زياد العليمي يكتب: الضحايا يستعيدون الثقة بمنظومة العدالة (الحلقة الثانية من سلسلة العدالة الانتقالية)

في قراءتي الأولى لرسالة نيلسون مانديلا إلى ثوار مصر وتونس في 2011، أثارت بعض عباراته حفيظتي.

كيف يمكننا التسامح مع من قتلوا؟ وكيف يمكننا أن ننطلق لمستقبل دون غلق صفحة الماضي؟ وكيف يمكننا أن نقنع ذوي الشهداء والمصابين، أن يشهدوا قتلة ذويهم، والمتسببين في إصاباتهم، يكملون في بناء الوطن معهم كتفًا بكتف، دون أن يدفعوا ثمن إفساده في السابق؟

وبدأت في تتبع تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية، ومنها إلي تجارب دول أخرى، ذات أوضاع سياسية واقتصادية أسوأ مما نعيشها بكثير. كنت أسأل: متى يكون هذا البديل ممكنًا؟  ثم كيف نبتكر نموذج عدالة انتقالية يتماشى مع طبيعة مجتمعنا، ونوع الجرائم التي أرتكبت في حق شعبه؟.

نموذج جنوب أفريقيا: الصفح

في هذا البلد الذي عانى من سياسات الفصل العنصري عقودا طويلة، ارتكبت كل الأطراف جرائم في حق بعضها البعض. رغم هذا، أمكن إنهاء الأمور بإعلان تفاصيل الجرائم التي تمت، والاكتفاء بإعلان كل طرف إدانته العلنية لما فعل، وطلب الصفح من المجني عليهم وذويهم، وفتح صفحة جديدة من تاريخ الوطن يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، لكن ماذا بشأن بلادنا؟.

ألم يرتكب “كل الأطراف” هنا جرائم توجب الحساب؟.

في مصر نفذت بعض الأطراف جرائم في حق الآخرين، وفي حق بعضها البعض، في حين اكتفت الأغلبية بأن تكون الضحية. ونال الحالمون بالتغيير الجزء الأكبر من الانتهاكات والجرائم من كافة الأطراف التي وصلت إلى السلطة.

وماذا بشأن ثقافة الثأر الراسخة في وجدان أبناء شعبنا؟ هل يمكننا أن نعالج أمورنا بذات الطريقة التي نجحت في جنوب أفريقيا؟.

ليس بخاف أن فئات مختلفة من أبناء شعبنا تعرضت للاضطهاد والتمهيش، ولكل صنوف الاستبداد والفساد، لسنوات طويلة. وبعد 2011، مارس كل من وصل للسلطة، ومعظم التيارات السياسية، نفس السياسات التي رفضوها سنوات طويلة.

ارتكبت المذابح ضد مواطنين مصريين في محمد محمود (مرتين)، مجلس الوزراء، ماسبيرو، العباسية، الاتحادية، مكتب الإرشاد، ميدان رابعة، ميدان نهضة مصر. أحرقت عشرات الكنائس، وهجر مواطنون من بيوتهم، واستشهد أفراد من رجال القوات النظامية المختلفة (جيش وشرطة) في رفح (مرتين)، وحوادث متفرقة في كمائن سيناء، وأماكن حيوية أخرى. أزهقت أرواح مئات المواطنين المدنيين، أثناء الصراع المحموم على السلطة، وسجن الآلاف باتهامات ملفقة، فضلا عن حالات إختفاء قسري لمئات من المواطنين، وجد بعضهم مقتولًا، وآخرون في أماكن الاحتجاز، ويواجه الباقون مصيرا لا يعلمه إلا الله، والمسئولون عن اختطافهم.

علمتنا تجارب السنوات الخمس، أن الانتقام يفتح باب الدماء، ويجر البلاد لدوامة من العنف، قد لا نخرج منها أبدًا. وفي نفس الوقت، لا يمكن أن ننتقل خطوة للأمام سوى بغلق بوابة الماضي، ورجوع الحق لأصحابه، ومعاقبة المجرمين، وهو أمر يزداد صعوبة، كلما أمعنت الأطراف المتورطة في تلك الجرائم، وزاد عدد ممثليها في المجتمع.

وهنا؛ تبرز أهمية الإجابة عن السؤالين الرئيسيين، في نظري، ليتمكن معسكر التغيير من اختبار بديله.

السؤال الأول: متى يمكن أن يكون البديل المطروح جاهزا للتطبيق، وهو سؤال حاولت الإجابة عليه في مقال سابق بعنوان: المستقبل يمر عبر تحالف المهزومين.

(رابط المقال http://goo.gl/aAKfZH)

السؤال الثاني هو: كيف يمكن أن نغلق صفحة الماضي، ونبني قواعد دولة المستقبل، وسط هذه المعطيات شديدة الصعوبة والتعقيد.

الخلاصة العامة لتجارب الدول المختلفة، تقول إن العدالة الانتقالية فلسفة عامة، وإجراءات تناسب ظروف كل مجتمع؛ لإغلاق صفحة الماضي، وبناء وطن جديد بقواعد جديدة، استخلصها الشعب من تجربته الذاتية. قواعد تبدأ من المصارحة ثم المحاسبة، وصولًا إلى المصالحة. وبناء مؤسسات المجتمع الجديد بما يضمن عدم وقوع أمثال الجرائم التي حدثت في الماضي مستقبلًا، وهو ما أحاول شرحه في السطور التالية.

ضرورة العدالة الانتقالية الآن

أهم ما كان واضحًا في رسالة مانديلا، تركيزه على الرؤية التي يجب أن ينطلق بها، وهي بناء وطن يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات، متناسين جرائم الماضي. فيهذه الرؤية يكون أكبر عقاب لمن ارتكبوا جرائم في الماضي، مشاركتهم في بناء الوطن والمجتمع وفق قواعد جديدة، أمضوا حياتهم في حروب متصلة معها.

قبل الخلاف على كيفية إدارة الدولة المصرية، علينا أن ننتبه إلى أن سنوات الاستبداد والفساد دمرت مؤسساتها، وأن ما نراه يوميًا من فشل المؤسسات التعليمية، والصحية، والثقافية، والأمنية، والمرافق العامة، ما هو إلا عرض لمرض؛ إذا لم نعالجه فورا، لن نجد ما يمكن أن نختلف على إدارته.

الهدف النهائي للعدالة الانتقالية إذن هو إعادة بناء مؤسسات الدولة التي دمرها إرث الماضي.

في نفس الوقت، علينا أن نتعامل مع إرث الماضي وجرائمه، بما يضمن محاسبة المسئولين عن الجرئم، وطمأنة الأغلبية الخائفة من التقلبات العنيفة، بأن عملية المحاسبة لن تطال إلا فئات محددة، ممن ارتكبوا جرائم جنائية غير قابلة للتعويض، وليس من لم تقترف يداه فعلًا إجراميًا محددًا.

رؤيتنا هي إقامة دولة ديمقراطية حديثة، يتساوى فيها المواطنون في الحقوق الواجبات. إلا أننا لو أغلقنا صفحة الماضي من دون حساب، وشرعنا في بناء دولتنا التي نحلم بها، لن نستطيع منع من تضرروا في الماضي من محاولة الاقتصاص ممن أجرموا في حقهم، بإرتكاب ذات الجرائم في حق من ظلموهم. وبالتالي، هدفنا هو العودة بمجتمعنا لنقطة البداية، النقطة التي يكون فيها كل مواطن حر في شوارع بلادنا، مواطنا لم يرتكب من الجرائم ما يجعله مستحقا العقاب.

وهنا تتحقق الخطوة النهائية، وهي المصالحة، بين كل أبناء الوطن الذين لم يرتكبوا جرائم، لبناء قواعد وأسس الوطن الجديد. ولكن كيف يمكن أن نضمن عقاب كل من إرتكب جرائم؟ وهل من الممكن أن تقدم الأجهزة، التي أرتكبت جرائم بحق شعبها، الأدلة التي تدينها؟.

استعادة الثقة بالعدالة الرسمية

على الرغم من أن برنامج العدالة الانتقالية، يعبر عن نفسه في النهاية عبر آليات وقواعد قانونية، إلا أن هذه الإجراءات في الحقيقة، لا تضمن إثبات الجرائم في عدد من الحالات، لكن الأهم من ذلك هو إعادة ثقة المواطنين في منظومة العدالة. الخطوة الأولى لاستعادة الثقة هي إشراك المجني عليهم مع ذويهم، في عملية إجرائية وقانونية لجمع الأدلة، والمحاكمة، من دون أن يخل ذلك بحق المتهمين في المحاكمة أمام محاكم طبيعية، لا إستثنائية.

فالعدالة الانتقالية ليست قواعد جامدة ثابتة يتم تطبيقها بنفس الآلية في مختلف الدول، بل هي أقرب إلى فلسفة عامة، تستهدف غلق صفحة الماضي، ووضع أسس المستقبل من خلال 4 مراحل‪:

المكاشفة

المحاسبة

المصالحة

إعادة الهيكلة‪.

وتعتمد تجارب الدول في تطبيقها على الطبيعة الخاصة لكل دولة.

فعلى صعيد المحاكمة أمام محاكم طبيعية، يجب الحرص على أن تكون المحاكم بتشكيل قضائي كامل، ومن ثم لا يجوز أن يشمل تشكيل المحاكم على أي عنصر غير قضائي.

عندما يتابع ضحايا الانتهاكات مع ذويهم إجراءات جمع الأدلة بأنفسهم، سوف يستعيدون ثقتهم بأدوات منظومة العدالة، وقدرتها على توثيق الانتهاكات التي مورست ضدهم، بمساعدة خبراء أمنيين وقانونيين يختارونهم بأنفسهم. وتصبح هذه الثقة بمنظومة العادلة معبرا لغلق صفحة الماضي بمحاكمات حقيقية، ويصبح المواطن والمتضرر أكثر تقبلًا لفكرة النظر إلى المستقبل، وهو الهدف الأهم.

من خلال تجارب 29 دولة في تطبيق برنامج العدالة الانتقالية 33 مرة، يتضح لنا أن أي محاولة لغلق صفحة الماضي من خلال المؤسسات التي مارست الجرائم في السابق، سيكون مآلها الفشل، فبالإضافة لأن هذه المؤسسات تكون تحت السيطرة الكاملة للنظام الذي يجب محاسبته، فهي لا يمكن أن تحوز ثقة المواطنين، وبالتالي، لن يتحقق الهدف من العدالة الانتقالية.

في المقال التالي:

أسباب عجز أجهزة الدولة عن تنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية بصورة نزيهة، والحاجة إلى تشكيل مفوضية مستقلة من خبراء قانونيين وحقوقيين وخبراء أمن.

قراءة تفصيلية لإجراءات المرحلة الأولى من العدالة الانتقالية، المكاشفة ولجان جمع الحقيقة.

ثم اقتراح يناسب الواقع المصري: تشكيل لجان الحقيقة على غرار المجالس العرفية ولجان فض المنازعات في جميع أنحاء مصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *