شيماء سامي تكتب: في الكادر ثورة وحب.. تحية وطارق كام مرة… عن أفراح القبة وعنا


“مراية الحب عاميه بلورها مش اوي.. ونار الحب حامية وانا فيها بنشوي..”

قصص الحب تسحبني من بركة الحياة نحو محيط الخيال، أحب الحب، وعندي نظرة مختلفة عنه، الحب ذروته ألا يكتمل.
تجاوزت الثلاثين بعام، حرقت العشرينات كاملة في ثورتنا التي فشلت في كل نتائجها ونجحت في كل مقاصدها، الثورة التي صنعتني بقدر ما شاركت في صناعتها.
لكنها صنعتني في قدرٍ مغلي، قبل أن أكمل عشرين عام كتبت وصيتي مراراً وتكرار ودربت عقلي مرات على التعامل مع الاعتقال والتعذيب، مرنت نفسي مرات في مخيلتي على التعامل مع الألم، سنوات تغير فيها صوتي من جروح في حبالي الصوتية من الهتاف، رعشة تغلبت عليها في مفاصلي مرات من صوت الرصاص الحي، دماء حقيقة وجثامين لأحياء رحلوا للتو لأنها لبت نداء، عيون أمهات معلقة بنا تسأل في خوف “هل لفقدان ابني ثمن؟”..
فقدت حبيبي الأول الذي كنا قد اخترنا معا أسماء أبنائنا، نسيته كما نسيت أسماء أولادي، أصابني عطب في مبايضي، شخصت خطئا بالسرطان في منتصف العشرينات، استأصلت ورما وخلعت حجاب رأسي، في نهاية العام نفسه غيرت مهنتي واحترفت الصحافة.
عام من الملاحقات، ارتديت حمالة صدري ليلا، عرفت الشهوة الجنسية لأتجاوز القلق، عرفت لذة التغلب على الخوف وعصرة البطن بعد كل مقال أكتبه وينتشر، واجهت حروب سنوات، مع أسرتي والناس مع المتدينين والملحدين مع المستقيمين جنسيا والمثليين، لفظتني كل المجموعات وظللتُ متمسكة بمجموعتي، كانت مجموعتي الخاصة أجزاء متوزعة بين قلوب وعقول رأيت فيها صوراً من الجمال، وفضلتهم في عقلي وقلبي على نفسي ولم أخبرهم حتى بالأمر. زادت الملاحقات حتى تركت مدينتي وذهبت للعيش وحيدة، حربا جديدة إذا، ما المانع!

حاربت لكي أحيا مستقلة ووحيدة وكل تفصيلة صغيرة طبيعية في حياتنا أمست حربا ضروسا..

نحارب كي نحب، كي نشبع، كيف نروي عطشا، نحارب فقط لكي نكفي حاجاتنا الأساسية ثم اختارتنا النداهة في حرب الحرية، فأصبحت حروبنا حربين، أدافع عن ظهري من ضربات المجتمع والناس والثقافة والتقاليد وأتلمس خطواتي في طريق مقفر مظلم بين حشائش المدعين المزيفين وأبار عميقة جافة قد أسقط فيها لو لم اتحسس خطاي.
وما أنا بيوسف، أنا إمرأة العزيز، اشتهي رجلا وحبا وملكا. أشتهي الحرية والحياة. وأريد كف طارق في كفي في طريقي المقفر.

أحببت مرة أخرى، كانت سريعة جدا تلك المرة، شعرت بالخوف والحزن وأنا أعترف لنفسي بأني أحببته. تماما كعيني “تحية” وهي تعترف لطارق بأنها أحبته في المعالجة الدرامية لرواية أفراح القبة. شاهدت العمل مرات عديدة، آخر مرة شاهدته كان المشهد الذي يقتل فيه مستقبل “الحب” على يد “الكراهية” يقتل فيه مستقبل “تحية” وحلمها في الحصول على أمان واستقرار، يقتل فيه “طارق” وطاقته، كان المشهد مؤلم وهو يصرخ ويترجى جلاده أن يتوقف، لكن كنت على الأقل أستطيع أن أكمله. اليوم لم استطع اكماله.

أنا أعرف لماذا لم يستطع “طارق” الالتزام بتحية، أعرف خوفه من الإنجاب، لكن هل لو فهمت “تحية” السبب هل كان هذا سيصنع فارقا؟

انتهت فترة العشرينات من عمري وأنا في السجن، عيد ميلادي التاسع والعشرين والثلاثين كلاهما قضيتهما في زنازين انفرادية مختلفة، كنت وحيدة مع خيالاتي، مع مخاوفي وأفراحي، مع غضبي وقوتي، مع حزني وشتاتي، كان معي طيف طارق، عيناه من حبيبي الثاني، وشفتاه من حبيبي الأخير، وحنيته من حبيبي الأول، كان يضمني ضمة انتظرتها سنوات.

– هو طارق ده يخصك؟
– يعني.. ألطف واحد وبستريح وأنا معاه
– أنا بلغت عنه..

“ها هي كل الأشياء من حولي تعيدني لمواجهة وجهي القبيح في المرآة، كلنا في حقيقة الأمر غرقى نبحث عن طوق نجاة يخرجنا من مستنقع الفقر بأي ثمن كان، لن يتخيل أحدًا مهما كان قريبًا او بعيدا ان لعليا قلبا، قلبا لم يزل قادرًا على البكاء، وقد أدركت لتوي انتي قد اكون دمرت بفعلتي فرصه لاقرب الناس للعثور على الحب.. مسكين يا طارق.. مسكينه يا تحيه”

طارق حينما خرج من الاعتقال قرر أن يعتزل، يعتزل الفن والمسرح والتمثيل، صحيح أنه لم يتوقف عن عمله لكنه توقف بالفعل من بعدها عن التمثيل، عن الفن، عن الحياة.. تملكته الشهوات المؤقتة وغاص في اللحظة تاركًا الأحلام بعد أن أحالها التعذيب لأوهام..

“كان رد على سؤال ايه قيمة الحياة وايه دورنا فيها؟
والرد كان قيمتها في الفن، ودوري فيها اني امثل”

لذا فطارق عندما قرر اعتزال الفن فقد قرر اعتزال الحياة وترك دوره فيها.

كل مرة أتابع حلقات المسلسل المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ “أفراح القبة” تنساب دموعي بلا توقف، ابكي نفسي وابكي طارق، وابكي تحية، ابكي على كل من انسلخت عنه روحه، كل من قرر أن يعتزل الحياة لثقل ما عانى. وفي كل مرة كنت اتساءل ماذا لو فهمت “تحية” سبب انسحاب “طارق” من الخطط طويلة المدى، هل كانت لتغفر له؟
لكن تلك المرة وأنا أنظر لعيني تحية التي تلمع بالحياة في عين طارق التي انطفأت، عرفت الاجابة.

طارق قد مات في الرواية قبل أن تقتل “تحية” وكان واقعي أشد درامية.. فلقد مات كلاهما.

في الرواية تموت “تحية” ويبقى ظل “طارق” عالقا بين الموت والحياة، في حقيقتي تموت “تحية” و يموت “طارق” وتبقى ظلالهما معلقة كل على قبره، يتخبط ويتردد ويداوي وحيدا ما أحدثته الكراهية فيه.

تبقى “تحية” وظلها عالقة وحيده في حبها المبتور واسئلتها المبعثرة حولها، تحصي خيبات أملها وتحصد أمال للغد، تدندن كلمات الست “كنت بشتاقلك وانا وانت هنا، بيني وبينك خطوتين، شوف بقينا إزاي أنا فين؟ يا حبيبي، وانت فين؟” وتصمت وتتنهد وتكرر “أنا فين! وأنت فين!”

لقد تقبلت الخسارة في لعبة اختارت من بدايتها أن تلعب فيها مع الفريق الخاسر، لكنها فقط كانت تشتهي “حضن” قبل النهاية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *