يحيى قلاش يكتب عن رجائي الميرغني وكواليس رفض القانون 93: ذكرى الرحيل والمقاومة!

لايمكن أن يمر شهر يونيو من كل عام دون أن نتذكر إحدي المعارك الكبرى في تاريخ نقابة الصحفيين دفاعًا عن حرية الصحافة. فبعد أن صدر بليل القانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥ في ٢٧ مايو ٩٥، دعا مجلس النقابة لاجتماع طارئ لأعضاء الجمعية العمومية في العاشر من يونيو، احتجاجًا علي التعديلات التي ادخلها القانون، ومثلت عدوانًا علي حرية الصحافة وغلظت العقوبات، ونعته الصحفيون والرأي العام بـ”قانون حماية الفساد”!                                                                المفارقة أننا في ٣ يونيو قبل عامين فقدنا نقابي كبير لعب دورًا مهمًا في إدارة هذه الأزمة هو زميلي وصديقي وأخي العزيز رجائي الميرغني الذي تزاملنا معًا في عضوية مجلس النقابة لأكثر من دورة.                                                                  كان أداء مجلس النقابة استثنائيًا في إدارة هذه الأزمة بكل المقاييس واستطاع أن يأخذ زمام المبادرة في قيادتها وجعل دعوته لحضور الجمعية العمومية قوةً مضافة له لادراكه المبكر ومن اللحظة الأولي أنه لن يستطيع أن يتجاوزها دون ظهير.  

تعامل المجلس بصفته مؤسسة لا تتوقف علي فرد فكل يؤدي دوره، وعندما غاب إبراهيم نافع “النقيب” لسفر مؤقت، تقدم جلال عيسى “الوكيل” ليتحمل المسؤولية بشجاعة في مواجهة تصميم الرئيس مبارك علي تمرير القانون، وعندما تخلف جلال عيسى عن حضور أجتماع المجلس لظرف طارئ، كان محمد عبدالقدوس “وكيل ثان”على رأس إجتماع المجلس الذي دعا الجمعية العمومية لاجتماع طارئ وكان مجدي مهني بوصلة للاتجاه الصحيح في هذه المواجهة، ودفعت أمينة شفيق متعها الله بالصحة بخبرتها بضرورة استدعاء الجمعية العمومية.  

أما رجائي الميرغني الذي تحل الذكرى الثانية لرحيله هذه الأيام فكان في هذه المعركه بحق رجل المهام الصعبة والعقلية المنظمة الدؤوبة على مدي عام يصيغ القرارات ويكتب كلمة النقيب التي تعبر عن موقف مؤسسة المجلس قبل أن يلقيها في جلسات الجمعية العمومية وضابط الإيقاع لمجلس يتشكل من كل الاتجاهات والأعمار والخبرات وتتنازعه أحيانا مصالح شتى تحت وقع ضغوط هائلة، بل وكان يقوم بالمساهمة بالوعي القانوني عندما تختلط الأمور بسوء أو بحسن نية!.                                                                                       رجائي الحاضر بيننا بعد عامين من الغياب، وكما عرفته وقلت ذلك من قبل، واكررها، لم يكن يحركه إلا منطق وقناعات، ولم يكن من أهل المواءمات التي تتسلل كثيرًا إلى العمل النقابي فتدخل من الشباك كي تخرج المبادئ والمواقف من الباب.كان نقابيًا أصيلًا وحقيقيًا مهما اختلفت معه، وليس “نقابنجي”، كما أطلق على الذين يمتطون العمل النقابي لأغراض وأهداف أو طموحات خاصة.                                                                             مشوار طويل منذ تعارفنا، تآلفت فيه الأرواح والمواقف والمعارك والهموم، كانت العلاقات المباشرة شبه اليومية هي وسيلة التواصل، ولم يكن جيلنا يعرف بعد هذا العالم الافتراضي، الذي يسود الآن، حيث تبددت الطاقة بالتنفيس وتراجع كثير من الفعل. دورة حياتنا لم تكن تكتمل إلا بالالتقاء يوميًا في النقابة بعد انتهاء العمل، قضايا المهنة وعلاقات العمل والحريات والأمور العامة وحدة واحدة نلتف حولها، وعليها يدور الحوار ويتم الحساب مع أي مجلس إدارة منتخب للنقابة، ومنها يتم الفرز لبعض قيادات نقابية طبيعية، تتقدم الصفوف وتتحمل المسؤولية. 

في هذه الأجواء عرفت رجائي الإنسان الخلوق، البشوش، المثقف، المتواضع وبدأنا معًا مشوارًا نقابيًا طويلًا قدر لنا أن تكون بدايته ساخنة، عندما داهمنا القانون ٩٣ بعد عدة أسابيع لوضع مزيد من القيود على حرية الصحافة والصحفيين، واستمرت مواجهته نحو عام بجمعية عمومية مفتوحة. 

 وهنا يتجلى دور عدد من أعضاء المجلس يتقدمهم رجائي الذي اذكر له عشرات المواقف والأدوار، وعندما نعود لأدبيات هذه المعركة أقول، باختصار ودون إهمال لأدوار كثيرين من داخل المجلس أو خارجه، أو لقيمة وأهمية العمل الجماعي والمؤسسي، التي حكمت إدارة هذه الأزمة، إن بصماته كانت واضحة وستظل . 

وأذكر له في هذه المعركة موقفًا مهمًا، فقد كان إيقاع الأزمة سريعًا والدولة على مدى شهور تبدي في الظاهر نية الحل، وعلى أرض الواقع تتلاعب وتلتف وتتحايل، واختمرت في ذهني بالتشاور مع الزميل الراحل مجدي مهنا، وكان شخصية نقابية ديناميكية ومخلصة، أن يعلن مجلس النقابة استقالته بما يعني ترك أمر المواجهة مباشرةً للجمعية العمومية، وأنضم إلينا رجائي وفعلًا كان اقتناعه هو المدخل الذي سهّل موافقة المجلس بالإجماع وإعلان قرار الاستقالة، الذي انضم إليه بعد ذلك النقيب إبراهيم نافع بعد عدة أيام أمام اجتماع للجمعية العمومية، وأحدث هذا الأمر تحولًا في إدارة المعركة، وأوقف مناورات التلاعب، وتقرر أن نلتقي رئيس الجمهورية للمرة الثانية، وانتهت الأزمة بانتصار إرادة الصحفيين. 

ظلت النقابة بالنسبة لرجائي- في كل الأوقات- شأنه شأن النقابيين الكبار، هم واهتمام وحياة، يلبيها عندما تدعوه، ويأتي إليها عندما يشتاق، ويهرع إليها إذا تعرضت للأذى من غير دعوة، ويسعد بالجلوس فيها مع الشباب ناثرًا خبراته ونصائحه بحب واحتواء. وظلت يده ممدودة دائمًا بالمشورة والخبرة وأداء أي دور إذا كان خالصًا لوجه النقابة والمهنة ومصالح الزملاء.                                                                               سلام عليك يا رجائي في ذكري رحيلك وعوض الله النقابة والمهنة والوطن عنك خيرًا من شباب كثر زرعت فيهم الوعي والمحبة والاستقامة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *