د. أحمد حسين يكتب: الثوريون والمؤيدون..وفيما بينهما “بالونات” في المنتصف

تعرف المعاجم اللغوية كلمة “الثَّورَة” أنها تغيير أساسي وجذري في الأوضاع السياسية والإجتماعية، يقوم بهذا التغيير الشعب، وإن وصفت الثورة بالسلمية فذلك يعني أنها تحقق أغراضها بدون سلاح أو إراقة دماء، أما لو كان وصفها بالمسلحة فذلك يعني أنها تعتمد السلاح وسيلة للتغيير.. وفي المفاهيم السياسية التقليدية وأيضًا الحديثة للثورة يكون “التغيير” هو الجوهر والمؤشر الذي يتم الحكم من خلاله على نجاح الثورة أو إنكسارها، تغيير كامل من دستور لأخر أو تعديل على دستور موجود، والأهم هو التغيير للمؤسسات والسلطات في نظام سياسي  لتحقيق طموحات لنظام سياسي مختلف، لا يشترط السرعة لتحقيق الثورة هذا “التغيير” المطلوب، فقد استمرت بعض الثورات سنوات مثل الثورة الفرنسية التي ثارت على الملكية واستمرت عشرة أعوام، والثورة السورية على الإستعمار الفرنسي والتي استمرت لعامين.

ثورتا يناير ويونيه لم تحققا بعد التغيير الذي طالب ويطالب به الشعب.. فعلى مستوى النظام السياسي، لم تفعل كلتا الثورتان سوى أن أدارت وجهي عملة واحدة، إنبطح في إحداها وجه ثم ظهر على السطح مرة أخرى مع الثانية.. وعلى مستوى الحقوق والحرية والنهضة للمجتمع، فما زالت تسمعها في وسائل الإعلام وتصريحات المسوؤلين ومدونة في الدساتير، اختلفت الوجوه ربما وحوافظ الأوراق، ولكن جميعهم يحدثون المواطن عن وطن افتراضي لا يوجد له ثمة دليل على أرض الواقع.

اختارت الثورتين أو – كهذا خُيل أنه اختيار- أن تغير الدساتير ثم تعدلها، وأيضًا خُيل لهما إختيار المحاكمات القانونية لا الثورية..الدستور كما قلنا يحوي في أغلبه روايات جميلة لهواة الرومانسية شريطة أن ينسوها بإنتهاء وقت القراءة، وأحكام القضاء تفلت من إدانته براثن الفساد فيزدادون سطوة فهكذا القانون أعمى يحتاح لأوراق تجلي ظلمته، والأوراق يسطرها نفس من صنعوها.

خدعة أو الإيحاء بإختيار الشعب وسطوته في كلتا الثورتين..هناك من الثوريين من تجرع كأس الخدعة مبكرًا وجرعةً واحدة، تذوق مرارتها جعلت أولئك يستفيقون سريعًا، نتاج ذلك أنهم لم تنطال عليهم خدع جديدة فقط بل جعلوا يحذرون غيرهم ، إلا أنهم كانوا لمن بين اليقظة ونعاس الرشفات المتأنية من كأس الوهم، كانوا لهم كمثل الفنان حسين رياض في فيلم “واسلاماه” عندما كان يحذر الشعوب العربية من قدوم التتار، ومثلما لم يصدق رياض سوى قائد مغولي وحاول قتله،أيضًا لم يصدق هولاء الثوار حينها سوى الفسدة والطغاة فقتلوا من قتلوا منهم وسجنوا أخرين بينما فرض سياج اليأس و العزلة على الباقي.

وعلى مسافة قد تبدو أبعد مما هي عليه، الثوريون الذين استفاقوا بعد إنتهائهم من تجرع مرارتين، مرارة الخدعة ومرارة حال الثوريين أقرانهم، فقرروا أن يأخذوا مسار التغيير التدريجي وينفذوا من أية ثقوب قد تتُاح في جدار الكبت والقهر آملين في إتساعها، قرروا أن يحاولوا تطبيق الأحلام التي سطروها في الدساتير على أرض الواقع، من خلال القانون الذي أوهمهتم الخدعة أن من يطبقونه أيضًا عميان وراهنوا بالرهان الصعب أن يفضحوا بالشعب أن القانون والشعب ليس معصب العينين.

على الجانب الآخر من هولاء وأولئك الثوريين،من يضعد ويدعم ويؤيد استقرار الوضع كما هو عليه دون تغيير، متمثلًا في دعم وتأييد النظام السياسي في جميع سياساته وقرارته من ناحية، ومن ناحية أخرى بمهاجمة ومناهضة الإتجاه الثوري بكل طوائفه والذي يجنح إلى التغيير بإختلاف وسائله، ليس بالضرورة أن يكون المؤيدون مستفيدين من النظام في مصالح خاصة بحتة، فمنهم من يخشى التغيير كطبيعة أي مجتمع أو جماعة إعتادت على نظم عقود عديدة، ومنهم من يراوده الرعب من سنوات إنتقال تسودها إضطرابات وأزمات لا يتحملها العديد من فئات الشعب، فكما ذكرنا قد يستغرق نجاح الثورات سنوات عديدة وقد توؤل بعدها للفشل.

بين المؤيدين بإختلافهم والثوريين بإختلافهم، يقبع أناس من فصيل مختلف، أشبه ببالونات الهواء في المسافة البعيدة بين الثوريين والمؤيدين، مثبتة في المنتصف فلم يشعر بمحتواها الثوريون، ولم يرى حجمها المؤيدون.. هم المزايدون على الثوريين حتى يقتلوا أو يسجنوا فترسم كلماتهم شجون العزاء، وهم الساخطون الشتامون للمؤيدين دون أن يمدوا لهم حبل نجاة.. فقاعات هواء لا تغير مسار مياه.

أتفهم واحترم وجهة نظر شطري الثوريين، ومن عقود تضليل وتغييب للوعي قد التمس الأعذار لشرائح من المؤيدين، ولكن لا أرى حجة و لا احترم هولاء القابعين في المنتصف.. في ذات الوقت الذي يملأون الدنيا ضجيجًا حول فساد النظام وحكومته، تراهم يسعون للقاء رجالهم، بعد ومع فشلهم في تحقيق أية إيجابيات تراهم يزايدون ويعرقلون كل من يحاول أن يخطوا خطوة نحو تغيير إيجابي، وبينما يتندرون بسلبية وخنوع المجالس النيابية تراهم يدعون أعضاءها لموائدهم ويبذلون المجهود للتعرف على الأكثر منهم، إلا أن صفة الخيانة جاهزة لوصم كل من التحق أو ترشح لإنتخابات البرلمان.. نحن الشرفاء وأنتم الخائنون، أفيدونا و لكن لا تلوثونا، صوتنا الحق وعملنا يعلمه الله، نحن من نحاسب ولا نحاسب فنحن من نمتلك الحقيقة والحق..هذا حالهم.

السواد الأعظم بين هولاء الكتل المختلفة، هو الشعب الأبسط في كل شيء، أحلامه ومتطلباته ووعيه، هو الرهان الوحيد للثوريين أو المؤيدين على التغيير من عدمه، الرهان على وعي الشعب ونموه ويقظته لردع أي فساد فهو الأقوى من أي فسدة، أما الأخطر أن يُضلل وعي الشعب فلا يميز بين الفاسد والصالح والوطني والخائن، الأخطر أن يحتار الشعب فيركن للسلبية.. والأشد خطرًا على الشعب هولاء القابعون في المنتصف.. بالونات الهواء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *