محمد رفاعى يكتب عن: رشدي سعـيد.. عاشق تراب مصر الذي لم يجد التكريم الرسمي الذي يليق به فى حياته

“خرج رشدي سعيد من رحم الواقع السياسي الإجتماعى الذي شكلته الحركة القومية المصرية التي بدأت خافتة فى أواخر القرن التاسع عشر،وأصبحت ركيزة الحركة الوطنية ومحركها الأساسي فى قيام ثورة 1919 ،وهى الثورة التي جعلت المصريين يستمدون هويتهم من الانتماء إلى الوطن ،وفى دعم الجماعة الوطنية.

فتحت سيدة إنجليزية عينيي”رشدي سعيد” لما رأت الملامح المشتركة بينه وبين  تمثال فرعوني معروضا  فى المتحف ، دفعه هذا إلى البحث عن جذوره،الشيء الوحيد الذي أتاح له معرفته،هو مسقط راس العائلة فى صعيد مصر،وفتح له باباً صغيراً للمعرفة،كان مسقط جده فى بلدة “السراقنة” وهى بلدة صغيرة محمية فى خضن “الدير المحرق”.

وصفه “محمد حسنين هيكل”أنه خطا من الجامعة إلى المجتمع، ومن العلم إلى الثقافة،حين استطاع أن ينفذ من طبقات الأرض إلى حياة البشر الذين يعيشون فوقها،ثم استطاع أن يحيط بطبقات الأرض وحياة البشر فى وطن بذاته،بإحاطة تربط الجغرافيا والتاريخ،تصل الحاضر والمستقبل وتكشف بالعلم والحكمة مطالب التقدم والعمران ،حين تصنع نوعا راقيا من المعرفة المتكاملة القادرة على الإلهام والتآثير.أن رشدى سعيد رجل تسعى إليه جامعات الدنيا وتستضيفه محافلها ،لكن وطنه بشكل ما لا يسمعه بالقدر الكافى ،وهو رجل مطلوب فى كل مكان ولكن وطنه لم يستدعيه للخدمة العامة إلا فترة قصيرة،ثم أزاحته أجواء السياسة من مواقع التفكير والتنفيذوتخلت عنه لكى يحتضنه هؤلاء الذين عرفوا قدره من خارج وطنه لسوء الحظ “.

ربما يكون أهم العوامل التي ساهمت فى تكون هذا المنتمى الوطني”رشدي سعيد” هو المناخ الذي صنعته ثورة 1919،التي أتت بدستور1923،الذي أرسى لمبادىء جديدة على أساس من المواطنة،وأعادت هذه الثورة الثقة للمصريين،وهناك شخصيات تركت بصمة فى تكوين بصمة تكوين “رشدي سعيد” فى الجامعة والحياة العامة منهم “سلامة موسى”ومناخ الجامعة المصرية فى ذلك الوقت،التي كانت تعده أستاذا بها ورشحته لبعثة علمية فى أفضل جامعات العالم،على حد قول أستاذه”مصطفى مشرقة”حيث كانوا يريدون للجامعة المصرية لا يقل مستواها عن أى جامعة فى العالم.

   رغم الإعداد الطويل لـ “رشدي سعيد” علمياً ومعرفيا آثر هذا فى تعقيد حياته العلمية فى الجامعة،لم يجدها سهلة أو ممهدة،كان وصوله إلى الجامعة وله كمّا من الإنتاج العلمي المتميز صدمة للكثيرين،لمن لم يخبر طريق البحث العلمي ،سبب له كثيرا من المضايقات ،كانت عودته إلى الجامعة فى هذا المناخ يؤدى إلى تبديد طاقته وتعطل العمل الجاد الذى عزم السير فى مساره،بعد أن ترك عمله ،استاذا فى اعظم جامعات أمريكا وباحثا فى معاهد” عالم المحيطات حول العالم”،وعاد الى مصر،وهو يحلم بالجامعة وبناء قسم الجيولوجيا على مستوى رفيع ،يكون ندا لأعرق جامعات العالم .لذلك آثر “رشدى”الأبتعاد عن هذا المناخ، وأكتفى بمكان صغير،حاول فيه بناء جيل من الباحثين والجيولوجيين ، ويكون هذا المكان أوسع أفقا وأكثر دراية بالعالم ،وسعى جاهدا لمد الجسور مع الهيئات العلمية ،والمحلية والعالمية وشركات البترول وهيئة الأبحاث الجيلوجية لتسهيل رحلات الطلاب فى الصحراء والتزود بالعينات والبيانات  والعمل على بناء مكتبة متخصصة وتزويدها باحدث المطبوعات والدوريات العلمية.

  شارك “رشدى سعيد” فى تعريب منهج تدريس العلوم فى كلية العلوم ، بالأشتراك مع نخبة من كبار العلماء من عدة أقسام علمية مختلفة.

 جاء ترشيخ د”عزيزصدقى” وزيرالصناعة والبانى لمنظومة  المصانع العملاقة بما يسمى القطاع العام فى ستينات القرن العشرين ،ليكون “رشدى سعيد” رئيسا لمؤسسة التعدين والأبحاث الجيلوجية .وكان  يستعد للسفرالى خارج البلاد ،و إنطلق”رشدى”إلى رحاب أوسع فى العمل الميدانى الجاد فى أنحاء مصرالتى كانت مثخنة بجراح نكسة 1967 ،وحاول بناء مؤسسة علمية لأيجاد مصادر جديدة وخامات أولية يمكن أن تنشأ عنها شركات تعدينية كبيرة على أسس سليمة وقواعد راسخة ، بدأ فى بناء هيئة عالية المستوى لدراسة جيولوجية مصر ، والكشف عن ثرواتها المعدنية واختيار الصالح للاستخراج الاقتصادى ،محاولا إيجاد بدائل للمناجم التى فقدتها مصر بعد الاحتلال الإسرائيلى لسيناء، وعمل “سعيد” جاهدا لبناء شركات المؤسسة التى كانت منهارة وإعادة كوادرها التنظيمية والإدارية لتصبح مؤسسة قادرة على تنفيذ البرنامج الطموح للبحث عن المعادن فى الصحراء ،وتقديم الخدمات اللأزمة فى مجال الصناعة . من أهم المشروعات التى نفذها: بناء منجم “كارولين كلابشة” على أسس علمية سليمة بواسطة خبرة مصرية خالصة ،ثم مشروع فوسفات “أبو طرطور”فى الواحات الخارجة ،حيث وضع تصوراً كبيراً لبناء منجم ينقل صناعة التعدين الى مستوى العصر وينقل العمران الى الصحراء.

   معظم الدراسات التى قام بها “رشدى سعيد” والمقالات التى كتبها ونشرها مشغولة بالهّم والوجع المصرى ،أعماله تمثل رؤية استراتيجية للواقع والمستفبل ، ومن أجل الأستغلال الأمثل لللأمكانيات والموارد الطبيعية الموجودة فى مصر، مثل مشاكل المياه والتعدين ،ونزيف الهجرة المصرية ، ونظرة على مشكلة التزايد السكانى فى مصر،كان الرجل ينادى ولا يزال بضرورة رسم خريطة جديدة لمصر ،وكان من أوائل الذين أطلقوا صيحة أن مستقبل مصر الحقيقى فى تعمير الصحراء ،وأول من توقع حدوث أزمة فى مياه الشرب فى  مصر ، منذ عقد كامل تقريبا ، ،معظم ابحاثه تتركز حول مستقبل مصر الاقتصادى وهو زراعة الصحراء والأستفادة القصوى من المياه الجوفية ،وكان يرى أن مستقبل مصر هو الخروج من الوادى الضيق الى الصحراء ،ضرب هو نفسه مثالا ،حين اشترى قطعة أرض صحراوية مستصلحة فى الواحات وأقام عليها بيته ومنزعته.

   ولد”رشدى سعيد” عام 1920 وتخرج فى كلية العلوم عام 1941 ،وبدأ حياته العلمية بشركة القصير للفوسفات ،وفيها تفتحت عيناه على حقائق الواقع وعلى حقيقة مأساه المصرى وغربته داخل وطنه،كان عمال التراحيل الذين جلبوا من الصعيد هم عصب العمل فى المناجم ،كانوا يعملون فى ظروف شاقة وقاسية،دون أى حقوق،وكان الشعب المصرى ـ فى ذلك الوقت ـ مقهورا ومعصورا بين وادى ضيق لايستطيع الخروج منه ،وأرض زراعية مملوكة لعائلات محدودة.

 سافر “رشدى سعيد” الى بعثة فى سويسرا بعد ستة أسابيع من أنتهاء الحرب العالمية ،مقلا سفينة متهالكة أقلته من بور سعيد ،وكانت تقل جنودا فرنسين وسنغالين فى طريقهم من الشرق الأدنى الى فرنسا،إلتحق”رشدى”بجامعة “زيورخ”ولم يجد استاذا بها يعينه على دراسة”جيولوجيا البترول”،كان هذا الفرع المعرفى جديدا على أوربا ،لذا قرر رشدى نقل بعثته الى أمريكا التى عرفت هذا التخصص الحديث،ووصلته موافقة جامعة القاهرة بعد عامين،وكان على وشك إنهاء رسالته التى بدأها فى جامعة “زيوخ”،وقرر إلقاء هذه الرسالة جانبا وتوجه إلى جامعة “هارفارد”،وكان معظم زملائه من مسرحى الحرب العالمية الثانية،وقد عركتهم الحياة وزودتهم بالخبرة والمعرفة ،وأهم ما تعلمه فى هذه الجامعة هو تاصيل الفهم فى منهج العلوم وعرف الملاحظة والتفسير،وحين عاد الى مصر أتيح له مشاركة أساطين العلم فى مصر لترجمة القاموس العلمى.

كتابه “رحلة عمر”الذى وضع له عنوانا دالا”ثروات مصر بين عبد الناصر والسادات”مزج فيه بين السيرة الذاتية وبين  ثروات مصر ومواردها الطبيعية والبشرية بين عصرين متنافضين،وربط بين الهم الشخصى الذى يصبح هما مصريا جماعيا ،وأكتمل عشقه لمصر على أساس معرقى ،توج هذا الحب بدراسة متعمقة فى التربة المصرية ،بحثا فى العمل الحقلى الميدانى،وبحثا فى المعمل ،وأبدع كتبا لاقت نجاحا دوليا مثل: كتابه “نهر النيل نشأته وأستخدام مياهه” نشرت طبعته العربية دار الهلال ،وكتابه “جيولوجية مصر”الذى أُعتبر من عمدة الكتب العلمية الدولية عن التربة المصرية ،ونشر كتابين عن الواقع المصرى هما: “الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى”،”مصر المستقبل:المياه والطاقة والصحراء”.

    حملت سنوات السبعينات فى مصر مناخاً خانقاً على جموع المثقفين والوطنيين والكوادر المصرية الشريفة فى جميع النواحى،لم يسمح هذا المناخ القيام بأى مبادرة أو عمل مثمر ،فأستقال “رشدى سعيد” من مؤسسة التعدين،وأنهى علاقاته بالوظائف الرسمية،فقد كانت حياته جهادا وكدّا مثمرين لتحقيق أهداف كانت من الممكن لو تحققت لجاءت بالرخاء لمصر والسعادة لشعبها ،دخل “رشدى سعيد” فى معارك كثيرة فى مجالات عمله المتنوعة ،لم يكن همه إلا الصالح العام،فى الجامعة كان يسعى الى ترسيخ قواعد البحث العلمى وتفعيل دور السلوك لتأكيد مبادىء العدل والحكم الموضوعى،ونقد العقل الخرافى الذى يُسّيرالأمور فى مصروحتى على مستوى النخب السياسية،كان يرىـ ولايزال ـ أن خروج مصر من كبوتها له سبيل واحد هو العودة للشعب المصرى بكل طوائفه والاعتماد على تعبئة إمكانياته وتجنيد كفاءاته وهو الحل الأوحد والحقيقى يُمكن مصرالدخول الى نطاق الأمم المتقدمة،وما صنعت حضارة فى تاريخ الإنسان إلا بأيدى أبنائها المخلصين .والواقع المصرى والعربى اليوم فى حاجة ماسة وعاجلة الى رؤى وأفكار ومشاريع ،هذا المصرى الوطنى الصادق ، تماما كما كانت هذه الأفكاروالمشاريع صالحة قبل نصف قرن.

 لا يمل “رشدى سعيد” المحاولات وطرح الرؤى والتصورات حول ضرورة النهوض بالصحراء والخروج من الوادى الضيق.

 لايحتاج”رشدى سعيد” لمناسبة للحديث عنه ،أولتذكر بمكانته العلمية ومشروعاته النهضوية ،أو إنتماءه الصادق أو إخلاصه الوطنى، وربما لم يجد التكريم المناسب الذى يليق بمكانته ودوره ورؤيته ونزاهته وإخلاصه فى خدمة بلاده فى مجالات متعددة.

    رغم التقدير والتكريم الذى ناله الرجل فى المحافل الدولية، لم يلق تكريما رسميا فى بلده حتى بعد موته ،ولكنه فى الواقع يملك قدراً كبيراُ من المحبة والتقدير،الى حد يضعه فى قلب المثقفين والوطنيين المنتمين الى هذا البلد ،وهذا تقدير فى نظرى كبير،لأن الرجل فى عقل ووجدان المصريين فى زمن عز فيه قيم الأنتماء والأخلاص والعرفان.

                                                                                محمد رفاعى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *