د. زهدى الشامى يكتب:أبعاد وتداعيات هزيمة أمريكا فى أفغانستان

لازال العام مذهولا من أحداث الزلزال الأفغاني ، وكيف لا والقوة العالمية الأكبر و التى قادت تحالفا دوليا أطلسيا مدججا بكل أسلحة الدمار لمواجهة ماسمته الإرهاب ، واجتثاث حكم طالبان التى كانت قد وصلت للسلطة فى كابول ، تخرج قواته من افغانستان ، ويسقط النظام الموالى له فى أيام وتدخل طالبان كابول مرة أخرى بعد أن سيطرتفى ١١ يوما على كافة المقاطعات .


ربنا لم يستوعب البعض عندنا الموقف وراحوا على عكس كل الوقائع من تصريحات كافة الأطراف، وتطور الوقائع الميدانية، والمشاهد الحية من افغانستان، وفى مقدمتها صور الآلاف من الأفغان الموالين لنظام أشرف غنى الموالى لأمريكا ، وهم يتعلقون بالطائرات فى محاولة للفرار ، ورددوا كثيرا مماينتمى لنظرية مؤامرة وهمية تدور حول أن كل ذلك خطة أمريكية وتفاهم وتواطؤ أمريكى طالبانى موجه ضد روسيا والصين ، ولكن تلك أقوال بالغة الضعف والارتباك ، لأنها تصطدم مع حقيقة الصدمة التى عاشتها أمريكا، تراجع سمعتها العالمية ، والمقارنة التى أصبحت تفرض نفسها مع الهزيمة فى فيتنام ، ومع كل المؤشرات التى تشيرى لنوع من الارتياح لدى روسيا والصين ، ولا نقول باكستان وتركيا ، فهذه الدول هى التى تكسب مساحة فى أفغانستان اليوم وليس أمريكا .


وربما لم ينتبه هؤلاء أن الهزيمة فى مثل تلك الحروب غير النظامية خصوصا ، وفى حروب كثيرة عموما لا تكون بالضربة القاضية بل بالنقاط ، على طريقة الملاكمة والمصارعة .

فى الحرب غير النظامية يهدف الطرف الأضعف لتجنب المواجهات الحاسمة ، وكسب الوقت للمحافظة على قواته، وتوجيه ضربات متوالية هنا وهناك تنهك العدو .

ويعتبر فشل الطرف الأقوى فى القضاء على الخصم واستمرار نزيف خسائره هزيمة فى حد ذاته فى المقام الأخير . وقد وصلت أمريكا لهذا الاستنتاج بعد عشرين عاما من الحرب ، وتبلورت تلك القناعة سوءا لدى ترامب أو بايدن ، ولربما هذا الأمر الوحيد الذى اتفق حوله ، بعد أن وصلت وفيات الأمريكيين فى الحرب إلى ٢٣٠٠ قتيل ، وبخساب الاصابات ربما وصلت إلى ٢٣ ألفا، بالإضافة لانفاق حوالى تريليون دولار ، بينما فقد الجيش الأفغاني الحليف حوالى ٤٥ ألف قتيل .


لقد أصبح الاستنتاج واضحا للأمريكيين أنهم مهما ارسلوا من قوات فلن يكسبوا تلك الحرب ، ومن هنا كان قرارهم الاستراتيجى بتقليص قواتهم ثم الإنسحاب .


لايعنى وجود اتفاق بين أمريكا وطالبان اى تغيير فى فهم تلك الحقائق . الحروب فى الغالب تنتهى باتفاقات تأخذ مسميات مختلفة ، وتعكس حقيقة الوضع عند ابرامها أما نصرا أو هزيمة بدرجات مختلفة .

والحالة الوحيدة التى لاتعقدفيها اتفاقيات هى حالة التسليم غير المشروط ، مثلما حدث فى الحرب العالمية الثانية من إصرار الحلفاء على تسليم ألمانيا النازية بدون قيد أو شرط ، وماكان لهم أن يقبلوا بدون ذلك بعد أن أدت جرائم هتلر إلى ابادة حوالى ٦٠ مليون إنسان . ام فى غالبية الحالات لاتنتهى الحروب كما ذكرنا إلا باتفاقيات ومعاهدات .

معاهدة فرساى فى الحرب العالمية الأولى، وصلح برست بين روسيا البلشفية وألمانيا ، وحتى فى فيتنام جرت مفاوضات بين الفيتناميين و الأمريكيين فى باريس ، وبين العرب وإسرائيل عقدت اتفاقيات هدنة ، وهكذا .


فلا مجال لأى استنتاجات مبالغ فيها حول اتفاق ترامب وطالبان ، وهو الاتفاق الذى لم يلغه بايدن ، بل أجل تنفيذه قليلا ، إلى أن حدث ماحدث ، وانهارت الحكومة الحليفة له بمجرد الانسحاب .

والاتفاق مع طالبان فى حد ذاته إقرار بهزيمة استراتيجية، لأنه يعكس اخفاق أمريكا فى تحقيق هدف حرب العشرين عاما وفى صلبه الإطاحة بسلطة طالبان، أما طريقة التنفيذ و وانهيار الحكومة التابعة فى أيام فهو هزيمة تكتيكية إضافية، لأن أسوأ التقديرات كانت تفترض استمرارها لعدة شهور على الأقل . وفى السوابق التاريخية المشابهة استمرت الحكومة الموالية لأمريكا فى فيتنام فى القتال لعامين بعد انسحاب أمريكا ، واستمرت الحكومة الموالية للسوفيت فى أفغانستان فى القتال أيضا لعامين . وهنا الفشل الأمريكى الكبير لبايدن وحلفائه .


ماذا عن المستقبل لازالت الاجتهادات متنوعة هل تتغير طالبان أو لا تتغير ، هل تنفتح بتشكيل حكومة واسعة يقبلها العالم أم لاتنفتح ؟ كل هذا تكشف عنه الأيام القادمة . لكن الدرس الثابت والمؤكد هو انه لا يكفى الإطاحة بنظام قديم مهما كان سيئا إذا لم تقدم بديلا له نموذجا أفضل يحظى بالفعل بموافقة وشرعية شعبية واسعة .

وفى غياب ذلك، وفى ظل الاكتفاء بمنطق القوة الغاشمة ونظم المحاسيب، فلايلومن أحد إلا نفسه إذا عاد القديم الذي ظنوا أنهم قضوا عليه للأبد ولو بعد عشرين سنة !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *