كارم يحيى يكتب: لنطرق باب “اليونسكو”مستغيثين لإنقاذ جبانات القاهرة التاريخية

خلال الساعات القليلة الماضية، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي ثلاثة بيانات تستغيث لإيقاف هدم جبانات القاهرة التاريخية، وهي تحوى بدائع معمارية وأثرية تشهد على عصور الحضارة الإسلامية و تطور المجتمع المصري ونخبه بين القرنين التاسع عشر والعشرين.

 البيان الأول موجه للسيد رئيس الجمهورية، وبادر به الروائي الأستاذ “إبراهيم عبد المجيد”. والثاني موجه للنائب العام، ويعد بمثابة بلاغ ضد عدد من المسئولين الأقل مسئولية عما يجرى من الرئيس. وكلا البيانين يدعو لتوقيع من يرى وجاهة في هذا أو ذاك. أما الثالث وأظنه الأكثر أهمية، فهو البيان الصادر منذ يومين عن جمعية المعماريين ( مهندسي العمارة) وعلى صفحة الجمعية بالفيس بوك. ومع أن البيان جاء متأخرا جدا إلا أنه تضمن كلمات واضحة قوية تعكس حجم الكارثة الإجرامية الجارية. ومع هذا فلم يجد في صحافتنا، ولو الإلكترونية، من يهتم وينشر ولو بعد مرور يومين، إلا من رحم ربي كموقع “درب”.

والحقيقة وبخبرة ما يجري في مصر على مدى نحو عشر سنوات ليس هناك في البلد من هيئات أو غيرها، حتى لو اتحدت وجاهرت متحدية “جمهورية الصمت والخوف”، تناقش أو تعترض لتوقف مثل هذه القرارات/ الأفعال. وفي كل الأحوال، فهذه هي جناية أن تصبح شئون المحليات و البلديات والمحافظين ووزراء الإسكان والمرافق في بلاد الدنيا عندنا من اختصاص شخص واحد وباسمه وبصفته “الريس” ومن أجل “بروباجندا حكم الفرد”. وهكذا أصبح شق طريق أو بناء كوبري يدخل ضمن “قرارات السيادة” فوق أي نقاش وبالأمر المباشر.. والمصائب لاتأتي فرادى.

والحاصل أن بلدوز الهدم يعمل على قدم وساق. ولن ينتظر استجابة غير منتظرة أو متوقعة لبيانات وتوقيعات لاتجد حتى فرصة تنويه سريع، لا في نشرات أخبار تلفزيونات “الجمهورية الجديدة” ولا صحافتها”السامسونج”. ولعلها ليست مصادفة مع حلول ذكرى وفاة الأديب “نجيب محفوظ” أن تبدو أكثر عباراته تداولا عند المصريين بمنصات التواصل الاجتماعي اليوم تلك التي كتبها في “حديث الصباح والمساء”:

ـ” ما الحيلة .. أمامنا رجل يدعى الزعامة وبيده مسدس”.

وللأسف نحن بلد عادت الزعامة واصطناع الزعماء مطلقي السلطات والصلاحيات لتدمره بشرا وهيئات ومؤسسات واقتصادا و حجرا وتعليما وصحة وثقافة و أخلاقا.. وكأن قنبلة نووية ضربته حتى أعماق النفوس.. وفي نخوة الناس وكرامتهم.

*

هل يمكن إنقاذ ما تبقى أو ما يمكن إنقاذه من تراث القاهرة التاريخية؟، وفيما البلدوز لايتوقف عن الهدم والتخريب والتدمير.

ليس عندي إجابة، وربما هو حال غيري، وحتى أصحاب البيانات الثلاثة، وأخشى أن تكون بمثابة “إبراء ذمة  مغلوب على أمره”.

لكن الأرجح أن العنوان الأهم الذي يحق التوجه إليه دون مزيد إهدار للوقت هو منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة  “اليونسكو”، وبما لها من مسئوليات وصلاحيات ووزن معنوي في حماية التراث الإنساني العالمي وفي كل مكان.

ونحن نتوجه بنداء استغاثة “لليونسكو”، لنأخذ الاعتبارات التالية:

ـ مصر بلد مؤسس بين أول عشرين دولة أعضاء في هذه المنظمة الدولية، ومنذ عام 1942.

ـ “لليونسكو” إسهامات تاريخية كبرى بحق في مساعدة مصر على الحفاظ على تراثها كنقل معابد “فيلة” لإنقاذها من الغرق عند تنفيذ السد العالي. وهي حملة وعملية ضخمة استمرت لنحو العشرين سنة ويزيد انطلاقا من عام 1968.

ـ تتمتع المنظمة بسمعة ممتازة بين المصريين، ولها مشاريعها لتطوير وتحديث التعليم، وحتى بالعديد من قرى الريف.

ـ لها إسهامات مقدرة في تطوير التعليم الجامعي، وبما في ذلك تأسيس معهد إعلام القاهرة في عقد السبعينيات، والذي تحول إلى كلية إعلام جامعة القاهرة.

ـ “لليونسكو” اتفاقات مع السلطات في مصر لحماية القاهرة التاريخية، ويتعين استدعاء هذه الاتفاقات وتطويرها وتوسعة نطاقها.

ـ “لليونسكو” مقر ومكاتب في القاهرة.

ويمكن الاتفاق بين عدد من الشخصيات ذات الحضور الثقافي والفني المميز مصريا ثم عربيا ودوليا ومن ذوي التخصصات الوثيقة الصلة بالعمارة والآثار والعمران على توجيه نداء استغاثة عاجل “لليونسكو” لمطالبة الحكومة المصرية بالوقف الفوري لهدم مقابر القاهرة التاريخية، واستقبال لجنة تحقيق من المنظمة فيما جرى لها، وبهدف أن تضع تقريرا يصبح ملزما في المستقبل.

*

بالفعل نحن في حال شديد البؤس والعبثية، ونحن كمصريين نشهد عاجزين عجز من وقعوا تحت تأثير وتخدير وخور لدغات العقارب والثعابين قتل القاهرة أو تحويلها لمسخ مشوه من مدن مصنوعة كدبي :

.. بلد يشهد ما تزعم السلطة بأنه “حوار وطني”، في حين الحوار مفتقد غائب في شأن مايجرى لعاصمتها من حرب وخراب و تدمير ومحو للحجر والبشر والذاكرة .. وللعقل. والحوار أصلا غير قائم وغير متصور بشأن مصير القاهرة التاريخية وجباناتها ومعالمها المعمارية الفريدة لاداخل “الحوار الوطني” أو خارجه.

.. ومن جانب آخر، تتوحش ثقافة أو لاثقافة بيع وتدمير المزيد من كل غال ونفيس ومفيد وعزيز من أجل “الفلوس .. الفلوس”. وكأنه لم يعد أمام مجتمع به طاقات بشرية وإمكانات طبيعية هائلة إلا شعار : “بيع .. بيع”. وهكذا في محاولة لمعالجة عبثية هزلية لاتساع خروق استدانة حمقاء لاتتوقف من الخارج على الراتق.  

*

ليس أمامنا الآن إلا أن نستغيث “باليونسكو”.

عمل محررا بالصفحات الثقافية
بجريدة “الأهرام” المصرية لعشر سنوات متصلة بين 2007 و 2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *