إيمان عوف تكتب: طبيبة السلام وأم منة.. للموت أوجه عديدة

خيط مؤلم امتد من مدينة السلام لشبرا الخيمة، التف حول عنقي، وأنا أتذكر أن طبيبة السلام ليست وحيدة، فهناك آلالاف الضحايا لهذا المجتمع المنافق الذي يدراي فيه الرجال ضعفهم الجنسي وقلة حيلتهم، في أن يصرخوا بكل الأفعال القبيحة وأن يستقووا على نساء لم يطلبن من الدنيا سوى قليل من الأمان والراحة.

لا أعرف تحديدًا مصدر هذا الوجع الذي استولى على مشاعري وعقلي، عندما سمعت قصة طبيبة السلام التي ضبطها مجتمع الفضيلة مع صديقها! ، ذلك الوجع الذي ظللت أقاومه نهارًا كاملًا.

التف الخيط حول عنقي أكثر وأكثر، وأنا أتذكر جارتي أم منة ذات الوجه الصبوح والعيون الحزينة دائمًا، تلك المرأة التي جاءت من بلدتهم بالريف للقاهرة، تحمل خيبات أمل متكررة في زوج قرر أن يتزوج عليها ثانية وثالثة وقد يكون الآن تزوج الرابعة، وفي رقبتها طفلين لم يتخطيا العاشرة من عمرهما.

تذكرت عرقها وأنفاسها المتلاحقة وهي ترفع ما تبقى لها من عفش من الدور الأول للخامس بمفردها، لأنها لا تملك على الإطلاق ما تدفعه لعمال يساعدونها، ورجال حارتنا يتفحصون جسدها، دون أن تدفعهم فحولتهم في أن يتطوع أحدهم ليساعدها، بل ظلوا في مكانهم يخططون كيفية الإيقاع بالفريسة الضعيفة التي جاءت تبدأ حياة جديدة لها ولأطفالها.

تصورت كم المشاعر والأفكار والأحاسيس التي شعرت بها طبيبة السلام في الثواني القليلة منذ الزج بها وسقوط جسدها على الأرض، هل تذكرت الخذلان، أم لحظات الفرحة، هل استسلمت، أم كان لديها أمل في أن تعيش من جديد، هل شعورها بأنها في كابوس ستستيقظ منه كان مفرحًا، أم أنها فقدت رغبتها في الحياة، مثلما كانت تخبرني دائمًا أم أمنة، بأن الرحمة الوحيدة التي قد تجدها في هذه الدنيا هي أن تفارقها، فالدينا لا تعترف بالضعيف وخاصة لو كانت امرأة.

أيام قليلة وتعرفت إلى السيدة التي كانت تجر رجلها من التعب بعد أن تمسح سلم، أو تقوم بتنظيف شقة هنا أو هناك، عرضت على أن تساعدني في أعمال المنزل، وبدأ الحديث والشكوى، من ملاحقات رجل هنا واتصالات رجل هناك، وكيف يتسبب لها رفض الانصياع لهم في أن تزداد حولها الأقاويل.

نساء بيتنا خشين على أزواجهن فاغلقن الباب في وجهها، وتوقفن حتى عن إلقاء السلام أو الرد عليها، كانت تأتي إليً محملة بكم كبير من الوجع، حاولت مرارا أن أساعدها في وقف الأذى، إلا أن الشائعات انتشرت حولها كالنار في الهشيم. رأينا كهربائي ينزل من بيتها، نظرت للرجل الفلاني بطريقة مثيرة، يصعد إلى بيتها مدرس كثيرا، تلبس عباءة مجسمة مفاتنها.

حاولت وحاولت لكني فشلت، فأنا في نهاية الأمر أمرأة، صحيح يهابني جميع من حولى ليس لأني متعلمة أو أي شيئا آخر سوى أنهم يلجأون لي في كثير من الأحيان لحل مشاكلهم، ويعلمون جيدًا أن لي أهل واخوات وعيلة كبيرة بينهم، فهم لا يعترفون إلا بالقوي.

في الثالثة فجرًا صحيت على جرس بيتي لأجد أم منة أمامي، وهي ترتعش أدخلتها وأنا بين النوم والاستيقاظ، سألتها ماذا حدث، ابلغتني أن رجال عمارتنا أمهلوها 24 ساعة لتغادر الشقة الإيجار، وإلا فلن تكون العواقب سليمة، ترجتني أن أتدخل لديهم، أتوسل لهم أن يتركوها أيام قليلة، لتجد مسكنًا آخر لها ولأبنائها.

أصابتني حالة من الرعب لماذا هذا التحرك الجماعي ضدها، لماذا لم يرحموها، وهم أكثر من يعلم أن كل ما يقال حولها كذبًا، وأنها رفضتهم، ورفضت خيانتهم لزوجاتهم؟.

وعدتها أن أحاول وأنا بداخلي شك في أن أستطع، حاولت بالفعل نجحت بالكاد وسط همزات ولمزات لماذا أنحاز لها، وكأن المفروض أن نرجمها جميعًا بالكاد أقنعتهم أن تزيد المدة لأسبوع.

كان بداخلي كم من اللعنات والسباب لهم ولكل من هم على شاكلتهم، فكرت للحظات في أن تتحدى وأنا معها كل هؤلاء، أن تفضحهم وهي التي لم يتوقف هاتفها عن تلقي مكالمات هؤلاء المسوخ، ورسائلهم، فكرت في أن أخوض حربًا ضد كل هؤلاء، وبالفعل أخبرتها، لكنها كانت ترتعش، هربت بجلدها من بينهم، لتعيش وسط حراس فضيلة جدد، هربت لتموت كل يوم دون أن تقوى روحها على مفارقة جسدها، هربت لواقع أكثر إيلامًأ الموت فيه أسمى أمنياتها، واقع تموت فيه النساء ليس لشيء إلا لأنهم نساء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *