سامية بكري تكتب: بلاغة الخطاب الإسلامي.. أشكال ثلاثة وانتقادات أساسية.. قراءة في خطاب القرضاوي وعمارة وعمرو خالد

عن دار أزمنة بالأردن، صدر كتاب “بلاغة الإسلاميين: اللغة والثقافة في مصر المعاصرة” لمؤلفه جاكوب هوجيلت وترجمة محمود أحمد عبدالله

ويعتبر الكتاب واحدا من أهم الكتب التي تتناول الخطاب الإسلامي. والكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه لمؤلفه. وهو في عمله هذا يهتم بكتابات ثلاثة من أنصار الحركة الإسلامية. أولهما الشيخ يوسف القرضاوي، ابن الأزهر والثقافة التقليدية، ثانيهما الأستاذ عمرو خالد ممثل الوعاظ الجدد، والثالث هو الدكتور محمد عمارة ممثل تيار الوسطية، بحسب المؤلف.

يتكون الكتاب من ستة فصول، مضافا لها المقدمة والخاتمة. يعرض المؤلف في الفصل الأول الإطار النظري والمنهجي، حيث يقوم بتعريف أهم المفاهيم ومنهج التحليل وأدواته، وعينة الدراسة وأسباب الاختيار. فيما يهتم الفصل الثاني بطرح السياق الاقتصادي والاجتماعي الممهد لظهور الخطاب الإسلامي، ثم يعرض للتجليات المختلفة للخطاب الإسلامي، وجماعاته الفكرية المؤيدة له. وتهتم الفصول الثلاثة التالية بعرض المواقف البلاغية لممثلي الخطاب موضع الدراسة. وينتهي الكتاب بفصل مقارن وخاتمة، يحاول فيهما المؤلف تحليل وجوه الاتفاق والاختلاف بين صور الخطاب الثلاثة.

  1. السياق المؤسس للخطاب الإسلامي

ينهض التصور الفكري للكتاب على أن الخطاب الإسلامي قد تتأسس حضوره مع ابتعاد الدولة عن الإسلاميين بهجرهم للسياسة؛ تاركة لهم الفرصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، ما قد تسبب في نشوء قطاع إسلامي مواز يتضمن أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية توفر للمواطنين خدمات يفترض في القطاع العام أن يقدمها. هذا القطاع كان نتاج حراك الطلاب الإسلاميين في السبعينيات، الذي دعمه السادات في مساعيه للقضاء على وجود الماركسية والناصرية في الجامعات المصرية.

ولقد دارت أنشطة الحركة الطلابية الإسلامية على محاور ثلاثة: المساجد، الكيانات الخيرية الإسلامية (العيادات الصحية، المدارس)، والمشاريع التجارية الهادفة للربح (البنوك ودور النشر). كذلك سيطر الإسلاميون على بعض النقابات المهنية مثل نقابة الأطباء والمحامين. فنشأت ببطء شبكة غير رسمية واسعة وغير مركزية من الإسلاميين، لها صلات على مستويات عديدة بالحكومة والمؤسسة الدينية الرسمية. وقد استطاع الإسلاميون اختراق الطبقات العليا في المجتمع، إذ قامت الطبقات العليا والوسطى العليا، منذ منتصف التسعينيات، بتنظيم صالونات دينية، وانخرطت في أنشطة اقتصادية إسلامية.

كذلك يرى المؤلف أن ظهور البترول في بلاد الخليج كان له أثره على الفكر الديني والثقافة في مصر. فكثير من المصريين عملوا هناك كمهندسين وأطباء ومدرسين في السبعينيات والثمانينيات. والكثير منهم عادوا وساهموا في كل من الجانب الاقتصادي للقطاع الإسلامي الموازي المذكور سلفا، وفي انتشار ثقافة إسلامية محافظة في مصر. وأخذت دول الخليج ذاتها في دعم إنتاج ونشر الكتب الدينية المحافظة والمجلات.

ومع الوقت بدا أن السمة المميزة للمناخ الديني والسياسي هو التنافس على الشرعية الرمزية بين الإسلاميين والدولة. وتمكنت الدولة من الاحتفاظ بالسلطة بإعطاء مساحة أكبر للنشاط الديني في مجالات بعينها في المجتمع. واقتنص الإسلاميون الفرصة، وواجهوا الدولة بإحالة كافة المؤلفات التي اعتبروها غير إسلامية إلى ساحات المحاكم. وتبارى كل من الدولة والإسلاميون في الظهور بصورة الأكثر التزاما بالطابع الإسلامي، وهو ما يعني الإفراط في المحافظة دينيا وثقافيا.

لكن النظام والحركة الإسلامية المنظمة ليسوا اللاعب الوحيد في الميدان. فهناك المؤسسة الدينية، التي تسعى الدولة لاستمالتها لدعم سياساتها. ورغم مساندتها لمواقف الدولة الحداثية تجدها في مسائل العقيدة الدينية والثقافية محافظة فتتفق مع المعارضة الإسلامية في مسائل العقيدة الدينية والقضايا الثقافية في مواجهة المفكرين الليبراليون، والعلمانيين والفنانين والكتاب.

  • خريطة الخطاب الإسلامي

وفقا لرؤية المؤلف، فإن الساحة الدينية تتكون من عدة جماعات. أولها جماعة رجال الدين الرسميين، وهم علماء المؤسسة الدينية الذين تلقوا تعليمهم في مؤسسة الأزهر. وإلى جوارها تقف جماعة الدعاة الجدد، التي ظهرت خلال التسعينيات، وتتكون من أعضاء لا ينتمون للأزهر أو الإخوان المسلمين، ولا يرتدون الجلاليب بل البذل والكرافتات، وتعليمهم الديني ضئيل. أما الجماعة الثالثة  فهي “الإسلاميون الجدد”، وهؤلاء يقفون في منطقة وسطى بين الإسلاميين من أنصار حركة الإخوان المسلمين وعلماء المؤسسة الرسمية. ويمثل هؤلاء فكرا يقدم نفسه في قطيعة مع التيارات المحافظة المتعددة في المشهد القائم.

  • بلاغة الخطاب

يميز المؤلف بين ثلاثة أشكال لبلاغة الخطاب الإسلامي: بلاغة السلطة والمرجعية الدينية، وبلاغة العاطفة الدينية، وبلاغة المجادلة، بحيث يمثل كل كاتب موضع للدراسة والتحليل واحدة منها. فيمثل يوسف القرضاوي بلاغة السلطة الدينية، وعمرو خالد مثال على البلاغة العاطفية، بينما يكون محمد عمارة معبرا عن بلاغة المجادلة.

وبحسب الكتاب، تعتمد بلاغة السلطة الدينية على سلطة رجل دين يتمتع بالاحترام، ويحاول أن يؤسس لسلطته كحارس للتراث، من خلال استعمال اللغة. حيث يقدم يوسف القرضاوي نفسه كعالم موضوعي يستعمل الضمير (هم) ليقلل من شأن الناس الذين يختلف معهم. فهو ينشئ سلطته ومرجعيته، ليس بفضل سماته الشخصية ومضمون خطابه فقط، بل وبفضل طريقته في صياغة هذا الخطاب. فهو يقف على مسافة من قراءه وينتج صورة للإسلام كدين هرمي قوي حيث القراء في حاجة إلى إرشاد من أعلى ليقوموا بمهمتهم السياسية والدينية لإحياء الإسلام. كما أنه يستخدم سلطته كعالم دين لتحديد من لهم حق المشاركة في الساحة الدينية، ومن ليس لهم هذا الحق، وبلغته يجعل أحكامه تبدو كالضروريات الطبيعية. وبهذا يستبعد المفكرين الليبراليين ويشكك بشدة في مصداقية غيره من علماء الدين الذين يعارضونه.

أما بلاغة العاطفة والوجدان فتستمد قوتها من قدرة منتجها على التقرب للقارئ، واصطناع لغة قريبة منه. حيث يشجع عمرو خالد التفاعل بينه وبين القارئ، بل وبين القراء بعضهم وبعض أيضا. فيستخدم الضمير “نحن”، ليخلق شعورا بالألفة في نصوصه، ويثير مشاعر التعاطف المتبادل بينه وبين قرائه. وعلى هذا النحو، يرسم لنفسه صورة المدرب الروحي والصديق بدلا من أن يظهر في صورة المعلم. كذلك فإن محصلة استعمال عمرو خالد لجمل الاستفهام والأمر، هي دفعه لقرائه للرد على دروسه. ومن هنا جاءت الأسئلة الموجهة للقارئ، التي تتحداه ليقدم جوابا فوريا، والأوامر، التي تطلب منه أن يهم بالعمل. وتبدو لغته كلغة تحاكي لغة الدعاية، فالمعلنون يؤثرون في المستهلكين بجمل الاستفهام والأمر كأدوات لغوية رئيسية.

ويرى المؤلف أن أعمال محمد عمارة هي الأعمال الممثلة لنموذج بلاغة المجادلة هذه البلاغة، التي تنهض على ادعاء الموضوعية ومخاصمة الخصوم بالحجج والبراهين. تكاد تخلو أعمال عمارة من أي استخدام لضمير المتكلم، وذلك يبين لنا الطبيعة الأكاديمية لنصوص المؤلف. كذلك يندر استعمال ضمير الغائب “نحن” كما يفعل القرضاوي. ويحاول عمارة طوال كتابته على ألا يجد القارئ فرصة للتفكير، فهو يقف تحت قصف الأسئلة التي تكرهه إكراها على الاتفاق مع صاحبها، بما يحول دون خلاف يؤذي العلاقة بين الكاتب والقارئ. وبعبارة أخرى، إن نصوص عمارة تتخلص ممن هم في خلاف معها.

وفي المجمل، يمكن القول بأن الكتاب يعد إضافة للمعنيين بالحركة الإسلامية، لما يحمله من نضج في النظر للحركة من زاوية كونها تمثل قطاعا عريضا من التوجهات الفكرية المتشابكة. هذا التنوع لا ينفي وجود جوانب اتفاق ممكنة في المبادئ الفكرية العام. ورغم تناوله للخطاب الإسلاموي قبل ثورة يناير، تبين لاحقا أن كثيرا من نتائجه على حق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *