أحمد النجار يكتب: الديون البريطانية لمصر أو قضية الأرصدة الإسترلينية

قبل عدة أيام أذاعت قناة روسيا اليوم (RT) في برنامج حواري رئيسي 

 أن الديون البريطانية لمصر كانت 3 ملايين جنيه استرليني بعد الحرب العالمية الثانية. وأذهلني كم الاستهتار وعدم الجدية في تقصي المعلومات لدى من أعدوا البرنامج، لأن تلك الديون كانت 400 مليون جنيه استرليني وليس 3 ملايين! ولبيان الحقائق أنشر هذا المقطع من كتابي “التاريخ الاقتصادي الحديث لمصر” (لم ينشر بعد) عن الديون البريطانية لمصر والبلطجة المالية التي مارستها بريطانيا في سداد جزء من الديون وفي عدم سداد الجزء المتبقي، فضلا عن عدم سداد أي فوائد… 

شهدت فترة الحرب العالمية الثانية تزايدا كبيرا في الواردات البريطانية من مصر لتلبية احتياجات جيوشها في مصر والمشرق العربي خلال تلك الحرب. ونتيجة لذلك تراكمت الديون على بريطانيا التي استكبرت تسميتها ديونا وابتدعت مسمى “الأرصدة الاسترلينية” المثير للسخرية من الصلف الاستدماري الأجوف لإمبراطورية آفلة. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كانت بريطانيا قد أصبحت مدينة لمصر بنحو 400 مليون جنيه استرليني وهو رقم هائل بمعايير ذلك الزمن وهو يعادل ما لا يقل عن 50 مليار جنيه استرليني في الوقت الراهن إذا احتسبنا معدلات الفائدة أو حتى معدلات التضخم خلال الفترة من عام 1945 وحتى الآن. وكنموذج على حساب القيمة الحالية لدين قديم، كانت محافظة القاهرة قد نزعت أرض على كورنيش النيل من مؤسسة الأهرام ودفعت لها 35 ألف جنيه تعويضا عام 1955. وعندما حصلت المؤسسة على حكم قضائي باستعادة الأرض تم الاتفاق عام 2015 على أن تدفع المؤسسة 6,3 مليون جنيه تعويضا لمحافظة القاهرة، أي 180 مثل لما دفعته للمؤسسة عام 1955 حتى تستعيد الأرض، وقمنا بالدفع فعليا. ولو طبقنا نفس القاعدة على الديون البريطانية سنجد أنها تعادل الآن أكثر من 72 مليار جنيه استرليني، لكن تفاوت معدلات التضخم والفائدة بين البلدين يمكن أن يجعل الرقم في حدود 50 مليار جنيه استرليني.  ولم تبادر بريطانيا لسداد مديونيتها المستحقة لمصر، بل ماطلت في السداد. ولم تسدد أي فائدة عن تلك الديون مطلقا. وبدا منهجها في التفاوض مع مصر لسداد أصل الدين نموذجا للبلطجة المالية.  

وبعد مباحثات طويلة وقعت مصر مع بريطانيا اتفاقية في يوليو عام 1947 لتسوية تلك الديون (الأرصدة). وقضت الاتفاقية بخروج مصر من منطقة الاسترليني، وبالإفراج عن جزء من تلك الديون (الأرصدة الاسترلينية) لتمويل الواردات المصرية، ولتمويل المدفوعات المصرية التي تم إيقافها أثناء الحرب العالمية الثانية، ولسد العجز في ميزان الحساب الجاري المصري. وتعهدت الحكومة البريطانية بضمان قابلية تحويل الأرصدة الاسترلينية التي ستسددها إلى مصر إلى الدولار أو أي عملات حرة رئيسية أخرى. لكن بريطانيا أوقفت ذلك التحويل بعد عدة أسابيع في أغسطس عام 1947 وقصرت ما يمكن تحويله إلى دولارات على نحو 6 ملايين دولار وهو مبلغ أقل كثيرا من تمويل العجز في تجارة مصر مع الولايات المتحدة والذي بلغ نحو 7,9 مليون دولار عام 1948. وكان الهدف البريطاني هو إجبار مصر على استخدام تلك الديون (الأرصدة الاسترلينية) في تمويل استيراد السلع البريطانية وليس الأمريكية. 

ورفضت مصر ذلك الوضع وتم التفاوض مرة أخرى وتم التوصل لاتفاق عام 1948 يقضي بالإفراج البريطاني عن 21 مليون جنيه استرليني من الأرصدة المجمدة. كما وضعت بريطانيا نحو 25 مليون دولار تحت تصرف مصر لتمويل الواردات المصرية من خارج بريطانيا عام 1948 من الدول التي كانت ترفض التعامل بالاسترليني وتفضل التعامل بالدولار باعتباره عملة الاحتياط الدولية التي تستند إلى أكبر قوة اقتصادية وتجارية على وجه الأرض آنذاك وهي الولايات المتحدة الأمريكية. 

كما تعهدت بريطانيا في اتفاقية 1948 بتوجيه جزء من ديونها لمصر إلى زيادة حصة مصر في صندوق النقد الدولي بقيمة 4 ملايين دولار ذهبي. وفي عام 1949 تم عقد اتفاق جديد وقامت بتخفيض سعر صرف الاسترليني مقابل الدولار والذهب وبالتالي قللت قيمة الأرصدة الاسترلينية المصرية لدى تحويلها إلى دولارات أو ذهب لإجبار مصر على استخدام تلك الأرصدة في تمويل الاستيراد من بريطانيا دون غيرها من الدول. وفي عام 1950 دخلت الدولتان في مفاوضات جديدة للوصول إلى تسوية سنوية جديدة بشأن الديون البريطانية لمصر. ولم تدفع بريطانيا أية فوائد ولم تعقد اتفاقا واضحا مع مصر لتسوية أزمة ديونها لمصر، بل كانت تعقد اتفاقا سنويا، وتستخدم مسألة سداد مديونيتها للضغط على مصر!!. 

وعندما تصاعدت أزمة السويس عام 1956 وقامت بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني بالعدوان الثلاثي على مصر، أوقفت بريطانيا سداد ديونها وأوقفت شحن البضائع إلى مصر والتي كانت ضمن آليات سداد الديون، إضافة للعديد من الإجراءات العقابية الأخرى، وهو سلوك نموذجي لامبراطورية استدمارية لصة كان أسهل شئ لديها هو استحلال ثروات وحقوق الشعوب الأخرى!. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *