د. محمد مدحت مصطفى يكتب: النمط المصري للإنتاج (4- 11).. الأصول (الاجتماعية- الاقتصادية)

يأتي  كارل ماركس Karl Marx 1818 – 1883 الألماني الجنسية ليُقدم أول محاولة منهجية تأخذ كلا من الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية في الحُسبان عند البحث في أصول تطور المجتمعات الإنسانية. ثم تمضي فترة طويلة قبل أن تظهر بعض المدارس في تاريخنا المُعاصر في هذا المجال كالمدرسة الفرنسية، ومدرسة أمريكا اللاتينية، ومدرسة أوربا الشرقية. وسوف نكتفي في هذا المجال بشرح النظرية الأم والتي تفرعت عنها بقية المدارس سواء بالاتفاق أو بالاختلاف معها.

تتمثل نقطة البدء في كون عملية الإنتاج هي أساس وجود المجتمع الإنساني، حيث المجتمع الإنساني هو المجتمع المُنتج الوحيد على سطح هذه الأرض. وبما أن عملية الإنتاج هي في الأصل عملية تتم داخل الجماعة الإنسانية وفي إطار البيئة الطبيعية المحيطة بها، يًصبح من المنطقي البحث عن عناصر التطور داخل تلك العملية. تطرح النظرية في تحليلها لعملية الإنتاج أنها عملية جدلية تُعَد بلورة للصراع الواعي بين الإنسان والطبيعة، حيث يبدأ الإنسان برد الفعل المادي تجاه البيئة الطبيعية المحيطة به في محاولة منه لتنظيمها والسيطرة عليها بغرض الوفاء بحاجاته، إلا أن الإنسان لا يقوم بهذه العملية منفرداً بل يقوم بها بالتعاون مع أقرانه الآخرين.

في الشق الأول من العلاقة (الإنسان ـ الطبيعة) يتوصل الإنسان إلى استخدام أجزاء من الطبيعة المحيطة به كأدوات عمل تساعده في موضوع عملية الإنتاج ذاتها، ويتم التعبير عن أدوات العمل وموضوع العمل بمصطلح (قوى الإنتاج). وفي الشق الثاني (الإنسان ـ الإنسان) تنشأ بين الإنسان وأقرانه الآخرين علاقات إنسانية تدور حول عملية الإنتاج يتوصل خلالها إلى تنظيم مُعين لجماعته الإنسانية، ويتم التعبير عن تلك العلاقات الإنسانية بمصطلح (علاقات الإنتاج). ويُلاحظ هنا ببساطة أن الإنسان هو أساس عملية الإنتاج فهو العامل المشترك في الشق الأول من العلاقة مع الطبيعة وفي الشق الثاني من العلاقة من أقرانه الآخرين.

ننطلق بعد ذلك خطوة أخرى تتمثل في أن عملية الإنتاج تلك ليست مجرد عملية واحدة وينتهي الأمر، بل هي عملية دائمة بدوام المجتمع الإنساني ذاته. ومن ثم فإنه يلزم تكرار تلك العملية عشرات ثم مئات ثم ألوف ثم ملايين من المرات، من خلال هذا التكرار لعملية الإنتاج يتمكن الإنسان من تطوير أدوات إنتاجه البدائية التي توصل إليها في أول الأمر لتُصبح أكثر تقدماً، كما يتوصل لنوع أولي من تنظيم العمل وهو التخصص وتقسيم العمل الفردي حيث كان تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، فتخصص الرجل في أداء بعض العمليات وتخصصت المرأة في أداء عمليات أخرى، كل ذلك ساعد على تطوير فنون الإنتاج ذاتها فعَرِفَ الإنسان الزراعة بعد أن كان قد توصل للصيد، ثم استئناس الحيوان. ومن ثم كانت النتيجة الحتمية لهذا التطور في أدوات الإنتاج وفنونه وكذلك في عملية تنظيمه أن ناتج تلك العملية أصبح يفيض عن حاجة الجماعة ليتكون لأول مرة ما عُرِفَ باسم (الفائض الاقتصادي). حول هذا الفائض الاقتصادي بدأ يدور الصراع بغرض السيطرة عليه، وعَرِفَ الإنسان المِلكية الفردية كـ (شكل تنظيمي)، وهو تطور بالغ الأهمية لأنه سيُصبح العامل الحاكم الرئيسي في تطور المجتمعات الإنسانية منذ ذلك التاريخ وإلى الآن.

وقد ترتب على هذه المِلكية ظهور حقوق التملّك على أدوات الإنتاج أيضاً وليس على الناتج النهائي فقط. وتمثلت أولى مظاهر هذه المِلكية الفردية في امتلاك الإنسان لأخيه الإنسانـ (العبيد) بل وقبل أن يعرف المِلكية الفردية للأرض. وقد احتاج هذا الأمر شكلا مُعينا من التنظيم الاجتماعي يختلف عن الشكل السابق والذي كان يقوم على المِلكية الجماعية.

هذا الشكل الجديد من علاقات الإنتاج والذي استند أساساً إلى القدر الذي تحقق في قوى الإنتاج كونا معاً ما عُرِفَ باسم (نمط الإنتاج). ومن ثم يكون (نمط الإنتاج) توصيفا مُجرّدا لمستوى تطور قوى الإنتاج في المجتمع في علاقتها بعلاقات الإنتاج السائدة في ذلك المجتمع في مرحلة ما من مراحل تطوره. هذا النمط الإنتاجي يُمثل الأساس الاقتصادي للمجتمع أي ما يُعرَف باسم (البناء التحتي) للكُل الاجتماعي. ولكن هذا الكُل الاجتماعي لا يتكون من الأساس الاقتصادي فقط، بل يتكون أيضاً من مجموعة المعارف والأفكار والفنون والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع والتي تُشكل معاً ما يُعرِفْ باسم (الوعي الاجتماعي)، ثم مجموعة العلاقات المُنظمة لإدارة المجتمع ـ بخلاف علاقات الإنتاج ـ المُتمثلة في التشريعات التي يرتضيها ذلك المجتمع في لحظة تاريخية ما، وتُمثل هذه المجموعة من العناصر معاً ما يُعرَفْ باسم (البناء الفوقي) للكل الاجتماعي.

 نحن الآن إذن بصدد بنائين أحدهما فوقي والآخر تحتي يبدو لأول وهلة أنهما منفصلان، لكن الواقع يؤكد أن هذين البنائين في علاقة جدلية مستمرة يُؤثر كل منهما في الآخر، ويُشكلان معاً ما يُعرَفْ باسم (التكوين الاجتماعي)، وهو توصيف ملموس لواقع الحياة الاجتماعية. وقد تطورت المجتمعات الإنسانية عبر العديد من التكوينات الاجتماعية لكل منها خصائصها المميزة، وأثناء ذلك التطور نجد أن التكوين الاجتماعي الواحد قد يضم عدة أنماط إنتاجية يُعَد واحد منها نمطاً سائداً بينما تأخذ الأنماط الأخرى في الاندثار مُفسحة الطريق أمام سيادة نمط الإنتاج الجديد.

ومن الناحية الإجرائية البحتة نجد أن عِلم الاقتصاد يهتم بدراسة البناء التحتي (الأساس الاقتصادي) للكُل الاجتماعي آخذاً في الاعتبار مُعطيات البناء الفوقي، بينما يهتم عِلم الاجتماع بدراسة البناء الفوقي للكُل الاجتماعي آخذاً في الاعتبار مُعطيات البناء التحتي، مع التأكيد الدائم على العلاقة الجدلية بينهما في التكوين الاجتماعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *