محمد حليم يكتب: ثم جاء الشرع

السبب في كتابة هذا المقال الآن هو المذابح التي ارتكبتها قوات النظام السوري الجديد، المحسوبين فكريًا وتنظيميًا على تنظيم داعش الإرهابي، في قرى ومدن الساحل السوري بحق المئات من أبناء الطائفة العلوية. ويتزامن ذلك أيضًا مع فضّ الوقفة السلمية الاحتجاجية التي نظمها عشرات المثقفين السوريين من القوى المدنية، مطالبين بوقف الانتهاكات والمجازر بحق الشعب السوري في الساحل على خلفية طائفية. إلا أن النظام قابل ذلك بالاعتقال وفضّ الوقفة بإطلاق الرصاص الحي على المشاركين، مما أعاد إلى صدارة النقاشات مسألة صعود السلفية الجهادية، ممثلةً في أحمد الشرع، الداعشي السابق ورئيس الإدارة الانتقالية السورية حاليًا، إلى سدة الحكم في سوريا بعد سقوط النظام الأسدي المجرم، وسط مخاوف مشروعة من تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية تتقاتل فيما بينها، بينما يعيش الجار الصهيوني في سلام ورفاهية، بعدما تخلص من تهديد وجود دولة قوية على حدوده الشمالية، وهو الدور الوجودي الذي تأسست عليه دولة إسرائيل من قبل الإمبريالية العالمية، والمتمثل في منع ظهور دولة قوية ووازنة في منطقة الشرق الأوسط.

ولكي ندخل في صلب موضوع المقال، وهو الإجابة عن أسباب سقوط سوريا في براثن السلفية الجهادية، سنحدد الأسباب في مجموعة النقاط التالية:

  • اجرام النظام الأسدي في حق شعبنا السوري

لا يستقيم الحديث عن أسباب صعود السلفية الجهادية إلى سدة الحكم في سوريا إلا بالحديث عن دور النظام الأسدي في تخفيض سقف الطموح السياسي لدى الجماهير السورية، وانتكاسة المطالب العامة في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية إلى مجرد العودة إلى الوضع الطبيعي واستعادة أساسات وجود الدولة، وهو ما سهل وصول الجماعات الإسلامية المتطرفة وتقبل السوريين لحكمها.

لم يكتفِ النظام الأسدي بأن سياساته في الماضي، خلال عقود حكمه الغابر، عملت على تحطيم التنظيمات السياسية وإفقار الجماهير الشعبية وإبعادهم عن السياسة والشأن العام، بل حتى بعد تفجر لحظة الثورة وعودة الوعي العام والجدل السياسي إلى صدارة المشهد السوري، قام النظام الأسدي المجرم بتحطيم كل ذلك، وأعاد السوريين إلى نقطة الصفر بل وأبعد من ذلك.

تأمل، عزيزي القارئ، شعارات الثورة السورية في بدايتها:

لا سلفية ولا إخوان، ثورتنا ثورة حرية“. ،،

  “ثورة سلمية، لا سلفية ولا إرهاب، ثورتنا ثورة شباب“.

ولكن مع تزايد القمع وإرهاب وإجرام النظام الأسدي، وارتفاع أعداد الشهداء والمعذبين والمختفين قسريًا داخل معتقلاته وسجونه، دخل التكبير والهتاف: “على الجنة رايحين، شهداء بالملايين“.

ولما كان طيران الأسد المجرم يضرب الأهالي بالبراميل المتفجرة، صعدت هتافات: “يا الله، ما لنا غيرك يا الله“.

ظل الطابع العام للانتفاضة السورية مدنيًا وتحريريًا وإنسانيًا، وبقيت قاعدتها الاجتماعية عابرة للطوائف مبدئيًا، لكن مع القمع والقتل الأسدي، أخذ وجهها العام يغيّر مفرداته ولغته أكثر فأكثر، مستعينًا باللغة الدينية الإسلامية، التي كانت مسيطَرًا عليها من قبل اليمين الديني، وهو ما سهل قبول شعارات السلفية الجهادية، ممثلةً في تنظيم داعش وقائده أحمد الشرع، فيما بعد، بالدخول إلى جبهة القتال ضد النظام البائد.

  • عدم الثقة بالعالم الخارجي بسبب عجزه عن ايقاف اجرام الأسد

طيلة ما يزيد عن عقد من الزمان، عجزت كل المبادرات الدولية والإقليمية عن إيجاد حل للمسألة السورية، التي أصبحت ميدانًا لتصارع القوى العالمية، حيث سعت كل منها إلى الاحتفاظ بنصيبها من جسد الفريسة السورية، طمعًا في أراضيها وثرواتها.

فقامت روسيا وإيران وحزب الله بدعم النظام الأسدي المجرم لتثبيت حكمه البائد والحفاظ على كرسيه، ولو على دماء آلاف، بل مئات الآلاف من الشهداء السوريين، الذين قتلتهم قواته على مدار سنوات طويلة من القمع والتنكيل.

وعلى الجانب الآخر، أرادت القوى الغربية، وتابعتها تركيا، الحفاظ على موطئ قدم في صفوف الثوار السوريين، بل وسعت إلى تصعيدهم لملء الفراغ المتوقع عند سقوط نظام بشار الأسد. وعليه، دعمت هذه القوى الفصائل بالسلاح والمال وسهّلت دخول المقاتلين الأجانب إلى صفوف التنظيمات السلفية الجهادية، وعلى رأسها داعش.

بينما اكتفت الدول العربية والإسلامية بالصمت وإصدار بيانات الإدانة والشجب، وهو ما أصاب الشعب السوري الشقيق بحالة من اليأس وعدم الثقة في مختلف الأطراف الخارجية، سواء من الشرق أو الغرب، أو حتى من أبناء جلدته العربية والإسلامية.

  • دعم جهات اقليمية للتنظيمات الاسلامية لمتطرفة

في إحدى اللقاءات الإعلامية، صرّح حمد بن جاسم، وزير خارجية قطر السابق، الذي شغل منصب رئيس الوزراء فيما بعد، بأنه تم تقديم مليارات الدولارات لإسقاط النظام الأسدي، وذلك تحت رعاية وإشراف أمريكا وتركيا، وبتمويل خليجي.

ويتوافق هذا مع حجم التجهيزات العسكرية الضخمة التي حازتها جبهة النصرة، التي تحولت لاحقًا إلى هيئة تحرير الشام، وكذلك مع الأعداد الكبيرة من المقاتلين الأجانب الذين تم استقطابهم من دول أخرى للقتال ضمن صفوف السلفية الجهادية المقاتلة في سوريا.

وفي الوقت ذاته، تم حرمان الجيش السوري الحر من التمويل والتسليح، بل وتهميشه إعلاميًا، بينما كانت قنوات الجزيرة القطرية تستضيف وتلمّع صورة الداعشي أحمد الشرع.

  • غياب المعارضة المدنية السورية وخاصة تنظيماتها اليسارية وعدم ادراكها مهام المرحلة التاريخية للثورة السورية

في أواخر عام 2011، أي بعد شهور قليلة من اندلاع الانتفاضة السورية، رفعت لافتات تقول:

يسقط النظام، وتسقط المعارضة، ويسقط المجلس الوطني، ويسقط اتحاد التنسيقيات، وتسقط الهيئة العامة للثورة“.   

يمكن وضع تلك الشعارات في سياق اليأس من النظام والمعارضة، لكنه ليس يأس القانط أو المستسلم، بل يأس الغاضب المستميت في الصراع الوجودي الذي فرضته تطورات الواقع، وردّ فعل النظام المفرط في عنفه ضد المظاهرات الشعبية المعارضة، وضد عموم المدن والبلدات المنتفضة.

لقد حوّل النظام تلك الانتفاضة من مجرد مطالب سلمية بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية إلى صراع عسكري مسلح ضد الشعب والثوار والمنتفضين، وهو ما جعل حمل السلاح ضد النظام وقواته أمرًا طبيعيًا، بل ردّ فعل غريزيًا للحفاظ على البقاء.

إلا أن هذا التحول صاحبه تحديات خطيرة، تتعلق بظهور المكون المسلح للثورة، والخوف من تنامي الاتجاهات المتطرفة الإرهابية داخل المعسكر المسلح المحسوب على الثورة، وارتباطه بمصالح دول إقليمية.

وفي المقابل، رفضت أطياف واسعة من المعارضة السورية الخيار العسكري الثوري بالكامل، ورأت التمسك بسلمية الثورة وعدم الدفع نحو الصدام العسكري مع قوات النظام. لكن هذا الموقف أفقد المعارضة الهشة والمترددة تأييد الجماهير المنتفضة، إذ بدت تصوراتها عن رفض العنف الثوري ضد النظام غير واقعية.

وهكذا، صبّ هذا الوضع في صالح التنظيمات الإسلامية المتطرفة، التي أصرت على حمل السلاح واستكمال الطريق لإسقاط النظام الأسدي المجرم. وقد وفّر ذلك غطاءً شعبيًا وقبولًا لهذه التنظيمات داخل صفوف الثورة أولًا، ثم بقبول وصولها إلى سدة الحكم، بعد إسقاط النظام وفرار بشار الأسد إلى روسيا، بعد نهبه مليارات الدولارات من الخزانة العامة للبلاد، في سلوك لصوصي مارسه طيلة فترة حكمه الغابر.

لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن حركة أحرار الشام الإسلامية قد استولت على مبلغ عشرة مليارات ليرة سورية من البنك المركزي السوري في شهر مارس عام 2023، ولم تفصح الحركة بالطبع عن أوجه صرف هذا المبلغ الضخم.

  • الخلاصة

شكّلت عوامل الضعف الذاتي لقوى الثورة السورية، وغياب تنظيماتها القادرة على قيادة الجماهير واستكمال مهام الثورة وفق مشروع ثوري واضح ومتفق عليه، إلى جانب تآمر القوى الدولية الكبرى والدول الإقليمية، الأسباب الموضوعية لفشل الثورة السورية.

وقد مهد ذلك الطريق لصعود الفاشية الإسلامية، ممثلةً في إدارة أحمد الشرع، إلى سدة الحكم في البلاد التي أنهكتها سنوات الاقتتال الأهلي والتشريد داخل وخارج البلاد. واليوم، تنتظر سوريا سيناريوهات لن تقل قتامة عما مضى، بل ربما تزداد سوءًا، خاصة إذا وصلت الأمور إلى حد التقسيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *