المرجع الشيعي علي السيستاني.. بين الثورة والسياسيين وصراع المراجع الدينية

كتبت – ريهام الحكيم  

استقبل المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني الأسبوع الماضي مبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة بالعراق هينيس – بلا سخارت في منزله المتواضع في محافظة النجف الأشرف جنوب العراق بعد عام على أخر لقاء جمع بينهما، وأصدر السيستاني بعد اللقاء مجموعة من التوصيات أهمها :

اعلان دعمه الكامل لإجراء الإنتخابات التشريعية المبكرة المزعم عقدها يونيو 2021، و حث العراقيين “على المشاركة بصورة واسعة” ، محذراً من أن “مزيداً من التأخير في إجراء الانتخابات أو إجرائها من دون توفير الشروط اللازمة لإنجاحها، لن تكون نتائجها مقنعة لمعظم المواطنين، مما يؤدي إلى تعميق مشاكل البلد والوصول إلى وضع يهدد وحدته ومستقبل أبنائه”.

                             بلا سخارات ترتدي الحجاب في منزل السيستاني

كما دعا السيستاني إلى سيطرة أجهزة الدولة العراقية ببسط نفوذها على المنافذ الحدودية للبلاد، ومكافحة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة ومحاسبة قتلة المتظاهرين ، كما دعا إلى الحفاظ على السيادة الوطنية.

 موقف السيستاني الأخير يعد ضربة جديدة للكتل السياسية الشيعية داخل البرلمان ، خاصة الكتل الكبيرة، والتي ترغب في تأجيل الانتخابات عن موعدها المحدد، بعد تراجع شعبيتها، على إثر الاتهامات التي طالتها بالوقوف خلف عمليات القمع والقتل والفساد في الإنتفاضة الشعبية في أكتوبر الماضي.

رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أقدم على اتخاذ قراراً بشن حملةٍ من الإعتقالات طالت مجموعة من المسؤليين الكبار المتهمين بالفساد، الحملة شملت إعتقال كلا من أحمد الساعدي مدير هيئة التقاعد السابق ، وشاكر الزاملي رئيس هيئة استثمار بغداد وعادل خضير مدير عام المصرف الزراعي ، فضلاً عن اعتقال مدير ومالك شركة (كي كارد) بهاء عبد الحسين في مطار بغداد الدولي، بينما كان ينوي الهرب خارج البلاد.

البعض اعتبر حديث السيستاني مع بلا-سخارات بمثابة “تفويض” للكاظمي في إدارة تلك الحملة من إعتقالات وفتح عدد أخر من ملفات الفساد الكبرى، كما عاد الحديث مجدداً عن حساب المحرضين على  قتل المتظاهرين السلميين في الحراك الأخير(561 قتيل أرقام رسمية و800 قتيل أرقام غير رسمية) المتهم فيها سياسيين وزعماء ميليشيات وقادة أمنيين.

السيستاني الذي عادة لا يظهر للعلن، أحدث ضجة في وسائل الإعلام العراقية عقب ظهوره مؤخراً مع ممثلة الأمين العام والتي استقبلها في منزله المتواضع الذي يسكنه منذ عشرات السنين.

فمن هو  المرجع الشيعي على السيستاني؟ ومدى تأثيره في تحريك الشارع العراقي والعملية السياسية في العراق؟

هو علي بن محمد باقر بن علي الحسيني السيستاني ، الشهير بـ ” علي السيستاني”  أحد أكبر المرجعيات الدينية للشيعة في العراق والعالم ، خلف أبا القاسم الخوئي في زعامة “الحوزة العلمية” في محافظة النجف وهو يحمل جنسية إيرانية.

ولد عام 1930 في مدينة مشهد الإيرانية، ولقبه السيستاني نسبة إلى محافظة سيستان في إيران.

 هاجر إلى العراق عام 1951 لدراسة الحوزة في محافظة النجف جنوب العراق، وحصل على إجازة بالاجتهاد من شيخيه آية الله أبي القاسم الخوئي وآية الله حسين الحلي.

عام 1992 تولى السيستاني زعامة “الحوزة العلمية ” و شؤون المرجعية خلفاً لإبي القاسم الخوئي، عقب وفاة الأخير، وقام بالتدريس على منبر الإمام الخوئي في مسجد الخضراء بمحافظة النجف الأشرف.

على مدار التاريخ، اتخذت المرجعيات العراقية في النجف بشكل عام أسلوب النأي عن التدخل في الحياة السياسة، وتكريس حالة الديمومة بالعلم والبحث المعرفي واعتماد التبليغ نمطاً لإدارة التواصل مع شيعة العالم، معتمدين على منهج الأمام جعفر الصادق الحفيد الرابع للخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ولا تقر المرجعية الشيعية في العراق الممثلة بالمرجع الأعلى علي السيستاني بفكرة “ولاية الفقيه” التي تقرها إيران ( كلاً من الخميني وخامنئي من بعده )  فـ”ولاية الفقيه” التي نادى بها السيد الخميني تفرض على الناس الإيمان بأن ولاية الفقهاء تأتي من الله عز وجل تماماً كولاية الرسول  ص والأئمة من آل البيت وأنها ولاية دينية إلهية، على حد قول الخميني في كتابه “الحكومة الإسلامية”.

وفي التاريخ الإسلامي كانت إيران على مدى ألفِ سنةٍ، سُّنية المذهب (شافعية وحنفية)، مع وجود أقلية شيعية. وبعد قيام الدولة الصفويَّة (1501-1722) فرضت المذهب الشيعي (الاثنا عشري) عام 1507 في كل المناطق الخاضعة للصفويين داخل وخارج إيران.  

ومنذ العهد الصفوي حاولت إيران لأكثر من مرة، جعل (حوزة قم) في إيران بديلاً عن (حوزة النجف) في العراق ، أن تكون لـ”حوزة قم” المنزلة العلميَّة العليا لكي تتمكن من خلالها الهيمنة على عموم الشيعة في كل أنحاء العالم.

للسيستاني ثقلاً موازناً أمام إيران، كمدرسة فكرية في المذهب الشيعي تعارض الحكم المباشر من قبل رجال الدين ، نظام “ولاية الفقية” المتبع في إيران، الذي تتخذه مرجعية خامنئي وسيلةً للتحكم بالسلطة في إيران وتحاول تصديره للتحكم ببقية البلدان ذات الغالبية الشيعية، بينما لا تتبنى مرجعية النجف مبدأ “ولاية الفقيه”، بل تعتمد على النصح والإرشاد في ما يتعلق بقضايا العراق الداخلية.

هذا الخلاف الفقهي بين المدرستين ، مدرسة النجف العراقية ومدرسة قم الإيرانية، تشعب بعد عام 2003، بدخول قوى سياسية مؤمنة بـ”ولاية الفقيه” إلى الساحة السياسية العراقية، إذ أخذ شكل الصراع يتبلور على أساس العلاقة بالنظام السياسي الجديد.

أما محافظة النجف جنوب العراق اللصيقة بالكوفة التي أوعز ببنائها الخليفة عمر بن الخطاب عام  16 للهجرة وقبلها بسنتين بناء البصرة، لتكون أول المدن العربية التي يبنيها المسلمون العرب، وزادت قيمة الكوفة حين انتقل إليها الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ليحيلها إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، مبتعدا ً عن الفتنة الكبرى التي حدثت إثر مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

  زادت قيمة النجف والكوفة وتحولت إلى مركز تجاري وبيتاً للعلم والاجتهاد الفقهي، فقد أعاد تأسيسها عام 447 هجرية العالم محمد بن الحسن الطوسي الملقب بـ”شيخ الطائفة”.

وبالرغم من تأسيس حوزات أخرى في العالم الاسلامي ظلت حوزة النجف علامة مشرقة لدراسة علوم اللغة والآداب العربية ومركزا فكريا ومعرفيا، واحتلت مكانة في كونها خرّجت كبار الشعراء والكتاب والمحققين العرب والأعاجم ممن درسوا فيها.

السيستاني وعراق ما بعد عام 2003

منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ساهم السيستاني في إدخال التيارات الشيعية إلى العمل السياسي، وعمل على إرغام الإدارة الأميركية وبول بريمر ، الحاكم المدني انذاك ، على تسليم السلطة للعراقيين وإجراء الانتخابات التشريعية عام  2005، فضلاً عن كتابة دستور دائم للعراق.

 إلا أن انتقادات عدة وجِهت له إثر دعمه لقائمة “الإئتلاف العراقي الموحد” ، الذي كان يضم حينها أغلب التيارات الإسلامية الشيعية، المتعاونة مع الإحتلال الإمريكي وداعية لتقسيم العراق لاقاليم فيدرالية، لكنه عاد ليبيّن أنه خارج إطار الاصطفافات السياسية، حين قال إنه “يقف على مسافة واحدة من كل المرشحين” وغير داعم للقائمة المذكورة.

Description: C:\Users\Sherief\Desktop\download (1).jpg
                                                                   انتخابات العراق عام 2005

وظهرت بوادر الخلاف بين السيستاني وبعض القوى السياسية الحاكمة وبالأخص الشيعية منها، قبل عام 2010، حين رفض لقاء نوري المالكي رئيس الوزراء انذاك، فضلاً عن إغلاق بابه أمام الطبقة السياسية في تلك الفترة.

وفي عام 2014 الذي شهد هزيمة الجيش العراقي أمام تنظيم الدولة الإسلامة “داعش” واحتلال خَمس محافظات عراقية، تمثل ثلث مساحة العراق ، أصدر السيستاني فتواه الشهيرة  “الجهاد الكفائي” والتى دعى فيها شباب العراق للتطوع والجهاد لدعم الجيش العراقي والقوات الأمنية.

انضم مئات الآلاف من الشباب في المحافظات العراقية الجنوبية ، ذات الأغلبية الشيعية، إلى هيئة ” الحشد الشعبي” والذي أصبح لاحقاً جيشاً موازياً ومنافساً للجيش العراقي.

السيستاني في فتواه لم يذكر كلمة  جيش موازي أو ميليشيات تعمل خارج اطار الدولة بل استمر بالتأكيد على عبارة “المتطوعين في القوات الأمنية“، وضرورة حصر السلاح بيد الدولة، ما يشير إلى رفضه الواضح للميليشيات المسلحة الموالية لإيران التي هيمنت على الحشد، والتي اتخذت من فتوى السيستاني وسيلةً لزيادة نفوذها، على الرغم من تأكيده الدائم على رفض التدخل الإقليمي والدولي في العراق.

السيستاني وثورة تشرين 2019

وعقب اندلاع الثورة الشعبية في العراق ولبنان  أكتوبر 2019، وصف خامنئي المرجع الأعلى في إيران، الاحتجاجات العراقية واللبنانية بأنها “أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة” و دعا مسؤولون إيرانيون الحكومة العراقية إلى التصدي بالقوة للتظاهرات.

السياسيون في العراق اتهموا المتظاهرين بتهم العمالة والتمويل من السفارات الأجنبية، وشنت عدد من الفضائيات العراقية حملة لتشويه التظاهرات المنددة بالفساد والحكومة العراقية، حكومة عادل عبد المهدي انذاك، واتهمتهم بالتخريب والفتنة والعمالة.

السيستاني بدوره دعم الثورة والتظاهرات الشعبية التي اجتاحت بغداد ومحافظات الجنوب الشيعية، وهو ما شكل صفعة للطبقة الحاكمة و للسياسيين داخل البرلمان، حيث أعتبر السيستاني ان الثورة ستشكل انعطافة كبيرة في الوضع العام في العراق،.

 وفي نوفمبر 2019 كان خطاب الجمعة للسيستاني الذي تلاه ممثله أحمد الصافي في محافظة كربلاء جنوب العراق يحمل هجوماً مباشراً للحكومة العراقية قال فيه “إذا كان مَن بيدهم السلطة يظنون أن بإمكانهم التهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة، فإنهم واهمون“. وأضاف “لن يكون ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كل الأحوال، فليتنبهوا إلى ذلك“. 

Description: C:\Users\Sherief\Desktop\148211-1761384165 (1).jpg
                                                                     متظاهرون يحملون صور السيستاني نوفمبر 2019

وأكد السيستاني  أن “المواطنين لم يخرجوا إلى التظاهرات المطالِبة بالإصلاح بهذه الصورة غير المسبوقة ولم يستمروا عليها طوال هذه المدة بكل ما تطلّب ذلك من ثمن فادح وتضحيات جسيمة، إلاّ لأنهم لم يجدوا غيرها طريقاً للخلاص من الفساد“.

واعتبر أن الفساد في البلاد يتفاقم “بتوافق القوى الحاكمة على جعل الوطن مغانم يتقاسمونها في ما بينهم وتغاضي بعضهم عن فساد البعض الآخر“.

ابرز الانتقادات

وجه للسيستاني العديد من الانتقادات خلال فترة تولية زعامة الحوزة النجفية ، منذ 1992 وحتى الان، وهى الفترة التي شهد فيها العراق احداث كبيرة وتحولات في المشهد الإقليمي والدولي.

ابرز تلك الانتقادات هو موقف السيستاني من قوات الاحتلال الأميركية للعراق في 9 أبريل 2003، حيث أفتى بتقديم “الجهاد السلمي” وتأخير الجهاد المسلح، ونصّ على أن وجود الجنود الأميركيين “إذا كان هناك حاجة إليهم فليكن عملهم بإشراف الأمم المتحدة لا كقوات احتلال“.

وعلى الرغم من كل الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأميركي، سواء كان تدمير المؤسسات العراقية والجيش العراقي وسرقة الآثار وجرائم التعذيب في “سجن أبو غريب” ، وارتكاب جرائم ضد الانسانية في معركة الفلوجة الثانية 2004، فإن السيستاني لم يغير موقفه حيال التمسك بالجهاد السلمي قط.

ولكن حتى منتقديه لا ينكروا أن الغالبية العظمة من العراقيين يصفون الرجل بصمام الأمان لوأده الفتن الطائفية التي كانت ولا تزال أداة فعالة لأطراف الإسلام السياسي في العراق وخارجه.

أما القضية الاخرى فهى علامة استفهام كبيرة حول احتكار زعامة الحوزة في النجف ، التي تغص بآلاف من طلبة “الحوزة العلمية” التي يؤمها الآلاف منهم سنوياً ، لمرجعيات من أصول فارسية.

 فتاريخ “الحوزة العلمية” في محافظة النجف الأشرف، منذ تأسيسها على يد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (القرن الخامس الهجري) وصولاً إلى علي السيستاني ، عدد الذين تولوا منزلة المرجعية الشيعية العليا 67 مرجعاً، منهم 5 عرب فقط، والبقية غالبيتها فارسية من الطوسي إلى السيستاني.

ثلاثة أسماء مرشحة لخلافة السيستاني، هم إسحاق الفياض (أفغاني الأصل) وبشير النجفي (باكستاني الأصل) ومحمد سعيد الحكيم (عراقي)، وكلهم يحملون صفة “آية الله”.

واخيرا، بين من يرى في خلاف المراجع الدينية حول الاحداث السياسية في العراق صراع وجود، فالمراجع الدينية على مدار عقود وقعت بين خياري ( العمل السياسي ) و الذي راح ضحيته عدد منهم أو(الانصراف لعلوم الدين ) وترك العمل السياسي الذي انتهجه السيستاني والخوئي من قبله.

فالسيستاني من المراجع التي فضلت الاعتكاف للعلم والبحث، ولكن ظروف العراق ارغمته على التدخل سواء في فترة الاحتلال الأمريكي واصراره على سرعة تسليم الحكم للعراقيين وكتابة الدستور عام 2005، او فتوى ” الجهاد الكفائي” والتي استغلها البعض و تم انحراف مسار الفتوى من  تقوية الجيش العراقي والأجهزة الأمنية لمواجهة ” داعش” الى صناعة جيش أخر موازي ” الحشد الشعبي” ، بداخله عدداً من الفصائل المسلحة الموالية لإيران وغير خاضعة للحكومة العراقية في تصرفاتها.

ولكن دعم السيستاني للثورة الشعبية ومطالب الشعب العراقي في أكتوبر الماضي، هو ما بقي في نفوس العراقيين وخاصة مناصرته لهم و لمطالبهم المشروعة.

فالسيستاني أختار الثورة ولم يختار السياسييين

#العراق_ينتفض

#نريد_وطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *