عشر سنوات على ثورة 25 يناير.. نسمة تليمة تكتب: سأروي لابنتي (ذكريات يناير)

لم تكفِ الحلوى الجميع هذا العيد

وزعنا كل الحلوى على العائدين من النسيان مع الورود..

والقبل وأرضعنا أطفالنا ذكرى وحكايات

************

سأروى لابنتي

سأروي لابنتي علها تحمل إجابات أفضل مني

احتمل مشهدي الخاص وقتها شفقة خاصة حين قمت بتغطية انتخابات مجلس الشعب 2010 والتي سبقت بداية عام 2011 بشهور، كنت مازلت في بداية مشواري الصحفي بجريدة الأهالي، مازلت أنظر إلى العالم من منظوري المتواضع، لا خذلان، لا صدمات، الكثير من الأحلام والقليل من الإحباط، وحين وقفت أمام رئيس تحرير جريدتي وقتها فريدة النقاش وأنا أبكي من تلك المشاهد التي رأيتها أثناء التغطية، وأردد “الناس فقرا يا أستاذة وبيبيعوا أصواتهم “والتي كانت أشبه بصدمة أولى، كيف رأيت كل هذا الغش؟، كيف استطاع هؤلاء شراء أصوات الناس أمام لجنة محمد على الابتدائية بالسيدة زينب؟

ما كل تلك الوجبات التي حملت صورة فتحي سرور في تلك العلب الكرتونية والتي تزاحم وتشاجر عليها الجميع؟

المفارقة هي أن اليوم التالي لي كان تغطية لمهرجان القاهرة السينمائي بحكم عمل الجريدة الشامل لكل الصفحات، كيف هذان العالمان حملا كل تلك الفروق والاختلافات؟، وكأنك تخرج من فرن متوهج إلى مبرد لا يتوقف عن البرودة.

وفى مفارقة جديدة أتواجد داخل مكتبة الشروق ليلة الخامس والعشرين من يناير لتغطية حفل توقيع أحد الكتب الجديدة لدكتور جلال أمين فيلقى أحدهم على الكاتب الكبير سؤالًا بديهيًا: يا دكتور بيقولوا بكرة فيه ثورة ما رأيك” ؟ فيبتسم الرجل الموسوعة ابتسامة المطمئن لما سيقوله مؤكدا أن الأجواء الحالية تشبه إلى حد كبير أجواء ما سبقت ثورة يوليو فمن يدرى..

أدون أنا كصحفية شابة كلمات جلال أمين على هامش الحفل لأجعلها خبرا منفصلا يليق بالصفحة الأولى بجريدتي الحزبية علها لقطة مميزة، أحاور نفسى “لن يحدث شيء فى الغد لكنها إجابة مميزة تستحق أن تأخذ بروازا خاصا.. تمام جدا “

أعود لمنزلي هادئة أكتب حصيلة يومي من العمل لأسلمها فى الصباح لمدير التحرير فهناك تغطية ميدانية في الغد لرصد ما قد يحدث .

مشهد نهار داخلي بمكتب الجريدة.. سكرتير التحرير أستاذ محمود حامد يطلب منا النزول إلى الشوارع القريبة من وسط البلد، لاحتمالية وجود بعض المظاهرات أو المسيرات التى ستهتف ضد النظام “وتروح لحال سبيلها”، أرد أنا بإجابة عادية لا أحد في الشوارع في الغالب الدنيا هادية أوى..هانشوف.

أتابع مظاهرة أمام نقابة المحامين عن كثب وأتصل بالجريدة كل لحظة لأنقل المشهد فالجريدة تخرج إلى الثلاثاء لتصدر الأربعاء ويتطلب ذلك تغطية جيدة لكل ما يحدث قبل ذلك بساعات، المسيرة تختلف عن تلك المسيرات التي رأيتها بل أنها لم تكن في السابق سوى مظاهرات بسيطة يحوطها الأمن المركزي كما كانت منذ أيام سابقة للاعتراض على قتل سيد بلال “*”.

“أيوه يا أستاذة بهيجة المظاهرة اتحولت لمسيرة متجهة لميدان التحرير”، لا أعلم إلى أين تذهب تحديدا، ولكن هناك أعدادًا كبيرة تنضم من كل مكان، المشهد درامي بحت من أين يأتي كل هؤلاء؟، الجميع يجري في اتجاه ميدان التحرير وبعضهم يحمل علم مصر، وفى سؤال من الطرف الأخر: أوصفيلي طبيعة الناس مستوياتهم ؟ ناس عادية جدا بعضهم يحمل سمات أهالينا في المناطق الشعبية والبعض الآخر ممن يتمتع برفاهية واضحة “خليط”.

المسيرة تمر بالميدان، وتتجه إلى الحزب الوطني والهتافات تزيد “عيش حرية عدالة اجتماعية، أحلف بسماها وترابها الحزب الوطني اللي خربها” واتجاه جديد إلى شارع رمسيس والتوقف أمام جريدة الجمهورية، واضح أن المسيرة تتجه إلى منطقة شبرا، معانا راجية عمران وناس تانية ماعرفهمش، تمام جدا هانفضل معاكى بالتليفون بلغينا أول بأول ما يحدث والجريدة لن تذهب إلى المطبعة في ميعادها سننتظر ما يحدث.

المسيرة تتوقف كثيرا، وأنا لا أفهم شيئا، الأمن متواجد في كثير من النقط التي تمر بها المسيرة، بعض المشاركين يهدد الأمن في حالة منع المسيرة من المرور بحرق نفسه والنوم على الأرض، حتى وصلنا إلى شارع خلوصي بشبرا، أتصل برئيس قسم الأخبار لأكمل ما أمليه عليهم: المشهد غريب جدا يا ريس، الناس بتزيد اقترح إمكانية عمل عنوان وأنا أبتسم، “مصر على شفا ثورة”، طيب يا نسمة حاولي تخلصي وتمشى الساعة جت أربعة وخلاص اكتفينا باللي بعتيه وكمان الأمن احتمال يبدأ يتعامل بعنف.

أغلق السكة لأجد هجومًا أمنيًا عنيفًا على المتظاهرين في شارع خلوصي والمسيرة المرهقة من السير من وسط البلد إلى شبرا، كر وفر، عصا تنزل على رأس أحدهم ليخرج الدم معلنا عن ميلاد جديد لعالم لم أره من قبل، زميلة صغيرة مثلي “ميرا ممدوح صحفية بروزاليوسف” تأخذني وتجري بي في اتجاه أحد محلات الملابس، نختبئ بداخلها حتى يهدأ الموقف ويمكننا العودة، يتم القبض على الكثيرين، محاولات للخروج من المحل والتخفي من الأمن وركوب المترو والعودة للجريدة.

حين أصعد إلى ميدان التحرير من بوابة المترو أجد كل تلك الأعداد من البشر تستمر حالة اللافهم لدي، أحد زملائي القريبين “خالد عبد الراضي” يصادفني فيخبرني أن الأمن ضرب مسيرات كتير والناس اتجمعت هنا، طيب هاروح الجورنال، أدخل في حالة من البكاء الأول والأخير، أعلم يومها بإصابة بعض الشباب ومنهم هاني عبد الراضي والذي لم أكن أعرفه وقتها – وأصبح زوجي فيما بعد ووالد ابنتي وكثيرا ما صادفته في الميدان فيما بعد لا نتحدث قدر ما نغني-، أغادر المكان وأتجه إلى الميدان.

لأيام أخرى أتابع المشهد حتى تلك المسيرات في شوارع وسط البلد أيام 26 و27 السابقة لجمعة الغضب التي دعت لها صفحة “كلنا خالد سعيد” بعد ضرب شباب الميدان ليلة الثلاثاء 25 ومطاردتهم في شوارع عابدين.

في 28 يناير، أحمل كل ما يمكنني حمله من أوراق وأقلام وتليفوني المغلق لقطع الشبكة ووعد لوالدى الطيب أن أطمئنه على قدر المستطاع من أى رقم أرضي أصادفه، الكثير من العنف شاهدته فى ذلك اليوم، الكثير من الجري والكر والفر، وأنا أغطي الأحداث فقط حتى الآن، بداية من تلك السيدة ذات الوجه الحاسم وترتدي “تريننج” وتصلي معنا بجامع الفتح برمسيس وتطلب مني وأنا أدون في ورقة خاصة خلف خطيب المسجد أن ترى الورقة فأرفض وأخبرها أني صحفية وهذا عملي فنفهم جميعًا أنها تابعة للأمن.

بعد النزول من سلالم مصلى السيدات تبدأ الهتافات بسقوط النظام وحسنى مبارك فتنفتح السماء بالقنابل المسيلة للدموع، كانت أول مرة استنشق الغاز، فتحرقني عيناي ولا أستطيع التنفس فأبكي كثيرا ونجري داخل شارع كلوت بك، نختبئ من الأمن، يمر بى هؤلاء الحاملون لأحد المصابين والدماء تسقط منه كالمطر، ويمر بى آخرون يبحثون عن زملائهم، أحاول أن أجد منفذا حتى أصل إلى باب الشعرية، وفي طريقي قدر المستطاع استأذن بعض المحلات القديمة المتواجد بها تليفون أرضى وأطمئن أهلي.

لا أعرف ما يحدث أيضا أظل في الطريق حتى أصل إلى شارع التوفيقية، لقد فهمت اشتريت زجاجة خل ومناديل أتعثر في سحر الموجي الكاتبة، التي تضع على أنفها إيشارب ذا لون بمبى، فأخبرها أنها من الأفضل أن تبله بالخل وأخرج زجاجة الخل من شنطتي وأصب على الإيشارب الذي يتحول إلى لون أسود فأعتذر عن إفساد الإيشارب فتبتسم ولسان حالها يقول : الموضوع أكبر من إيشارب ألا تري ما حولنا” ..

يجبرني بعض من رأوا علامات التعب عليٌ وعلى بعض المواطنين إلى مقر شركة في الدور الخامس بالعمارة التي يعلوها مركز خالد علي، وأراه يحاور العساكر ويقف مع الشباب قبل مدخل شارع طلعت حرب حتى الخامسة والنصف ليعلن الجميع أن الأمن انسحب فأنزل أبحث عن أخي داخل نقابة المحامين لحاجة والدي في الاطمئنان عليه، أجد نفسي وسط الكثير من الدمار، شوارع بها سيارات تحترق وأصوات تنادى: لا تقتربي من هنا امشي من بعيد التنك ها يضرب، ولكن لا مكان آخر للمرور فأمر بسرعة مراهنة على رحمة الله ومازلت الدهشة تلازمني، أدخل إلى النقابة أنادى على أخي بصوت عال فيخبرونني أن الأمن قبض على بعضهم والبعض الآخر مصاب قد يكون منهم فأدخل في حالة بكاء هستيري أنادي عليه وبعد اليأس، أمشى في اتجاه رمسيس، فلا مواصلات هنا، وأريد أن أعود لبيتي بأوسيم، والدي في آخر مكالمة طلب منى بصوت مهزوز العودة فورا والبعد عن الضرب، وارتبك صوته الذي كان مطمئنا خلال اليوم، أركب قطارًا قديمًا يأخذني إلى أحد البلاد القريبة من مدينتي، أتذكر أنني وقتها مررت بدخان شي الكفتة في إحدى محلات أوسيم فلا إراديًا ابتعدت، ثم ابتسمت قائلة “أنا بقيت بخاف من أى دخان حتى دخان الكفتة” .

الأيام التالية كانت استكمالًا لأهم مشهد في حياتي، وكأنك كنت تغلق صندوقا وتفتحه في عوالم جديدة تماما، استمع لكل تلك الأماني، أتواجد داخل ميدان التحرير يوميًا نهارا وأعود ليلا إلى منزلي، مضطرة أن ابتعد عن تلك الحالة المحببة جدا لنفسي لرفض والدي أن أبيت داخل الميدان، أسير بمفردي تماما داخل الميدان ألتقط كل جديد أسجله في أوراقي المتواضعة لأصبه في جريدتي، أبحث من خلالها عن تخليد لذكرى لا أدرى تداعياتها أو نهايتها، أتواجد داخل حزب التجمع الذي تحول إلى استراحة كبرى، من تعثر، من أراد الراحة أو المساعدة أو االاستشفاء، أرى شبابًا يرفضون تعليمات الحزب، ويستقبل الجميع باختلاف انتماءاته، لست سوى صحفية في جريدة الحزب لكنني أرى عالمًا لم أشاهده من قبل.

أفعل ما لم أكن أتصور أنني سأفعله يوما ما، أركب على موتوسيكل يوزع اللبن مع ابن عمى خالد وأخي محمد لأنه وسيلة العودة الوحيدة إلى البلد مساء يوم السبت 29 ونمر بكل تلك اللجان الشعبية وكلانا يحيي الآخر بفخر وامتنان وهم يرددون” معاهم بنت عدوهم ” ، وأنا أنظر بعيني طفلة مبتسمة، تستمتع بكل ذلك حاملة داخلي عوالم بعيدة لأمل ودنيا ونجاح وشحن وطني لم اعتده سوى في ماتشات مصر في كأس الأمم الإفريقية .

أكتب ما أريده في الجريدة، أضع العناوين التى تناسب المشهد الثوري والزخم الواضح بحرية، أكتب عن مدينتنا الفاضلة التي خلقتها تفاصيل أيام مضت ووجودنا داخله “ميدان التحرير “، أكره بشدة وبإحساس طفولي كل عسكري أو ضابط شرطة أصادفه في الشوارع، أجدني فى تصرف كان يليق برؤيتي البسيطة وقتها أنظر إليه باحتقار.

أشارك كل من داخل الميدان تلك الحالة العظيمة من السلام النفسي لا أحاول أن أسير مع أحد حتى أن البعض خلال المسيرات الأولى كان يحذرني، لا تسيري بمفردك حاولي الانضمام إلى مجموعة، اكتفيت تمامًا بما أرى، ويوم تنحي مبارك في 11 فبراير كانت الفرحة العارمة التى اجتاحتنا جميعا، هناك من عاشوا ولم يشاهدوا سوى رجل وحيد منذ الطفولة لا يتغير، كما لا تتغير أحوال كثيرة نلمسها، فرحة جعلتهم يخرجون إلى الشوارع بهتاف حرية ..حرية

مازلت أحتفظ بتلك الفيديوهات التي سجلتها تلك اللحظة والجميع يجري في الشوارع في اتجاه الميدان، وكأن الفرحة ترتبط بالذهاب إليه عن طيب خاطر، وكأن الفرحة تحتمل الطيران إذا استطعنا، والجري بداية للطيران، أيا كانت تلك الحالة التي تمر الآن بعد ست سنوات لا تحمل سوى الكثير من علامات الاستفهام، كان هذا هو السبب الذي دفع الكل إلى الميدان، الأمل في يوم جديد، نهار جديد يحتوينا جميعا، عوالم تستحق المجازفة بالحياة، لا أدري ماذا حدث؟، ولا أدري هل بما رويته قد شاركت في ثورة يناير أم لا؟، كما أنني لا أدرى ماذا فعل ذلك الرجل الذي تلقى بدلا عنى تلك الضربة من عصا العسكري في شارع خلوصي؟

ما أدريه حقا أنني قد يكون لدي الآن الكثير لأرويه لابنتي حين تكبر، علها تحمل إجابات أفضل مني.

نسمة تليمة

صحفية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *