عمر عسر يكتب: ثلاثة مشاهد لسقوط التيجان
مساحة شاسعة تفصل الحلم عن الوهم، الحلم هو صنع بديل اعتمادا على معطيات واقعية مهما بدا بعيدا عن التحقق، أما الوهم فهو صرح من الزيف يتلاشى عند أول مواجهة مع الواقع رغم ضخامة بنيانه وسماكة جدرانه.
بالتوازي مع الأحلام تساهم الاوهام بدورها في حركة التاريخ. حين تسيطر الأوهام على حاكم أو نظام سياسي فإن الكوارث التي تتسبب فيها هي المادة الخام التي تتشكل منها أحلام إسقاط النظام أو إزاحة الحاكم.
نستعيد معا ثلاثة مشاهد لسقوط أنظمة عاشت على الوهم حتى ظنت أنها “نهاية التاريخ” وتوهم “الأشرار الثلاثة” الذين كانوا على رأس هذه الأنظمة أنهم ورثوا الأرض فلا خلفا بعدهم ولا بديلا عنهم
الشرير في المشهد الأول هو الرفيق إريش هونيكر الأمين العام الأخير لحزب الوحدة الاشتراكية الذين كان يحكم جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية)، هرب هونيكر إلى موسكو عقب استقالته من منصبه إثر احتجاجات واسعة في سبتمبر 1989، فرّ الرفيق الأمين العام من مواجهة الجماهير ولم يمتلك الجرأة الكافية للبقاء في جمهورية البروليتاريا ليدافع عن سجله النضالي (ثارت حوله شبهات بين رفاقه حول عمالته لأجهزة هتلر في شبابه) أو ليستشهد بإنجازاته التي أجهد نفسه وأجهد مواطنيه في تحقيقها.
في المشهد الثاني يستقل الشاهنشاه محمد رضا خان (الملقب ببهلوي) طائرته الفخمة التي تحوّم به حائرة أين تهبط مع رفض أو اعتذار “أصدقائه” إبان جلوسه على العرش استقباله، يجلس الشاهنشاه في طائرته تائها لاعنا من خانوا “صداقته” وكان قبل أن يستقلها قد قال للمقربين منه: “الخوميني! لم نسمع باسمه إلا مؤخرا.. كيف وجد فجأة هؤلاء المؤيدين؟” و”أنا لا أفهم الشعب. إنه فقد عقله تماما. الخوميني جعله يهذي”.
لكن الشاه الحانق من شعبه لم يعلم أن إيران تحوي شعبا، فقد تفاخر في تصريح علني بأن الله منحه السلطة لا أحدا آخر، في استعادة غير مبررة لنظرية الحق الإلهي في الحكم التي سادت أوروبا قبل عصر النهضة ولعل مبعث غضب الشاه من مواطنيه أنهم تجرأوا على الوجود بعد أن ألغاهم بتصريحه المتفاخر المستفز.
المشهد الثالث كان أكثر عنفا، صورت الكاميرات خلاله إعدام الرفيق نيكولاي تشاوشيسكو وقرينته رميا بالرصاص بعد محاكمة لم تُكمل ساعة واحدة، والغريب أن من قرروا المحاكمة والإعدام كانوا من أعوان الرفيق القائد المقربين وكان بينهم قادة أمنيون قاموا عنه بالمهام القذرة مقابل امتيازات هائلة!
لم يكن الرفيق تشاوشيسكو مختلفا.. ديكتاتور يستند إلى (السكيورتاتا) جهاز أمنه المتوحش ودعايات لا تكل عن تلقين المواطنين حب القائد الذي يعمل ليل نهار من أجل سعادتهم، لكن كلاب حراسته افترسوه حتى لا يتحدث فيجرهم معه إلى مهاوي الجحيم.
ثلاثة أنظمة اثنان منها شيوعيان والثالث يميني رجعي، تتشارك سمات عامة، الأول أن بلوغ رؤسائها السلطة تم عبر عوامل خارجية.. تقسيم العالم بين الحلفاء المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية في حالتي هونيكر وتشاوشيسكو، والتدخل الإنجليزي في سياسة إيران الذي أسفر عن تولي رضا خان (بهلوي) السلطة عقب سقوط حكم الأسرة القاجارية.
لكن لم يعترف هونيكر أو تشاوشيسكو أو محمد رضا بذلك، استند الأولان إلى “حتمية التاريخ” التي تنادي بها الماركسية، ونبش الثالث قبور الأفكار ليستعيد نظرية “الحق الإلهي”، حكام تسلطوا بالحتمية التاريخية أو التفويض الإلهي هل تصح معارضتهم!
العامل المشترك الثاني بين هذه الأنظمة هو تغييب الشعب، صار الحزبان الشيوعيان بديلا عن الشعب في حالتي رومانيا وألمانيا الشرقية (في حين أن دوره لا يتعدى تمثيل الشعب)، ومنح التفويض الإلهي الشاه حق أن يكون وحده “الأمة” منذ عهد قورش وحتى نهاية العالم.
العامل المشترك الثالث هو الاعتماد المفرط على الأجهزة الأمنية.. (شتازي) و(السكيورتاتا) و(السافاك)، ومع الوقت.. يمل العاملون من الاستنفار الدائم ويحسن المعارضون وسائل الإفلات من المراقبة، كما يتحول اهتمام العاملين بهذه الأجهزة من تأمين النظام إلى المشاركة في الفساد وتحصيل الغنائم.
العامل المشترك الرابع بين هذه الأنظمة هو الاهتمام بالمنشآت العملاقة (حتى لو غابت جدواها) والاحتفاليات المبهرة كإنجازات تخلد ذكر المستبدين.
كان جدار برلين إنجاز هونيكر الأبرز لمنع المواطنين من مغادرة “جنة البروليتاريا” وصار مع الوقت استعادة معاصرة لأسوار سجن الباستيل في فرنسا قبل الثورة، أما تشاوشيسكو فقد أنجز متحفا لتاريخ الحزب الشيوعي الروماني يضم داخله متحفا مستقلا يخلد مسيرة الرفيق تشاوشيسكو وزوجته الرفيقة إلينا النضالية، وبمناسبة مرور 2500 سنة على تأسيس قورش للإمبراطورية الفارسية نظم الشاه حفلا أسطوريا يصنف كأفخم حفل في التاريخ، وحوّلت المعارضة الحفل (تُقدر تكلفته بأسعار اليوم بنحو مليار دولار!) إلى (بروفة أولية) لجنازة النظام.
كما يشترك المستبدون أيضا في هوس إنشاء عواصم جديدة أو تغيير مظاهر العواصم القائمة، تشاوشيسكو مثلا بدأ خطة (طموحة) لإعادة إنشاء بوخارست وهدم كثيرا من معالمها في سبيل تنفيذ حلمه بعاصمة عصرية تُناسب أحلامه، فيما أنشأ الشاه بهلوي عاصمة مؤقتة في موقع أثري لاحتفاله بذكرى تأسيس الإمبراطورية، أما هونيكر فقد اكتفى بإحكام حصار عاصمته تحت سلطته بجداره المشئوم!
والعامل المشترك الخامس هو فشل الدولة التام في القيام بوظائفها، ففي رومانيا وألمانيا الشيوعيتين نشطت سوق سوداء تشمل السلع المهربة من “الغرب الإمبريالي” وضروريات الحياة التي كانت تشح جراء السياسات الخاطئة، أما إيران الشاه فقد كانت نموذجا يُحتذى في سيطرة الفساد وكان المقربون من الشاه وأقرباؤه نجوما في الصفقات المشبوهة (كانت إحدى شقيقاته متهمة بإدارة شبكة الاتجار بالأفيون في إيران كلها).
كما تشمل مظاهر فشل الدولة في ظل حكم الانظمة الاستبدادية الاهتمام بتطوير الشكل وتركيز الجهود على ما يتوهمه رأس النظام سبيلا للتنمية لا على ما يفرضه الواقع أو تحدده احتياجات المجتمعات، والغرق في الديون لتمويل الأوهام.
الملاحظات حول هذه المشاهد كثيرة والدروس المستفادة أكثر، لكن الخلاصة أن من يخشى الثورة فيحاربها بالقمع يُعجّل بها ويضيف إلى أسبابها، ومن حسن الحظ أن الاستبداد يقترن بالغباء فلا يتعلم مرضاه من التاريخ.