تحقيق لـ”نيويورك تايمز”: وفاة مرضى كورونا بمستشفى الحسينية بسبب انقطاع الأكسجين.. الشحنة تأخرت لساعات بينما كانوا يختنقون

 محاولات استخدام الأكسجين الاحتياطي لم تفلح في إنقاذ المرضى.. وأفراد بالطاقم الطبي: الوضع بغرفة العناية المركزة كان أسوأ

 مسؤولو المستشفى طلبوا الدعم من وزارة الصحة.. وشاحنة التوصيل تأخّرت أكثر من 3 ساعات عن موعدها.

طبيب عناية عاجلة في نيويورك محللا “فيديو “الحسينية”: عدم اتصال الأنبوب بالوسادة الهوائية يشير لتزويد المرضى بهواء عادي.. الأمر لا يحدث إلا في غياب الأكسجين

نيويورك تايمز

كشف تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن وفاة مصابي كورونا في غرفة العناية المركزية بعزل مستشفى الحسينية في الشرقية، نتيجة انقطاع إمدادات الأكسجين عنهم، وليس بسبب سوء حالاتهم الصحية كما أعلن مسؤولون حكوميون.

من شرفة أحد المستشفيات المصرية، شقّت صرخة إحدى الممرضات سكون الليل لتعلن أن مرضى كوفيد في غرفة العناية المركزة يلفظون أنفاسهم الأخيرة.‎

أحمد نافع، الذي كان يقف خارج المبنى، اندفع بسرعة متجاوزًا حارس الأمن إلى غرفة العناية المركزة ليجد عمّته التي تبلغ من العمر 62 عامًا قد فارقت الحياة.

وسط مشاعر الغضب، أخرج نافع هاتفه المحمول وبدأ بالتصوير. بدا أن إمدادات الأكسجين في المستشفى قد نفدت. وكانت شاشات المراقبة تطلق صفيرها، وممرضة تبدو عليها علامات الصدمة قد انزوت في أحد أركان الغرفة، بينما يحاول الآخرون إنعاش مريض باستخدام جهاز تنفس يدوي.

انتشر مقطع الفيديو الذي التقطه نافع، ومدّته 47 ثانية، انتشارًا واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي الشهر الجاري، وفيه تظهر الفوضى في مستشفى الحسينية المركزي، على بعد ساعتين ونصف شمال شرق القاهرة.

 ومع تزايد حدّة الغضب نفت الحكومة نفاد الأكسجين من المستشفى، وذكر تصريح رسمي، صدر في اليوم التالي للواقعة، أن المرضى الأربعة كانوا يعانون من “مضاعفات” وأن وفاتهم لم تكن لها “ علاقة” بنقص الأكسجين. استجوبت النيابة نافع، وألقى المسؤولون باللوم عليه لانتهاكه القواعد التي تمنع الزيارات والتصوير داخل المستشفيات، لكن التحقيق الذي أجرته منى النجار ويسر الحلو لصحيفة “نيويورك تايمز” كشف شيئًا آخر.

وذكر شهود عيان، من بينهم أفراد الطاقم الطبي وأقارب المرضى، في لقاءات أجرتها معهم الصحيفة، أن ضغط الأكسجين انخفض إلى مستويات متدنية جدًا، وأن 3 مرضى على الأقل، وربما 4، قد ماتوا بسبب نقص الأكسجين.

يُذكر أيضًا أن عدة أطباء في كل من مصر والولايات المتحدة قد أجروا تحليلًا دقيقًا للمقطع المصوّر وأكدوا أن حالة الفوضى التي عمّت غرفة العناية المركزة إنما تشير إلى تقطع في إمداد الأكسجين.

وتبين أن نقص الأكسجين الذي أودى بحياة المرضى كان نتيجة لسلسلة من المشاكل التي يعاني منها المستشفى. فبينما كان المرضى يتعرضون للاختناق في غرفة العناية المركزة، كان هناك تأخيرٌ لمدة ساعات على وصول شحنة أكسجين تم طلبها في وقت سابق، ولم تنجح أيضا محاولات استخدام الأكسجين الاحتياطي.

وقال أحد الأطباء بالمستشفى، الذي رفض الكشف عن هويته خشية التعرّض للاعتقال: “لن ندفن رؤوسنا في الرمال ونتظاهر بأن كل شيء على ما يرام. يمكن للعالم أجمع أن يقرّ بأن لديهم مشاكل؛ أما نحن فلا.”

لم يكن اندفاع الحكومة إلى إنكار الواقعة إلا مثالا آخر على غياب الشفافية بشأن استجابتها لأزمة كوفيد، وهو ما أسفر عن انتشار حالة من الارتياب في التصريحات العامة.

رأى كثيرٌ من المصريين في المقطع الذي صوّره نافع مشهدا نادرًا وغير مألوف للخسائر الفعلية التي خلّفها فيروس كورونا وسط ذروة الموجة الثانية من الجائحة في مصر.

أقرّت الحكومة المصرية بوفاة 4 أشخاص في غرفة العناية المركزة يوم الثاني من يناير، لكنها نفت أن تكون وفاتهم بسبب نقص الأكسجين.

وذكرت وزارة الصحّة في تصريح رسمي أن حالات الوفاة كانت لمرضى أغلبهم من كبار السن، وأنها وقعت في فترات زمنية مختلفة، وأن مرضى آخرين، من بينهم أطفال حديثو الولادة في قسم الحضانات، كانوا يحصلون على الأكسجين من نفس الشبكة ولم يتأثر أحدٌ منهم. وأضافت الوزارة أن هذه المعطيات تؤكد “عدم وجود علاقة بين حالات الوفاة وما يثار عن حدوث نقص في الأكسجين بالمستشفى”.

وأكّد أفراد بالطاقم الطبي أن الأكسجين في المستشفى لم ينفد تمامًا، لكنّ الضغط أصبح منخفضًا بدرجة خطيرة.

وأضافوا أن الوضع كان أسوأ في غرفة العناية المركزة وأن ضغط الأكسجين لم يكن كافيًا للحفاظ على حياة المرضى.

كما أوضحوا أن المنافذ التي تجلب الأكسجين إلى غرفة العناية المركزة ربما كانت في نهاية الشبكة أو ربما كانت هناك مشاكل أخرى في خط الإمداد.

لم تنجح محاولات العاملين في المستشفى لإنقاذ الموقف بسبب وجود مشاكل أخرى. فعندما حاولوا تحويل إمداد الأكسجين في غرفة العناية المركزة من خزان المستشفى الرئيسي إلى المخزون الاحتياطي، بدا أن هناك زيادة في العبء على النظام البديل ولم يعمل.

وفي وقت سابق من نفس اليوم، عندما أدرك مسؤولو المستشفى انخفاض مستوى الأكسجين، طلبوا من وزارة الصحة تزويد المستشفى بالمزيد. لكن شاحنة التوصيل التي كان مقررا لها أن تصل بعد ظهر ذلك اليوم تأخّرت أكثر من ثلاث ساعات عن موعدها، ويقول طبيب المستشفى: “لو كانت الشاحنة قد وصلت قبل السادسة مساءً لما حدث أيٌّ من ذلك.”

ورصد الخبراء الطبيون الذين حلّلوا المقطع المصوّر، ومنهم 6 أطباء في الولايات المتحدة و مصر، بعض التفاصيل التي تدعم رواية انقطاع الأكسجين.

لم يظهر أي مريض في مقطع الفيديو متصلًا بخط الأكسجين الرئيسي، وبيّن المقطع أحد الأطباء وهو يستخدم أسطوانة أكسجين محمولة، كالتي تُستخدم عادة في حالات الطوارئ. وعلى بعد بضعة أمتار، كانت مجموعة من الممرضات يحاولن إنعاش مريض باستخدام وسادة هوائية يدوية لا يبدو أنها متصلة بأي مصدر للأكسجين.

يقول الدكتور هشام النشواتي، وهو طبيب عناية عاجلة في نيويورك كان سابقا يعمل في وحدات العناية المركزة: “لا يوجد أنبوب أكسجين متصل بالوسادة الهوائية، ما يعني أن المريض يُزوّد بهواء عادي، وهو أمر لا يحدث عادةً. بل من المستحيل أن يحدث إلا في غياب الأكسجين.”

أما الدكتور بشرى مينا، المصري الأمريكي ورئيس قسم طب الرئة في مستشفى لينوكس هيل، والذي عالج مئات المصابين بكوفيد – 19 في نيويورك، فقد لاحظ “العجلة الشديدة” التي كان يحاول بها الطبيب وطاقم التمريض في الفيديو “الحصول على أكسجين الطوارئ أو أكسجين إضافي للمرضى.”

وقال الدكتور مينا: “يمكن لوضع كهذا أن يكون مربكًا حتى في الولايات المتحدة بكلّ ما لديها من موارد. فما بالك بهذا الوضع في مصر، حيث الموارد محدودة والكل يعمل فوق طاقته.”

 أزمة نقص الأكسجين في مستشفى الحسينية المركزي قد لا تكون الوحيدة من نوعها، فقد امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بما يشير الى تكرار أزمة نقص الأكسجين في مستشفيات أخرى لمدة أسبوع كامل.

وأطلق مدير أحد المستشفيات استغاثة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي دعا فيها الناس إلى التبرع بأسطوانات الأكسجين بسبب “احتياج ضروري” إليها. كما نشر مريض في مستشفى آخر مقطعًا مصوّرًا التقطه لنفسه داخل ردهة العزل وهو يقول: “لا يوجد لدينا ما يكفي من الأكسجين”. وانتشر كذلك مقطع فيديو شبيه بالمقطع الذي صوره نافع على مواقع التواصل الاجتماعي.

وتساءل أيمن سبع، الباحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: “هل توجد فعلا مشكلة؟” واستطرد قائلا: “لا يمكن لأحد أن يقول أن لديه هذه المعلومات باستثناء الحكومة.

ولكن أداء الحكومة المصرية خلال الأزمة لم يولد الثقة لدى المصريين، فقد وصف الرئيس عبد الفتاح السيسي من ينتقدون جهود الحكومة المصرية في التصدي لأزمة كورونا بأنهم “أعداء الدولة”. وقامت الجهات الأمنية بطرد صحفية أجنبية شككت في الأرقام المعلنة للإصابات؛ كما توعّد النائب العام أي شخص ينشر “أخبارًا كاذبة” حول فيروس كورونا بعقوبة السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات.

ودخلت الحكومة في حالة عداء شديد مع الأطباء الذين احتجّوا في الأشهر الأولى من الجائحة بسبب نقص أدوات الحماية الوقائية، وجرى اعتقال عدد من الأطباء.

يقول السباعي: “إنهم يحاولون فرض روايتهم بأن الأوضاع تحت السيطرة. ومن وسائل تحقيق ذلك التحكم في المعلومات التي تصل إلى العامة. ليست لديّ مشكلة في ذلك لو أن المعلومات التي تصلنا تكون ذات مصداقية يمكننا أن نعوّل عليها.”

ولكن عندما ظهر فيديو مستشفى الحسينية المركزي وصل الأمر بالمسؤولين إلى حدّ إخبار الناس بأن ما يرونه ليس صحيحا.

وقال ممدوح غراب، محافظ الشرقية التي يقع فيها مستشفى الحسينية المركزي: “هذا المشهد مش مشهد انقطاع أكسجين.” جاء ذلك ضمن مداخلة مع برنامج تلفزيوني؛ ولم يقدم البرنامج أي مقابلة ولم يستضف أي شهود للرد على الرواية الرسمية.

حتى الأرقام الرسمية يبدو أنها لا تعبر عن الواقع. فقد أعلنت مصر عن أكثر من 150 ألف حالة إصابة بمرض كوفيد – 19 وأكثر من 8000 حالة وفاة، وهي أرقام منخفضة للغاية مقارنة بسائر دول المنطقة وبالنظر إلى تعداد السكان الذي يزيد على 100 مليون نسمة.

لكن بعض الخبراء، بل وبعض المسؤولين، يرون أن الأرقام المعلنة للإصابات والوفيات أقلّ بكثير من الأرقام الفعلية بسبب النقص في إجراء الفحوصات على نطاق واسع، ولأن المختبرات التي تجري الفحوصات لا تبلّغ الحكومة دائما بالنتائج.

وعلى الرغم من نفي الحكومة واقعة نقص الأكسجين في مستشفى الحسينية المركزي، بدأ المسؤولون باتخاذ إجراءات لحلّ المشكلة، وكأن ذلك إقرار ضمنيًّ بوجودها.

فقد أقرت وزيرة الصحة هالة زايد بوجود نقص في شاحنات توصيل الأكسجين وتأخير في عملية التوزيع. كما أن الرئيس السيسي طالب الحكومة بمضاعفة إنتاج الأكسجين لتلبية الارتفاع الشديد في الطلب، واتخذت الحكومة إجراء آخر بمنع الزائرين من اصطحاب هواتفهم المحمولة إلى داخل المستشفى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *