أحمد زغلول الشيطي: الاستقلال هو القيمة الأدبية الأرفع.. وهذه تجربتي | حوار

حوار- عزة إبراهيم

في العام قبل الماضي صدرت الرواية الثانية لأحمد زغلول الشيطي، «صخرة هليوبوليس»، بعد سنوات طويلة من التوقف الاضطراري في طرق أخرى غير طريق الكتابة والإبداع. وهي رواية تستحق الحفاوة لأنها النص الذي عاد به إلينا مؤلف النص الاستثنائي «ورود سامة لصقر».

بعد أن تقرأ «صخرة هليوبوليس» ستشتعل الأسئلة في رأسك، وتستعيد روايته الأولى ومجموعاته القصصية لتعيد قراءتها، ولن تستطيع كبح جماح الدهشة والأسى، وستجد نفسك أمام علامة استفهام كبيرة: ماذا لو أن «الشيطي» الموهوب بسخاء لم يتوقف عن كتابة الرواية طوال هذه المدة، نحو ثلاثين عامًا؟ ماذا لو استمر صاحب النص الذي اعتبره النقاد علامة فارقة في تاريخ الرواية المصرية، ومؤسسًا لما بعد نجيب محفوظ وجيل الستينيات، وكانت “ورود سامة لصقر” قد اشتهرت وهي بعد مخطوطة فوصفها الروائي إبراهيم أصلان بأنها أفضل رواية قرأها مع “الحب في زمن الكوليرا” عام صدورها مترجمة للعربية.

قبل شهور كنت أتابع توزيع الجوائز الأدبية، متوقعة أن تحظى «صخرة هليوبوليس» بما يليق بها من حفاوة على مستوى النقد والجوائز الأدبية، وخابت توقعاتي، فحملت دهشتي وأسئلتي إلى أحمد زغلول الشيطي، وكان لنا معه هذا الحوار.

توقعت أن تحصل «صخرة هليوبوليس» على جائزة هذا العام وخاب ظني.. هل هو عزوف منك أم من مانحي الجوائز؟

– لحظة ثابتة أعود إليها من آنٍ لآخر، عندما كتبت «ورود سامة لصقر» لم يكن معي ولا مليم، دخل عليَّ بعض المثقفين حجرتي في بيتنا القديم بمدينة دمياط، كنت أرتدي بيجامة متواضعة، تشي بأي طريق مسدود أسير فيه، وجَّه أحدهم كلامه لي قائلًا: ماذا ستفعل الآن؟ كان عملي قد بدأ رحلة غير متوقعة داخل اللغة، لغة الأدب التي استعملها قبلي نجيب محفوظ، ديستويفسكي، جيمس جويس، كنت قد انضممت لتوي لهذه القبيلة، مفلسًا تمامًا، ومجهول المصير..ماذا سأفعل؟

 هل قصد من كلامه اتهامي بالجنون أو الشطط؟ أو الخروج عما يقتضيه وضعي كشابٍّ، لا بد له في النهاية أن يعيش. في مثل هذه اللحظة، ربما تمنيت أن أحصل على جائزة، كان هذا سيبررني كثيرًا أمام أهلي، ومن يرونني مجنونًا. فبدلًا من أن آخذ بأيديهم وأشاركهم العمل لكي نعيش، كنت أكتب. كنت عاجزًا عن إقامة علاقات اجتماعية في المحيط الذي أعيش فيه، أعني أفراد الأسرة والأقارب، لرفضهم المبدئي أن أدخر حياتي لشيء كهذا، لا يجلب المال، وأنني لا أجيد – بشكل واضح – مهنة، وأحترفها. وخاصة أنني أنتمي لأسرة من حِرفيِّي صناعة الأثاث، فضلًا عن أن المدينة بأكملها ذات طابع عمالي صارم. أقول إذا كانت للجائزة قيمة ما، فإن تلك اللحظة البعيدة كانت هي وقتها المثالي، لا لتبرر اختياراتي أمام أهلي فقط، بل ولدعمي ماديًّا حتى أستطيع الوقوف على قدميَّ وأعيد التجربة بسرعة.

هل ذلك ما دفعك للتوقف عن الكتابة فترة طويلة؟

– قريبًا بعد سنة أو أكثر قليلًا سوف أتم العقد الخامس من عمري، على الرغم من ذلك لم أحصل على جوائز مطلقًا، وعلى الرغم من اتفاق عدد كبير من نقاد مصر الأكثر أهمية في السنوات الماضية على قيمة ما أكتبه. اضطررت للتوقف عن الكتابة لكي أجد طريقًا للعيش، قلت ذلك مرارًا في مناسبات عديدة، لم تكن لديَّ فرصة للصمود بالاعتماد على الكتابة وحدها. أفكر أحيانًا أن الجائزة في مقتبل العمر كان يمكن لها إعطاء فرصة أكبر للتطور، وشجاعة في مواجهة مجتمع يتساءل عما تفعله، خاصة الأهل، ولأنهم يحبوننا فإنهم يحاسبوننا دائمًا على أساس المكسب والخسارة، كم يساوي هذا؟ هذا هو المنهج الذي يُحاسَبون على أساسه. فهل كان ذلك خسارة أم مكسبًا؟

 ما أردت قوله هو: لو كان هناك شيء يبررك أمام أهلك، ويعطيك دعمًا واضحًا يفيد أنك قد حصلت على «فلوس» من هذا الشيء «الأدب» يتمثل في جائزة تعترف بك أمام الناس، كان وقتها المثالي هو ذلك الوقت.

أصبحت عندي تجربة أكبر من البداية، وهي بين أيدي القراء والنقاد ومن يهمه الأمر. بمعنى أنني أديت ما استطعت إلى الآن في المجال الذي أحبه. لذلك، عندما أنظر لواقع الجوائز، أرى ما سبق كله.

ألا تعتقد أن أعمالك حازت ما تستحقه من التقدير الأدبي؟

– لا أشعر بأي غبن لأني بالفعل تلقيت تقديرًا هائلًا، ربما لم يحصل عليه غيري من أبناء جيلي، حصلت على الكثير من التقدير الأدبي، ولم أتوقع أبدًا أن الأدب سوف ينقذني ماديًّا، من كانوا في سقف أحلامي وأفقي في ذلك الوقت كانوا موظفين مثل إبراهيم أصلان، بهاء طاهر، ومعظم البارزين من جيل الستينيات وغيرهم من أجيال سابقة، إدوار الخراط، يوسف إدريس. مثلت الوظيفة الحكومية حماية كبيرة لهؤلاء، وهي حماية لم أتمتع بها، لم تُتح لي «واسطة» مناسبة لتعييني في إحدى المؤسسات الحكومية، وبالتالي لم يكن أمامي إلا اختيار من اثنين؛ إما العودة إلى دمياط للعمل في مهنتي القديمة كـ«أويمجي» أو العمل في مهنة حرة كـ«محامٍ» وهو ما حدث بالفعل. الآن فاتت كل الأوقات، وانتقل حلمي إلى أنني لا أريد الجوائز، وأنا لم أردها مؤخرًا إلا لأنها تفتح طريقًا للترجمة، على أنني تراجعت عن ذلك أيضًا، أعترف أن أعمالًا كثيرة تستحق، تُرجمت ولا زالت تُترجم، لكن الترجمة ذاتها لم تعد معيارًا، يمكنني إعطاؤك عشرات العناوين من أعمال كثيرة سفيهة تُرجمت، ولم يسمع بها أحد لا في لغتها، ولا في اللغة المترجم إليها. كان هذا حسابًا خاطئًا جدًّا.

لماذا؟

– لأن جوائزنا من الأطلنطي إلى خليج العرب تمنحها أنظمة عاجزة عن إنشاء مؤسسة واحدة تتمتع بالاحترام، ناهيك عن مؤسسة تمنح جائزة في أي مجال سواء التعليم أو الصحة أو الطرق أو الأدب. هناك عجز مزرٍ، ميراث هائل من فشل الأنظمة الوطنية التالية للاستعمار، خلق قناعة لدى الناس أن المرحلة الكولونيالية قد أنشأت على الأقل مرافقَ متطورة هي البنية التحتية للدولة الحديثة، وقد قامت بتخريبها تلك الأنظمة التي ورثت حكم ما بعد الاستعمار، والتي عملت في مجملها كوكلاء له باستثناءات قليلة. برعت هذه الأنظمة فقط في قمع شعوبها، وكان من الطبيعي أن تعجز عن إنشاء جائزة لها تقاليد تتسم بالنزاهة وتتمتع بالثقة.

 * هل سبق أن اعترضت على التقدم بكتبك إلى أي من الجوائز؟

– الإجابة هي لا، لم أعارض صديقي محمد هاشم مدير دار ميريت للنشر في تقديم مجموعتي القصصية «ضوء شفاف ينتشر بخفة» لنيل جائزة ساويرس سنة 2009، وقد تم ذلك بموافقتي، وكذلك الأمر فيما يتعلق بروايتي «صخرة هليوبوليس» الصادرة عن دار العين 2019 والتي تقدمت بها الدار لجائزة البوكر 2020، ولا أعتقد أن هذه هي النقطة الهامة في الموضوع.

وإن كنت أعتذر أولًا لنفسي ولكل من يعنيه الأمر لأنني كنت قد ظهرت، بكتابي الأول «ورود سامة لصقر» في فبراير 1990 من مساحة خارج منطق الجوائز، وخاصة تلك التي قد ينشئها أحد الرأسماليين المصريين الذين ظهروا بعد اعتماد نظام الحكم سياسات الانفتاح الاقتصادي، وتفكيك القطاع العام والانفتاح على النادي الغربي، روايتي تلك نُشرت بعد معركة صارت معروفة الآن، بعد أن تعرضت للرقابة، وتصدت مجلة «أدب ونقد» لنشرها، كان عليَّ ألا أسمح بتقديم كتابي لجائزة ساويرس سنة 2009، بعد نحو عقد من التوقف عن الكتابة، والنشر وانخراطي في عملي الخاص. كان لهذه المجموعة صدًى كبير وقابلتها الحياة الثقافية بحفاوة، حتى إن الأصدقاء كانوا يهنئونني قبل إعلان نتائج الجائزة، حيث لم تكن هناك تقريبًا أعمال منافسة لها على هذا المستوى من الكتابة. وقبل إعلان الجائزة بأسبوع أبلغني محمد هاشم أن «الجائزة أخذها واحد غيرك». واندهشت من أمر الجوائز التي تُعلن قبل موعدها وفازت وقتها مجموعة قصصية لم يسمع بها أحد من قبل، هذا ما حدث وأنا لم أعترض، وأنا آسف لهذا لأني كنت طامعًا لأن أقول للحياة الثقافية أنني عدت، فقد كان هذا هو تاريخ عودتي للكتابة مرة أخرى. كنت في حاجة لهذه الصدمة، لأن الجائزة لن تكون أبدًا بديلًا عن دور النقد الغائب، وعن التلقي الواعي الحر للعمل.

 وأعتذر مرة أخرى عن أن دار «العين» المصرية رشحت روايتي «صخرة هليوبوليس» مع غيرها لجائزة البوكر 2020، وقد تم هذا الأمر بموافقتي، وكذلك لم أطلب من الدار أن ترشحني، بل عرضتُ على مديرة الدار أنه يمكنها ألَّا تقدم عملي للجائزة إذا شاءت. وطبعًا حدث ما يعرفه كل الناس، وهو أن الجائزة اتجهت اتجاهًا لم يكن يتوقعه أحد، وهذا حق أي جائزة وحق لأي مانح «ومن حكم في ماله فما ظلم»، وهي جائزة كما نعلم ممولة من أموال إماراتية، وتاريخها معروف وكنت هذه المرة طامعًا في الترجمة كأثر من آثار الفوز.

 عند هذه اللحظة اتخذت قرارًا بأن أنقد ذاتي عن التجربتين اللتين خضتهما للسير في طريق الجوائز، على الرغم من ثقتي أنه لا توجد مؤسسة حقيقية في عالمنا العربي يمكن الاعتماد على نزاهتها أخلاقيًّا أو مهنيًّا في تقديم جائزة لها معيارية واضحة وصارمة بحيث تمثل قيمة ما، وعلى الرغم من ذلك طمعت في أن أحصل على جائزة من هذه الجوائز.

ألا تعتقد أن البعض قد يفسر موقفك على أنه بسبب عدم حصولك على جائزة؟

– بالطبع، وهذه نقطة ضعف أعترف بها، ولكن، لكي أبرهن على أصالة موقفي أعلن هنا أنني لن أتقدم للحصول على أي جائزة من أي جهة. ولن أعطي موافقتي لأي ناشر لكي يتقدم باسمي لأي جائزة. ولكن لو أن هناك جائزة ترغب في منحي إياها، عليها أن تفعل ذلك، على أن تترك لي أو لغيري أن نقبل أو نرفض. أي أنني لن أتقدم للحصول على جائزة ولن أوقع طلبًا مسبقًا للحصول عليها، ينبغي تغيير المعادلة ما بين المانح والممنوح، بحيث تكون للممنوح الحرية الكاملة القانونية والأخلاقية في الرفض.

 مال الجوائز في منطقتنا هو مال سياسي، يسعى في الأساس إلى تحقيق مصالحه، ومعظم الأموال مصدرها نفطي، وقد أدت بشكل منهجي إلى تجريف الثقافة المصرية، ووصل الأمر إلى حد تزييف التاريخ لحساب أصحاب المال النفطي. أنا مندهش من آلية أن يبدي الكاتب ما يفيد الموافقة على الترشح، وأن يعطي للجنة التحكيم أو مانح الجائزة، الثقة المسبقة في نزاهة اختيار الفائز، فالكاتب حين يمنح هذه الموافقة يعطي ثقة كاملة للمانح، ومن استقدمهم للتحكيم بشكل غير مشروط، وبذلك يكون قد أعطى المانح هالة رفيعة مستمدة من الإنتاج الأدبي الذي يمثل أرقى ما قد تنتجه جماعة ما، وهذا إجراء في منتهى الخطورة ولا يمكن الرجوع فيه، فالكاتب بما يمثل من قيمة فنية وأدبية وأخلاقية أقر بأنه راضٍ عن أموال الجائزة ومصادرها، وأن مانح الجائزة لا يتعارض نشاطه واتجاهاته مع شيء مما يؤمن به الكاتب، وتعبر عنه كتاباته، والمانح يأخذ هذا الاعتراف الغالي دون أي ضمانة بأن الاختيارات ستكون عادلة، وتستند إلى أسس نقدية تتسم بالنزاهة والمهنية. وهنا المبادلة خاسرة تمامًا سواء حصلت على الجائزة أو خسرت، فالمال السياسي لا يملك أن يخسر أبدًا، أصدق مثال على ذلك فضيحة جائزة البوكر 2019 التي تسربت قبل موعدها بفوز الكاتبة هدى بركات التي طُلب منها التقدم للجائزة، واعتراض الروائية إنعام كججي على ما حدث. صارت هناك مشكلة كبيرة بين كاتبتين كبيرتين بالفعل، وتمتلكان قيمة رفيعة. لم تخسر الجائزة بسبب أخطائها، ولكن خسرت القيم الرفيعة التي تمثلها كل من الكاتبتين.

كيف تصف مانحي الجوائز في المنطقة العربية؟

– معظم مانحي الجوائز في المنطقة العربية إما رجال أعمال يتعاونون مع أنظمة شديدة الفساد والقمع لشعوبها ويكونون ثرواتهم من خلالها، أو نظم مصطنعة كممالك أو إمارات أو دويلات أنشئت بقرارات في عهد استعماري ما وتعيش على البترول، وهي أيضًا أنظمة قامعة لشعوبها وضد كل ما نكتب ونحلم به، وإلا كانت تقبلت روائيًّا مثل عبد الرحمن منيف الذي أسقطت عنه المملكة العربية السعودية الجنسية. وتكشف اتجاهات هذه الجوائز ذات الطابع الرجعي عن اختيارات متنوعة من أعمال ذات طابع سلفي محافظ، تدعم الشعر العمودي، والسرد التقليدي، إلى أعمال إبداعية متواضعة أو ذات مستوى متوسط، وبطبيعة الحال توضع الأعمال ذات المستوى الرفيع مع أعمال أخرى دون المستوى، الأمر الذي يكشف الطبيعة العشوائية وغياب أهداف واضحة مستمدة من التجربة الإبداعية ذاتها، مما يحوِّل الجوائز إلى نوع من خلع العطايا.

* هل تعتقد أن انسحابك من لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة جعل اسمك غير مطروح لنيل الجوائز الرسمية؟

– أتوقع أنني لست محل ثقة، خاصة بعد رفضي التعيين بالمجلس الأعلى للثقافة 2011، بقيادة وزير ثقافة جاء من خلال المجلس العسكري الحاكم، بينما المتظاهرون يجري سحلهم في الشوارع، والطرف الثالث الخفي يمارس عمليات القنص وفقء العيون. كما سبق وقلت إن انتماء المثقف ينبغي أن يكون لقضية وليس لمؤسسة. لكن هذه المرة أحاول أن أجعل موقفي أكثر تبلورًا بجعل السلطة في يد الكاتب ليقبل الجائزة أو يرفضها وفقًا لضميره، وكذلك أحاول تعرية هذه الجوائز ومن يقدمها.

إلى أي مدى أفسدت الجوائز الحياة الثقافية في مصر؟

– الوضع الذي جعل من جوائز الرواية أغلى الجوائز، جعل الشباب يبدأون مباشرة بكتابة الرواية دون المرور بكتابة القصة القصيرة كما كان يحدث في الماضي. وأصبح هناك تركيز شديد على إنتاج الروايات. ولأن معظم الجوائز في المنطقة العربية تقدمها مؤسسات رجعية تمامًا، أصبح الأدب – بوعي أو بدون وعي – يكتب بطريقة تجعله لا يتعارض معها. وأحيانًا يتم تمرير نصوصٍ تبدو راديكالية، لكنها في الأساس نصوص مدجنة ومستأنسة. على سبيل المثال قد يتم تمرير رواية تتكلم عن المثلية الجنسية، لكن هل سيسمحون بتمرير رواية تعري الأنظمة المانحة؟ هل سيسمحون بوجود عبد الرحمن منيف آخر ومدن ملح أخرى تتناول ظاهرة النفط، وما أحدثته في باقي الإمارات والدول النفطية، وأثر ذلك على المنطقة العربية ككل؟ هل سيعطون جائزة لنص يتناولهم بشكل نقدي جذري؟ أظن بكل تأكيد أنهم لن يفعلوا ولن يسمحوا بظهور أي كتابة تتعارض مع كون من تقدم هذه الجوائز هي بالأساس نظم نفطية رجعية تابعة بشكل كامل للغرب، والانتماء الأساسي الذي يربطها بهذه المنطقة هو انتماؤها لآبار البترول. والمال الذي يُبذل للجوائز هو مال سياسي يتم تدويره لجلب منافع استثنائية من ورائه، كما أن هذه النظم التي تقمع معارضيها بقسوة، سوَّدت نمطًا للحياة شديد التشوه، وطبعًا يعود لنا به المصريون الذين يعملون هناك.

هل ترى أن هناك أدبًا يُكتب الآن لإرضاء الأنظمة المانحة؟

– أتصور أن الكتابة الآن تتجه إلى الروايات التي لا ترفضها هذه الأنظمة، ولا تتعارض معها، على سبيل المثال لا يمكن تفويز رواية تتبنى الرؤية اليمنية للحرب على اليمن. وأعتقد أن هذا أثر بالسلب على الأدب وخلق أدبًا يُكتب خصيصًا من أجل الجوائز بوعي أو بدون وعي، هناك أنماط مفضلة تنقل المعركة إلى مناطق آمنة، منها على سبيل المثال الرواية التاريخية.

 تكاثرت الجوائز إلى درجة أن بعضها تُمنح للمخطوطات قبل طباعتها. والغريب أنهم يمنحون أرقامًا غير عادية، فهناك جائزة تمنح لمن وصل للقائمة القصيرة سبعمائة وخمسين ألف درهم، وهذه ثروة طائلة داخل البزنس الأدبي الذي بات يدرك تمامًا ما يطلبه الزبون.

أتوقع الآن أجيالًا جديدة من المتسابقين يدبجون نصوصهم وقلوبهم مع الجوائز أكثر من عنايتهم بما يكتبون. وأؤكد هنا على أن منح جائزة هو حاجة كبيرة للمانح أكثر منها للممنوح، لأن المانح ثروته مهددة، ومحاطة بتناقضات شديدة الحدة، وتوازنات قلقة لا يمكن الحفاظ عليها إلى الأبد. حتى في ظل رعاية كل هذا القدر من الجوائز.

وبالنسبة للجوائز المصرية كيف تراها؟

– كما سبق أن ذكرت، عرفت بنتيجة الجائزة قبل أسبوع من إعلانها. ونفس أعضاء لجنة التحكيم في جائزة ساويرس يكون بعضهم موجودًا في جوائز الدولة كمحكمين. وبالتالي غرقت الجوائز المصرية في البيروقراطية والشللية والصراع بشكل حاد حول توزيع الحصص. فلم تعد هذه الجوائز تعكس أي قيمة. عادة الشلة المهيمنة تأتي بأصحابها وأقاربها، للأسف لا فرق بين يمين ويسار، وأعتقد أن هذه الجوائز قد نالت ضربة قوية بواقعة رفض صنع الله إبراهيم لها وتعريتها على منصة استلام الجائزة. وكذلك فضح وزارة الثقافة التي تستخدمها السلطة كأداة لترويض المثقفين وتدجينهم وإدخالهم إلى الحظيرة.

 وبالنسبة للدولة المصرية بتاريخها البيروقراطي، كانت اتجاهات الجوائز دائمًا محل خلاف، إلا فيما ندر، ويكشف الأمر في أغلب الأحيان عن فوضى العطايا وتوزيع الحصص بالدور، دون تقييم حقيقي للمنجز الأدبي، كذلك يكشف انحيازًا سافرًا لأسماء بعينها، ممن يتمتعون بعلاقات طيبة داخل الأطر الرسمية، وليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك مستحقون، يلحقون بهم قبيل الوفاة، فدائمًا كان هناك اسم أو آخر مستحق للجائزة، لكن الصورة العامة كانت أن هناك بيروقراطية وفوضى وتكريسًا لأسماء بعينها، بغض النظر عن قيمتها الأدبية. وساهم في هذا انحسار دور النقد، وبروز المتابعات الصحفية الخفيفة ولجان التحكيم التي تشكلها الدولة ممن يقبلون التعاون مع النظام الرسمي، أو الذين يجلبهم رجال الأعمال الممولون للجوائز، وهم غالبًا ممن يحكِّمون جوائز الدولة، وقد تجلب بعضهم الأنظمة المانحة لتحكيم جوائزها. احتلت هذه اللجان الدور الذي كان يشغله قديمًا النقد بأسماء مستقلة بارزة، فأصبح هناك افتقار لنقد حقيقي قادر على أن يوزع المكانات الأدبية بصورة صحيحة.

وفي رأيك ما سبب غياب النقد القادر على توزيع المكانات الأدبية بطريقة صحيحة؟

–  وراء غياب النقد جملة عظيمة من الأسباب، أولها التخريب المنهجي للتعليم، فجامعاتنا خرجت من أي تصنيف ذي قيمة في العالم، القمع المنهجي للدرس العلمي لقضايا تراثية جوهرية، ويُعد المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد محطة هامة وكاشفة في هذا السبيل، حيث أظهرت قضيته سقوط الجامعة ومعاداتها لمنهج البحث العلمي، ودعمها للاتجاهات الرجعية التي تُعد أساسًا لتيارات الإسلام السياسي. كذلك سنجد دور الأموال الخليجية التي تُنفق لإبعاد المثقفين عن مناقشة القضايا الجوهرية، ولدعم اتجاهات رجعية أو مدجنة، هذه الأموال هي نوع من أنواع الرشاوى المقنعة لتهميش الفكر والثقافة والإبداع. وكذلك فأي عمل سيتناول الدور السيئ لمانحي الجوائز في حياة شعوبهم أو مصادر أموالهم أو مدى عدالة توزيع هذه الأموال سيكون مرفوضًا.

هل تعتقد أن الجوائز تشوه ضمير الكاتب؟

– ليست الجوائز في ذاتها، لكن الكتابة لأجل الجوائز هي المشكلة دائمًا، وأعتقد أن الأغلى، والأكثر قيمة هو الاستقلال، وهذه قيمة أحب في هذه اللحظة من عمري أن أدافع عنها، وحتى حلم الترجمة لم يعد قيدًا بالنسبة لي بالقياس لشعوري بالاتساق مع ذاتي. صرت حرًّا تمامًا من انتظار أي جائزة، وأعتقد أن محبة الأدب أنقذتني، وعلمتني الدقة حتى وأنا أمارس مهنة غير الأدب، وهي المحاماة، كنت أمارسها بنفس الروح التي أكتب بها النصوص الأدبية، فمحبة الأدب التي كانت دون انتظار أي جائزة أنقذتني وعلمتني السهرعلى مراعاة التفاصيل بشكلٍ هوسي انتقل معي إلى كل مراحل حياتي، والناس في منتهى الذكاء، وقادرون على التقاط هذا، ودفعه للأمام. وهو ما حدث معي.

 سبق لصنع الله إبراهيم أن رفض جائزة الدولة، وسبق لك أن انسحبت من لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، هل المؤسسات الرسمية تمثل تهديدًا لاستقلال الكاتب؟

– أحببت صنع الله في موقفه الجميل، وهو بالنسبة لي المثال الأبرز في الاستقلال عن المؤسسة الثقافية، وهو مثال أطرحه وأعتز به دائمًا، لكن صنع الله كان في موقف استثنائي، لأنه تربى وترعرع وسط تنظيم شيوعي قوي أعطاه الدعم، ولو كان معنويًّا، أيضًا أعطاه القضية والممارسة في آنٍ، كانت هناك تربية حقيقية لها أساس، هذه التربية هامة جدًّا حتى في حال تمرد المبدع عليها، فهنا لديه أفق محدد ينشئ التمرد عليه مزيجًا جماليًّا متميزًا، فنرى «تلك الرائحة»، «نجمة أغسطس»، «اللجنة» وهكذا، الأمر يختلف إذا ولدت في فوضى، كانت التنظيمات اليسارية قد تراجعت، القيادات هاجرت، آخرون همشوا أو انتحروا، كان زمن خيانة لا يزهر سوى «ورود سامة لصقر»، كأنك تعيد إنشاء العالم من الصفر، يمكن القول إنني وجدت نفسي مسكونًا بتراث الجيل السابق، وفي نفس الوقت لا أتمتع بما تمتع به هذا الجيل من وجود تنظيمات حقيقية تقف خلفه، فأنا فرد هش جدًّا في مواجهة آلة قمع جبارة، تمثلت في تحولات رهيبة باتجاه ما عُرف بالرأسمالية المتوحشة التي تأكل كل شيء، وتحول الإنسان إلى كائن تحت إنساني يبحث فقط عن كسرة الخبز أو طريقة يعول بها ذاته.

وأظن أنه من المهم وجود ضمير قادر على رفض هذا التيار الحاد الجائر، والتشكيك فيه.

إذن أنت لن تتقدم بأي طلب للحصول على جائزة من أي جهة.. ماذا لو عُرضت عليك الجائزة؟

– بالطبع لن أتقدم بطلب للحصول على أي جائزة في مصر أو خارجها ما بقي من عمري. أما إذا قُدمت لي جائزة فقبولها أو رفضها سيكون وفقًا لما أؤمن به وأدافع عنه، أقول رأيي الآن بعد أن بلغت هذا المدى من التجربة، فأصبحت أرى الأفضل لي هو أن أختبر مرة أخرى كيفية أن أكون مستقلًّا ككاتب، وبالتالي فكل الموضوعات متاحة لتناولها بأي قدر من الجرأة على مسؤوليتي، والمسؤولية هي الجائزة التي يمكن أن أعطيها لنفسي، دون أي اتهام لأحد.

ألا يقلقك أن يضعك هذا النزوع للاستقلال على هامش الحياة الثقافية؟

– منذ نشأتي وأنا على هامش الحركة الثقافية تمامًا، فلم أنضوِ تحت أي مؤسسة ولم أر «جنيه الحكومة» ولا أعرف لونه، ودائمًا كان ما أكسبه خارج الأطر الرسمية، وسأكمل مسيرتي في هذا الاتجاه وأقدم تجربتي في الاستقلال كما أنا مقتنع بها، وقد دفعت ثمنها، وعملت وادخرت لأستطيع أن أجلس على هذا المقعد الآن، ربما غيري لم تتح له مثل هذه الفرصة التي تجعله في أمان من الوقوع تحت يد أحد، وربما يكون هذا – دون أي ادعاء بالبطولة – هو ما جعلني أرفض ما يعتبره البعض فرصة.

هذه هي تجربتي، فهل خلقتها الظروف؟ هل خلقتها إرادتي؟ هل كانت مزيجًا ما بين ظروفي وإرادتي؟ مزيجًا من فقداني لأبي وأنا في عمر السادسة واضطراري للعمل وأنا طفل. أعتقد أن ما يليق بهذه التجربة هو أن تنتهي كما بدأت، في محبة هذا الغموض الساحر الكامن خلف الكتابة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *