عشر سنوات على ثورة يناير.. عمر سعيد يكتب: الطوفان الذي أخرجه الهتاف.. (ذكريات يناير)

في السماء.. تتجمع السحب.. تتراكم.. تتكاثف

تنوء بأثقالها.. فتفرغ علينا قَطرًا.. منهمر

يسيل ويعلو.. ويشكل طوفانًا عظيمًا

يأخذ معه ركام الأرض.. وخطايانا

ولا يبقى بعد ذلك من شيء

إلا الوحوش التي سكنت المغارات بأعلى الجبل

كنت واحدًا من هذه الطائفة الموصومة بالجنون والمراهقة. حياتنا تدور في دائرة منتصفها الثورة. اتهمنا بالعمى والتعامي، عن بلد ضائع تحركه سيجارة الحشيش وقرص الترامادول وليلة الخميس. لا يشغل بال أهله غير لقمة العيش اليومية، يومًا بيوم. كنت واحدًا من دراويش فكرة الغضب والانتقام من السلطة، مؤمنًا أن هذا اليوم آت دون نقاش.

غير أن المعتقدات والأحلام، مهما كانت راسخة، قابلة للإحباط، بالذات في العام 2010، وجاءت آخر لياليه لتمحو أدنى ذرة من الأمل، محملة بدماء أقباط قصدوا الاحتفال في كنيسة القديسين في الإسكندرية. هذا الشعور كان المحرك الأساسي لكل انفعالاتي في الأيام القادمة، حتى الثورة التونسية وصرخات “بن علي هرب”، لم تستطع ابتلاع السحابة السوداء.

عندما شاركت في اجتماعات عدة على مدار عشرة أيام سابقة ليوم الثلاثاء 25 يناير – تحضيرًا للمظاهرات- كنت أصمت أغلب الوقت، في المرات القليلة التي شاركت فيها برأيى، قلت: “إن كان لابد من حلم، فليكن مثلنا.. بسيطًا”.. دعونا نخفض سقف الخطط والطموحات، لا داعي لمحاولة التحرك إلى وزارة الداخلية في ميدان لاظوغلي، دعونا نكتفي بمسيرتين في شبرا وإمبابة يكون شعارهما الأساسي “متضامنون مع ثورة تونس.. وفي مصر، لنا يوم”. بالطبع لم أكن من دعاة أن مصر ليست تونس. عندي يقين نهائي أن الثورة قادمة، لكن ربما ليست الآن، على الأقل ليست بدعوة على الفيسبوك دون تعبئة حقيقية في الشارع وتنظيم متماسك للطليعة السياسية.

في أيام الاجتماعات كانت أخبار محاولات الانتحار احتجاجًا أمام مجلس الوزراء بدأت تتوالى، حتى وصلنا لابتذالها مع توقيف مواطنين حاولوا إحراق أنفسهم، وعندما فحصوا زجاجة البنزين المفترضة، اتضح أنها ماءً.

في صبيحة الثلاثاء 25 يناير كنت قد جهزت مسودة أولية لمقال رأي أرسله لجريدة “السفير” اللبنانية. كانت الفكرة بالأساس تطرح أسئلة عن سبب عزوف الناس عن دعوات الاحتجاج، وتفضيلهم للانتحار احتجاجًا، عن فكرة مشاركتهم في مظاهرة. لكني ضبطت نفسي أذهب لميدان التحرير في الظهيرة، وكان هناك المشهد مجسدًا.. صفوف الأمن المركزي وقوفًا تحبس أنفاسها، ومئات من الناس بينهم عدد قليل من النشطاء.. بدأنا الهتاف، هتافات عدة لم يكن من بينها هتافات الثورة الشهيرة في ما بعد. كان الميدان مفتوحًا، فتحركنا من ميدان التحرير للتظاهر أمام مبنى الحزب الوطني، بعد دقائق عبرنا ميدان عبد المنعم رياض ووصلنا إلى ماسبيرو. وكانت أولى قنابل الغاز. تفرقت المظاهرة لتتشكل واحدة صغيرة تتحرك من ماسبيرو، ووجدتني مع مئات آخرين، ليست فيهم الوجوه المعتادة، لا نشطاء أعرفهم، ولا دليل على وجود إسلاميين أو منظمين في الحشد الصغير. قدت الهتاف واستدعيت الشعارات التي كنت أرددها خلف “الهتيفة” منذ أيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية. عبرنا شارع الجلاء إلى شارع الصحافة ثم السبتية، ثم نفق أحمد حلمي وصولا إلى شارع شبرا، كان اختراق حواجز الأمن المركزي طوال هذا الطريق سهلًا نسبيًا. إلا أن شارع شبرا كان نهاية المطاف.

وصلت على مشهد سحل واعتقال كمال خليل وهيثم محمدين، فألقيت الكوفية الفلسطينية التي كنت أرتديها في صندوق زبالة، ومسكت يد صديقة التقيتها هناك، وعبرنا من بين لواءات وقيادات الشرطة سالمين وعدنا إلى وسط البلد.

بعد ساعات، عادت المسيرات “المضروبة” في إمبابة وشبرا وشارع ناهيا والآلاف الآخرين إلى ميدان التحرير، والذي بقي آمنًا حتى اقتحامه بعنف مع ساعات الليل الأخيرة.

مر يوما 26 و27 يناير دون الكثير من الأحداث، لكن الأكيد أن شوكة الإحباط كانت قد تكسرت تمامًا. أتذكر أن مرضًا نفسيًا كنت قد اكتسبته في السنوات الأخيرة، هو الخوف من الموت، كان قد تراجع تمامًا، يوم الثلاثاء 25 يناير شهد عدة احتمالات للموت، لم تحدث، لم أمت، ولم أهلع من الموت، مر اليومان مرورا خفيفًا مثل تلك اللحظات التي يشعر بها المضرب عن الطعام بالخفة، لم يحدث في هذه الساعات، بين الثلاثاء والجمعة، إلا حدثين أدخلا شعورًا بأن القادم لن يمر سريعًا.

مساء الأربعاء: كنت على باب معسكر الأمن المركزي في الجبل الأحمر في انتظار الإفراج عن الصديق الأقرب محمد فرج. كان مئات الأهالي يستعلمون عن مصائر ذويهم. في الساعات التي بقيتها هناك كنت أقول إن جميع المعتقلين سيفرج عنهم الجمعة. لا معلومة لديّ، لكني قلت ذلك بيقين لا أعلم مصدره.

الساعة الثانية صباح 28 يناير: بدأت الأنباء عن أن الجيش استلم بعض أقسام الشرطة. تجولت مع الصديقين تامر فتحي وسيد داوود، سيرًا على الأقدام، وصلنا فيها من وسط البلد حتى منتصف طريق صلاح سالم. في الجولة هذه لم أر شرطيًا واحدًا، ولا سيارة شرطة واحدة، ولا أي علامة من علامات الاستنفار الطبيعي في الأيام الميتة. تولد اليقين الثاني، إنه الهدوء ما قبل العاصفة.

بدأ الجمعة 28 يناير، وهو عيد ميلاد أمي، بداية سيئة، حاولت مرارًا أن أتصل بأمي المظلومة بين زوج وأبناء، جميعهم من مواليد برج الجدي، إلا أن الاتصالات كانت بالفعل قد قُطعت.

وقت صلاة الجمعة كنت مع بعض الأصدقاء نسير في شارع التحرير في الدقي. خرج بعض المصلين من المسجد وفي مقدمتهم بعض الشباب، الهدوء قاتل.. لا حركة في الشوارع. حتى السيارات اختفت. تبادلنا النظرات مع الشباب الخارجين من المسجد. مر بعض الوقت لا أعلم قدره. وفجأة وفي صوت واحد، أنا وأصدقائي من جهة، والشباب من الجهة الأخرى، وتردد الشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”.. انتهى حرف الميم ومرت أجزاء ثوان.. كانت صعبة وبطيئة وثقيلة، مرت وكأنها أيام، ثم قطع الصمت صوت من داخل المسجد مرددًا نفس الشعار…!

فجأة، خرجت الناس من شوارع داير الناحية وسليمان جوهر والدقي القديمة، قبل أن نصل إلى كوبري الجلاء، بعيون دامعة وصدور مهتزة وجلود تلتهب، كان المشهد مهيبًا.. الرؤوس تملأ المدى أمامي، وإلى الوراء حتى كوبري الخشب، واليمين إلى مديرية أمن الجيزة، وإلى اليسار حتى العجوزة، والهتاف ذاته يتردد..

قوات الأمن بعيدة تلقي قنابل الغاز والرياح تسقطها في منتصف الطريق ولا يصلنا إلا ما يثير الدموع، التي لم تنتظر الغاز أصلا فانهمرت، رأيت رفيقًا كنا قد انقطعنا عن بعض لخلافات سياسية تنظيمية، لكننا لم نفكر واحتضنا بعضنا البعض “ها هي الثورة”. المشهد الرومانسي لم يدم طويلًا حتى بدأت الجثث في الوصول من الصفوف الأمامية… بدأ العشرات في التقدم، وشاركتهم.

قبيل الوصول لصف الأمن المركزي المرابط عند نادي القاهرة، وجدت صديقي مؤمن المحمدي فاقدًا الوعي. ومؤمن كانت حركته صعبة لوزنه الكبير. سحبناه سحبًا على الأرض شبيه بسحل الأمن المركزي حتى ابتعدنا، عندما أفاق، قال لي “ما كنتش عارف أجري، فضلت واقف مكاني مستني يغمى عليا لحد ما ييجي حد يشيلني.. وحصل”.

كنت بين الناس أفعل كما يفعلون، لا أستطيع التقدم ولا الرجوع، نسير الأمتار بعد تقهقر قوة من قوات الأمن المركزي. لدي مشاعر تريد الانتقام من القوة التي قتلت وأصابت، لكن كنا نصل لفلولها فنجد الضابط استطاع الهرب، تاركًا المجندين وراءه دون حماية حتى من الغاز المسيل للدموع. فبقيت رغبة الانتقام مكبوتة.

في الساعات التي سبقت جمعة الغضب ملأت الأسئلة رأسي دون إجابات واضحة. ماذا لو نزل الجيش؟ كيف سيتصرف؟ وكيف سيقابله الناس؟ بالنسبة لي، الجيش مهما تجمل سيظل وفيًا لقائده الأعلى، وفي أول فرصة سيصفي حسابه معنا “واحدًا واحدًا”.

عند باب الأوبرا الرئيسي، رأيت أول مدرعة للجيش تحمي ضباط الأمن المركزي وتسرع نحو الجماهير لإخافتهم، كان واضحًا إلى أي صف انحازت المدرعة. لكن فجأة خرج هتاف جديد، وغريب “الجيش والشعب إيد واحدة”. بعد لحظات، استدارت المدرعة وانسحبت نحو كوبري قصر النيل، شعرت للحظة أن الناس خدعت الجيش، وأجبرته على عدم الانحياز. شعرت أننا “اشتغلنا مدرعة الجيش”.

(استرجعت هذا الشعور فيما بعد، وضحكت كثيرًا حتى أدمعت)

بعد مشاهدة صور الاشتباكات التي أدت إلى دخولنا الميدان على المواقع بعد عودة الإنترنت، لم أصدق أنّي كنت من بين هؤلاء، كنت ذرة من بين طوفان غطى كوبري قصر النيل وظل يزحف حتى فُتح الميدان، طوفان أجبر حاملي البنادق والقناصة على خلع ملابسهم والهرولة في الأزقة حتى اختفوا، لم تمر ساعة على وصولنا ميدان التحرير، كنا آلافًا معدودة في ميدان تملأه فوارغ الطلقات ولا أحد غيرنا، بدأت المسيرات تصل الميدان. من شارع قصر العيني ومن عبد المنعم رياض ومن طلعت حرب. امتلأ الميدان، ونزلت المدرعات والدبابات.. لم أر في حياتي هذا الكم من مركبات الجيش المصري إلا في الأفلام.. شعرت ببعض البلاهة، ربما استمرت حتى اللحظة، مع كثير من المرارة وقلة الحيلة.

عمر سعيد

صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *