحة الأريكة منها أمام الأخرى أكثر من 20 أو 15 سنتميترا.
.. وفعلا “حبك نار”.
وإذا كنت غير محظوظ وتعذر السماح بدخولك لزيارة ” الحبيب”، واضطرك مزاج إدارة “التأهيل والإصلاح” لانتظار من ناله الحظ من أهليته أيضا، فستفاجأ بين حين وآخر بنداءات خشنة آمرة مع حملات تفتيش لإبعادك إلى نقطة الظل المراوغ الثانية على مبعدة وحيث لا تسمع ولا يمكنك أن ترى إلا بصعوبة . وإذا حاولت بينك وبين نفسك أن تجد تفسيرا لهذه الحملات الهسترية لن تجد إلا الرغبة في أن تبلغك الحكومة أنها هنا ، وعلى طريقة “حبك نار”.
رحلة زيارة الثلث ساعة رسميا ـ وليس دائما فعليا ـ قد تستغرق بعد نعمة قبول الدخول عبر البوابة والسور مابين الساعتين والثلاث ساعات. وهنا في مصر الصحراوية سيكون على الزائرة أو الزائر الخضوع للتفتيش مرتين. لا مرة واحدة كما كان في مصر النيلية. وليغفر لنا عالمنا الجليل الدكتور جمال حمدان رحمه الله.
يجرى التفتيش الأول بعد الدخول من السور الخارجي. أما التفتيش الثاني فيجري أمام واحد من ثلاثة سجون ( آسف إصلاحيات مبجلات رائعات). وبين هذا وذاك انتظار محترم مبجل لركوب “جرار” ينقل الزوار يطلقون عليه للدلال ” طف طف”. وكأننا في سنوات هناء الموظفين متوسطي الحال مع مصيف رأس البر رحمها الله.
ولأن ” المنع ” تماما كـ “حجب” المواقع الصحفية سياسة معتمدة راسخة، وإن لم يجدوا للحجب بعد لها مصطلحات مخاتلة يناقشها ويصكها البرلمان في قرارات مع بدل الجلسات المتعددة، فإن السؤال الذي طالما سمعته في استقبال خروج أي زائرة أو زائر ولو اصطحب أطفالا اضناهم الانتظار والانتقال دائما هو :” منعوا إيه؟”.
ولأنني كنت هناك ومعهم قبل هلال رمضان مباشرة، فقد لفت نظري أن كل الإجابات كانت تتضمن كلمة ” الياميش”. ولما استفسرت علمت أن “كانتين” السجون هناك عنده الياميش. ولقد قيل للأهالى الزوار بكل أدب وبكل خشونة أيضا، مع العلم طبعا بأن الأسعار خارج السور غير داخله :
ـ ” الياميش يرجع .. يشتروا ياميش من عندنا”.
ولا أعرف لماذا حينها تذكرت أكشاك بيع السلع إياها المنتشرة في ميادين مصر وربوعها تبيع باسم الشرطة والجيش وعلى طريقة حرية السوق .. و بكل أدب .
ولا أدري لماذا وأنا في طريق العودة تذكرت أغنية عمرو دياب ” يا بلدنا ياحلوة”، فأصبحت أردد بيني وبين نفسي مع كلماتها:
ـ يا ياميش سجونا ياحلوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *