عمر عسر يكتب: زيارة عابرة لـ23 يوليو

عندما يعجز مجتمع عن حل تناقضاته وأزماته تأتي الثورة لفرض معادلات جديدة لتوزيع القوى في المجتمع. وبرغم الفيض الوفير من التنظير للثورات في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية إلا أن عوامل قيام الثورات وصفات من يقومون لا يمكن اختصارها في “كتالوج” مهما كانت كفاءة من تصدوا لوضع كتالوجات الثورات والثوار.
الثورة في صلب تعريفها “نقطة انقطاع” تفصل ما سبقها عما تنشؤه وتغير مسار المجتمع عبر تغيير توزيع السلطة والثروة والمنظومة القيمية للمواطنين وطبقة الحكم، وهي تعبير عن عجز آليات الاتجاه الإصلاحي عن تلبية حاجات المجتمع.

وبرغم أن الثورة تنتج عن الحاجة لحل تناقضات مجتمعها إلا أنها تصنع تناقضاتها عبر تفاعلاتها مع داخلها ومجتمعها ومحيطيها الإقليمي والدولي اللذين يكونان معاديين لها في غالبية الأحيان. قد تنتهي تناقضات الثورة إلى صنع واقع أسوأ مما قامت بسببه وقد تنجح في فرض واقع أفضل إلا أن تناقضاتها تضعها في مرمى سهام النقد دائما.

ما سبق مقدمة ضرورية لطرح سؤال عن توصيف ما حدث في ليلة 22/ 23 يوليو 1952، هل كان مجرد انقلاب عسكري قفز عبره الضباط من ثكناتهم إلى قصور الحكم؟، أم كان فعلا ثوريا صنع واقعا مغايرا لما سبقه؟.
لم يكتف ضباط يوليو بالاستيلاء على السلطة والتحالف مع الطبقات المسيطرة كما هو معتاد من الانقلابيين، كما أنهم بقوانين الإصلاح الزراعي والتأميم جردوا الطبقات المسيطرة من عوامل قوتها ومنحوا الجماهير نصيبا من الثروة حرمتهم منه القوى المسيطرة قبل يوليو، إلى جانب تغيير النظام السياسي من الملكية إلى الجمهورية، وبتحقيق جلاء القوات البريطانية عن مصر في عام 1956 فإن المشهد المصري تغير بشكل جذري.

وبإقرار مجانية التعليم الجامعي (مجانية التعليم قبل الجامعي أقرتها حكومة الوفد الأخيرة) وتعديل قوانين
إيجارات المساكن والأراضي الزراعية فإن 23 يوليو أكملت جزءا مهما من صنع مجتمع جديد تميل فيه الكفة لصالح الأقل ثراءً، واكتمل لدولة يوليو الانقلاب الكامل على الأوضاع التي سبقتها. لقد كان ماحدث ثورة بناء على ما تقدم، لكنه ثورة ناقصة.

قدمت 23 يوليو للمواطن ما يمكن وصفه بـ”تمكين اقتصادي” مقابل “حرمان سياسي” مكتمل الأركان ونستطيع القول إنها طرحت معادلة واضحة “القمح مقابل القمع” يمكن للمواطن العيش في أمان طالما ابتعد عن العمل السياسي فإن لم يقتنع فأجهزة الأمن تعلم جيدا كيف تقنعه. وهكذا تحولت دولة الثورة إلى “دولة المخابرات” حسب التعبير الشهير، وللأسف دامت القبضة الأمنية في كل مراحل دولة يوليو التي بدأت التخلي عن معادلة” القمح مقابل القمع” ما أن ووري قائدها الثرى.

سيطرت” سلطة الثورة” على المجال العام بالكامل وتكفلت كاريزما “الزعيم” بالحيلولة بين عقول الجماهير والأصوات الناقدة (حال تمكنت من الوصول لآذان الناس)، لكن تأمين الثورة كانت به ثغرات واسعة مكنّت غير المنتمين للثورة وأعداءها من التسلل لمواقع استغلوها جيدا لتحصيل مكافآت ولائهم. تعدد وقائع الفساد -رغم القبضة الأمنية الخانقة- دفع الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى التحذير في مقالاته بـ”الأهرام” من أن كثيرا من مديري القطاع العام تحولوا إلى “فئة في سبيلها لتكون طبقة” رغم أن الثورة لم تهدم مجتمع الطبقات الذي سبقها لتعيد هي بناءه برجالها الذين خولتهم مسئولية القطاع العام.

من عوامل قياس نجاح الثورات مدى تغييرها في المنظومة القيمية الحاكمة بالمجتمع، ونجاح 23 يوليو في هذا الشأن محدود، فإسقاط سيادة طبقة الباشوات وكبار الأثرياء قابله منح سيادة مطلقة لضباط وأفراد ومخبري الجهات الأمنية وأصحاب العلاقات معهم ومن نالوا القربى منهم. فظلت معايير الواسطة والقرابة لها الأولوية في الحصول على الفرص الوظيفية وحتى التعليمية.

وبإجمال يمكن الحكم بأن 23 يوليو كانت فعلا ثوريا نجح -برغم أخطاء كان بعضها كارثيا- في الانقطاع عن ما قبله ونجح -بنسب مختلفة- في فرض واقع مغاير لم يكن على قدر المنتظر لكنه أيضا وضع أسسا لبناء مجتمع جديد حال صدق النوايا لتحقيق هذا الهدف. كما أن مساندتها لحركات التحرر في إفريقيا وآسيا ومساهمتها الفعالة في تأسيس حركة عدم الانحياز كانت عوامل غيرت بدجات مختلفة في خريطة العالم وهذا بدوره يدفع أكثر بالحدث تجاه الفعل الثوري ويبعده بذات الدرجة عن كونه انقلابا عسكريا.

من المؤسف أن يتعامل كثيرون ممن يفرضون أنفسهم على الناس في صورة المثقفين وأصحاب الرأي مع 23 يوليو بما تمليه عليهم انطباعاتهم الشخصية لا بما يفرضه العلم من قواعد للتعامل مع وقائع التاريخ، ويضيع الحدث بين قطبي التقديس والشيطنة، التاريخ يا سادة ليس عارا يمكن التبرؤ منه كما أنه ليس حلية للزينة والتباهي. هو علم يمكن عبره تحديد أخطاء ما سبق لعدم تكرارها والتركيز على ما تأسس من صواب لاستكماله والبناء عليه. وما يفعله السفهاء منا مضيعة للفرص والجهد.

وحين تهدأ فورات المحبة وفورانات الكراهية يمكن بعقول هادئة النظر إلى الحدث وتقييم المراحل التي انتهت منه، فقد أسس حدث 23 يوليو دولة مرت منها ثلاث مراحل عبدالناصر والسادات ومبارك يمكن الحكم عليها كجزء من الحدث الكلي، وأري أن كفة المحاسن ستفوق كفة العيوب فيما يخص مرحلتها الأولى.

وبالمناسبة، يختلف الكثيرون حول تاريخ نهاية 23 يوليو وهل كان في 5 يونيو 1967 كما يقول كارهو الحدث، أو 28 سبتمبر 1970 كما يزعم محبو الزعيم، دولة يوليو ما زالت تحكم.. واجهها تهديد وجودي واحد في 25 يناير 2011 لكنها انحنت قليلا أمام رياح الغضب لتستعيد في 2013 عنفوانها التسلطي كاملا وتتخلى نهائيا عن مسئولياتها الاجتماعية، وعلى كل فإنه من المبكر حاليا الحكم على تأثير 23 يوليو الكلي، فالحدث مستمر ما يزال، يرواغ الزوال بمرونة تقارب الميوعة ويتشبث بالسلطة ولا يقبل فيها شريكا، لذا سيكون الحكم معيبا إما بتحميل أخطاء إحدى مراحله عليه كله، وإما بمداهنة المرحلة التي يتم فيها الحكم عليه، وليتنا لا ننسى أن الثورات الكبرى أكلت أبناءها وتحالفت مع أعدائها وأعلنت وفاتها أكثر من مرة لكنها انتصرت في النهاية وهذه النهاية لم تكن عاما أو اثنين بل استمر السجال لعقود حتى فرضت الثورة قيمها ووضعت قوانينها واستطاعت استيعاب الأغلبية تحت رايتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *