«ابن البلد» في مائة عام.. قراءة في تطور مفهوم الكلمة.. من قصص الأبطال الشعبيين إلى فتوات السينما

 كيف اختلف مفهوم الكلمة وتطورت رؤية الناس لصاحبها وتعامل التراث الشعبي معها ؟

أفلام جسدت تطور الشخصية من «فتوات الحسينية» « وابن حميدو»، وحتى «الشيطان يعظ» و«سعد اليتيم» و«الحرافيش»

 شخصية ابن البلد في السينما بين  الفتوة والبلطجي والبطل الشعبي الذي يناصر المظلومين وينفذ قوانين العدالة بطريقته

كتب- إسلام الكلحي

كان يسمى قديما «الذوق» فيقولون فلان ذوق، وهو اختصار لذي ذوق وأحيانا يسمونه «ابن ذوق»، والفرق بين «ابن الذوق» و«ابن البلد» أن الأول راعى فيه حسن التصرف أكثر مما يراعى حسن الشكل وما إلى ذلك، أما «ابن البلد» فيراعى فيه الأمران جميعا، حسبما يذكر الكاتب أحمد أمين في قراءته لمفهوم ابن البلد، وكيف كان المصريون يرونها، فهل لا تزال كلمة «ابن البلد» تحمل نفس المعني وكيف تطورت الكلمة ومدلولها عبر العصور .. نحاول السباحة في المدلول الثقافي للكلمة وتطوراتها الاجتماعية والثقافية وكيف تعاملت السينما وتعامل المواطنون معها؟

يقول الدكتور خالد أبو الليل، أستاذ الأدب الشعبى بجامعة القاهرة، إن ابن البلد ارتبط ومازال يرتبط بالحارات والمناطق الشعبية، وهي المناطق التي تكون أكثر محافظة على العادات والتقاليد، مشيرا إلى أنه شخص يتسم بالشهامة والجدعنة والأمانة، موضحا أن من يتمتع بهذه الصفات يُطلق عليه «ابن بلد».

وبحسب أستاذ الأدب الشعبى بجامعة القاهرة، كان «ابن البلد» في فترة من الفترات هو الفتوة في وجة نظر البعض ما جعل الأمر ملتبسا، فقد ظهر في الأعمال السينمائية المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ أن الاثنين واحد، لكن في رأي أبو الليل «الاتنين مش احد».

وفي هذا السياق، كان الناقد الراحل سامي السلاموني، قد عبر في مقال بعنوان «الجوع.. نموذج من سينما تحترم جمهورها» عن استفزازه من تحويل حرافيش نجيب محفوظ إلى سلسلة من الأفلام التي استهلكت هذا الموضوع والفترة التاريخية إلى حيذ الابتذال، فحولت المسألة كلها إلى فتوات ونبابيت وسيل من الدماء يغرق الشاشة وبلا أي فهم أو وعي حتى بما يعنيه نجيب محفوظ نفسه لمفهوم «الفتوة» عنده كبطل شعبي نابع من قلب الحرافيش، وهم عامة الشعب ليحقق لهم الحق والعدل، بحسب ما جاء في كتاب الفتوة في السينما المصرية»، للكاتبة ناهد صلاح.

الفرق بين الفتوة وابن البلد

يقول أبو الليل إن المدن كالقاهرة كانت مقسمة لمناطق؛ كل منطقة لها فتوة يحمي أهلها مقابل إتاوة (مبلغ من المال)، مشيرا إلى أن الفتوة كان يدافع عن أهل المنطقة مقابل أجر نظير الحماية، أما ابن البلد فكان يدافع عن الضعيف دون مقابل بدافع حبه للخير وغيرته على الناس، فبالتالي «هناك فرق كبير بينهما».

ابن البلد في قاموس العادات والتقاليد

ويقول الكاتب والمؤرخ المصري أحمد أمين، في كتابه «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية» عن كلمة «ابن البلد»: «أدركتها منذ50 عاما تطلق على الرجل الذي يجمع صفات مختلفة في ملبسه وحديثه وهيئته وطريق سلوكه».

فهو يلبس جبة وقفطانا وعمامة ويُعني بها كل العناية، ولا بد أن تكون هذه الملابس مستوفية لشروط كثيرة، فيجب أن يكون نسيجها خفيفا لطيفا وأن يكون لون الجبة زاهيا كالأزرق الفيروزي أو الأخضر الفستقي أو الأحمر القرمزي، وأن يكون لون الجبة منسجما تمام الانسجام من لون القفطان، وأن يكون لون الحزام منسجما معهما.

ويجب أن يكون طربوش العمامة خفيف الوزن، وأن تكون العمامة قليلة وأن يكون شال العمامة مفتلا، وأن تظهر هذه الفتل من الأمام على شكل دبابيس.

ويجب أن يكون «المركوب» أحمر خفيف الجلد رقيق النعل صغير الوجه، ويلبس في يده خاتما رفيعا من الذهب فصه فيروز أو ياقوت أو زمرد، وأن يكو وجهه حلقا دائما كأنما خرج من عند الحلاق لساعته، وأن يكون مقصوص الأظفار دائما.

ويجب أن يُعني العناية التامة بكل شيء في هندامه، فالجبة والقفطان مهندستان هندسة تامة لا يشذ أحدهما عن الآخر في شيء مهما قل، والعمامة موضوعة على الرأس بأناقة والمركوب في الرجل منسجم.

وهو في كل ذلك نظيف أنيق يتحرج من أي شيء يعلق بثيابه أو بأطرافه، وأكثر من شاهدتهم من هذا القبيل كانوا شعاف البنية نحيلي الجسم عليهم آثار المرض، وذلك لسببين:

الأول: أن رقة عواطفهم ناشئة غالبا من ضعف مزاجهم

الثاني: أن نوع معيشتهم لا يبعث على حركة ونشاط فيستلزم ذلك ضعفا في صحتهم، يُضاف إلى ذلك أن كثيرا منهم كانوا يستعملون المعاجين «وحق» العنب، ونحو ذلك من المكيفات، وفي هذا كله إتلاف للصحة.

وتطرق أستاذ الأدب الشعبى بجامعة القاهرة، إلى الحديث عن زي «ابن البلد» قديما وحديثا، حيث قال إنه منذ ما يقرب من 100 عام وبحكم الطابع الريفي والشعبي كان يرتدي الشخص جلابية وعمامة، وهذا كان زي معظم المصريين، وهذا الزي كان يرتديه «ابن البلد» فيكسبه قبول عند الناس.

ويتابع أبو الليل: «حينما تطور المجتمع أصبحت هناك مجموعة صفات متى توافرت في شخص يقول عنه الناس إنه ابن بلد.. سواء توافرت في شخص في الريف أو المدينة بغض النظر عن زيه، كالشهامة والجدعنة»، مشيرا إلى أنه من الممكن أن تجد شخص يرتدي الزي الذي كان يرتديه ابن البلد قديما ولكنه ليس «ابن بلد»، موضحا أننا الآن أصبحنا نتحرك في سياق صفات» فقط متى توافرت في الشخص يُطلق عليه لفظ «ابن البلد» سواء كان يرتدي «جينز» أو «جلابية وعمة».

سلوك ولوازم

وعن سلوك «ابن البلد» قال مؤلف «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية»: هو خافض الصوت؛ إذا تكلم ففي أناة ورقة وإذا ضحك فعلى قانون، وإذا مشى ففي تؤده تام حتى لا تختل هندسة ملابسه، وإذا رأى أمامه أرضا مرشوشة عمل لها ألف حساب كيف يتخطاها من غير أن ينال «مركوبه» أذى، ومن غير أن ينال أذياله مكره، وإذا أكل فالأناقة التامة من تصغير اللقة والدقة في نظافة أصابعه، والمراعاة الدقيقة حتى لا ينال ثوبه شيء مما يأكل ونحو ذلك.

ولابن البلد – وفق أمين- اصطلاحات في كلامه ولوازم يكثر من استعمالها، فهو بين كل كلمة وكلمة يقول: «بلا مؤاخذة» و«بلا قافيه» و«يكرم من سمع» و«عن إذنك» و«اسمح لي» و«يا سيد» و«أعزك الله» و«أكرمك الله»، ونحو ذلك من الكلمات الشائعة بينهم، الدائرة على ألسنتهم.

وابن البلد – في العادة – يكثر من، ويستعمل في حديثه الكناية والتورية ويعرف مناحي الكلام، ويستطيع أن يرد على النكتة بمثلها أو بأحسن منها، ويجتهد أن يرضى محدثه كل الرضا، فلا يجرح إحساسه و يخدش عواطفه ولا يسمعه كلة قاسية، وإذا رأى الحق يؤلم فلا بأس من الكذب، ويتحرّى أن يجعل آخر الحديث نكتة ختامية تثير الضحك وتبعث الرضا فيمتلىء المكان بالسروق، ويتفرق الجالسيون أو المتحدثون وفي نفوسهم الإعجاب بـ«ابن البلد».

ولا يرى أستاذ الأدب الشعبى بجامعة القاهرة، أن «ابن البلد» في العصر الحالي له «لوازم في الكلام» كما يصف الكاتب والمؤرخ أحمد أمين في كتابة، مشددا على أن شخصية «ابن البلد» تداخلت مع المجتمع، وانتقلنا من ناحية الشخصية التي أصبحت مرادف لمجموعة صفات كالأصل الطيب والمروءة والشهامة، إلى ناحية الصفات.

وكان «ابن البلد» يسمى قديما «الذوق» فيقولون فلان ذوق، وهو اختصار لذي ذوق وأحيانا يسمونه «ابن ذوق»، والفرق بين «ابن الذوق» و«ابن البلد» أن الأول راعى فيه حسن التصرف أكثر مما يراعى حسن الشكل وما إلى ذلك، أما «ابن البلد» فيراعى فيه الأمران جميعا، حسبما يذكر الكاتب أحمد أمين.

التغريب

يقول جلال أمين في كتابه «ماذا حدث للمصريين؟»: «ظلت الطبقات الواقعة في أسفل السلم الاجتماعي حتى قيام ثورة 1952 معزولة إلى حد كبير عن الاحتكاك بالغرب ومحرومة في نفس الوقت من القدرة على تقليده حتى لو تطلعت إليه؛ ثم بدأت حركة التغريب تمتد إلى هذه الطبقات بالتدريج في الخمسينات والستينات مع ارتفاع دخولها وانتشار التعليم بين صفوفها وزيادة تعرضها لوسائل الإعلام الآخذة في الانتشار».

ويضيف جلال أمين حول التغريب الذي حدث للمجتمع المصري في الأربعين عاما التالية لصورة يوليو 1952: «كان من الممكن مثلا للباشا المصري أن يحيى أفراح أنجاله بحفلات تحييها أم كلثوم أو عبد الوهاب، بينما قد يصر حديثو الثراء اليوم على الاحتفال بها في الهيلتون أو الشيراتون على أنغام الموسيقى الراقصة الغربية. وكان من الممكن ألا يستحي الاقطاعي المصري الكبير من ارتداء الجلباب في مزرعته وسط فلاحيه، بينما قد يعتبر التاجر المصري اليوم هذا من قبيل التخلف عن الحياة العصرية».

ابن البلد بعد التغريب

يقول أبو الليل إن كثيرين يبحثون عن شخصية ابن البلد لأن هناك تفتيت للقيم، لافتا إلى أن الناس يتمسكون بأبطال السير الشعبية لأن نفسهم يجدوا هذا البطل/ الشخص».

وضرب أبو الليل مثالا عن تغير هيئة «ابن البلد» في الوقت الحالي عن الهيئة التي وصفها أمين في كتابه «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية»، قائلا إننا نجد فنانين يطلق عليهم لفظ «ابن البلد» لأنهم يودون أصحابهم ويزورون النجوم القدامى حين يمرضون، ويقفون أمام أي فنان كبير من النجوم القدامى يمر بأزمة مالية فيعطيه دور شرف في أي عمل فني له، ليساعد هذا النجم في أزمته المالية.

وأشار أبو الليل إلى أن هؤلاء الفنانين أبعد ما يكون عن شخصية «ابن البلد» التي في ذهننا، ولكن يُطلق عليهم اللفظ لأن لديهم صفات «ابن البلد» التي سمعنا عنها.

وفي هذا السياق، نجد مثلا رجل أعمال كنجيب ساويرس، رئيس مجلس إدارة شركة أوراسكوم للاتصالات والإعلام والتكنولوجيا، يعتبر استثماره في مصر «جدعنه»، حيث قال في تصريحات صحفية عن مدى تحفيز المناخ الحالي في مصر للاستثمار: «للأسف لا، أنا بستثمر عشان أنا ابن البلد وعايش على مرها وحلاوتها».

الفتوة وابن البلد في السينما

في كتاب «الفتوة في السينما المصرية»، تعتبر الكاتبة ناهد صلاح «الفتوة» كما قدمته اللغة «ارتبط بسمات كالقوة» والشهامة والشجاعة التي يهرع أصحابها إلى نجدة الغير. ويتضح هنا مدى الخلط بين الفتوة وابن البلد، كما أشار أبو الليل.

وتقول مؤلفة «الفتوة في السينما المصرية» إن السينما المصرية عبرت عن نموذج الفتوة كبطل شعبي في أغلب الأحيان على أنه نموذج إيجابي يناصر المظلومين وينفذ قوانين العدالة بطريقته، فصورة «الفتوة» كما حرصت السينما المصرية على تقديمها هي صورة تتعلق بمفاهيم مثل الشرف والنبل والقوة. أما النماذج المشوهية للبلطجية فقد ادنتها السينما بوضوح.

وبين أفلام عديدة مثل «فتوات الحسينية»، «حميدو»، «رصيف نمرة 5»، «الشيطان يعظ»، «فتوات بولاق»، «فتوة الجبل»، «فتوة درب العسال»، «فتوة الناس الغلابة»، «شهد الملكة»، «سعد اليتيم»، و«الحرافيش»؛ ظهرت شخصية ابن البلد تارة في صورة «فتوة»، واختفت تارة أخرى وظهر الفتوة «البلطجي».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *