عمر عسر يكتب: صحيفة سوابق.. قرابين بشرية على مذبح الثروة
كنا نظن أن الإنسانية تجاوزت مرحلة تقديم القرابين البشرية، لكن شواهد كثيرة تشير إلى أننا لم نتجاوزها بعد.. وأن كثيرين لا يتوانون عن تقديم القرابين البشرية ليحققوا مطامعهم ويحفظوا مكاسبهم.
في مداخلتين منفصلتين مع برنامج (القاهرة الآن) على قناة (العربية الحدث) طالب رجلا الأعمال نجيب ساويرس وعلاء عرفة، بإنهاء حظر التحرك وقصر الحجر المنزلي على كبار السن حتى لا يضطر “رجال الأعمال” إلى تخفيض العمالة، والغريب أن ساويرس اعتبر أن انخفاض معدل الوفيات جراء الإصابة بكورونا لا يقارن بالخسائر الاقتصادية الناجمة عن الإجراءات الاحترازية!
لم يصدمني التصريحان وكان مبعث الدهشة تأخر صدورهما.. فئة -ولا أقول طبقة أو عصابة- رجال الأعمال التي حازت الثروات لأسباب لا تتعلق بالعمل أو الابتكار أو الموهبة الفردية تنظر للدنيا عبر منظور خاص لا يكترث بقيم أو قانون.. ولا يرتبط بوطن.
الظروف غير الطبيعية التي تشكلت خلالها هذه الفئة جعلت الربح والمنفعة الفردية واستدامة الاستحواذ والسيطرة مقدسات لا تجب مراجعتها ولا يمكن السماح بالمساس بها مهما كان الداعي.. ثرواتهم هي أوطانهم.. مجتمعهم مكون من أقاربهم وأتباعهم.. فليمرض من يمرض وليمت من يموت طالما ظلت ماكينة الربح تعمل.
تتمحور المنظومة الفكرية والأخلاقية لهذه الفئة حول الذات.. ما حازوه حق لهم وما يحفظ بقاءهم متنعمين ومسيطرين هو الحق، وما دون ذلك هو الباطل.
لكل شيئ ثمن يمكن بيعه أو شراؤه مقابله البشر والتاريخ والمستقبل.. هكذا تعلموا منذ نشأتهم الأولى وبنظرة سريعة على “تاريخ وسوابق” هذه الفئة يمكن أن نفهم أسلوب تفكيرها ومفهومها للعلاقة مع المجتمع.
ارتبط نشوء هذه الفئة منذ إعلان أنور السادات “انفتاحه” الاقتصادي عام 1974 بتحالف مثير للريب مع السلطة، وحاز أفرادها في زمن قصير جدا ثروات هائلة ودخلوا علاقات غائمة مع رجال السلطة، لوصفهم ظهر مصطلح “القطط السمان” ولم يتصور من صكوه واستخدموه أن القطط ستصير ديناصورات تملك وتتحكم وتفرض إرادتها على المجتمع دون رادع من خلق أو قانون.
صار كل شيئ متاحا للبيع والشراء وتغيرت المنظومة القيمة للمجتمع خلال سنوات سبع عجاف انتهت في المنصة بالمشهد الختامي الصادم الذي أخرجه خالد الإسلامبولي و”إخوانه” لعهد “الرئيس المؤمن”، لم تزعج النهاية الدامية للسادات “القطط السمان” فـ”كبير العائلة” الراحل مكنهم وهيأ لهم البيئة الحاضنة ولم يعد وجودهم مرتبطا ببقاء أحد أو رحيله.
بدأ عهد مبارك بمحاكمة رموز من عهد السادات لم يعد بالإمكان التغطية على روائح فسادهم، تمت التضحية بهم لإيهام الشعب بأن عهدا جديدا بدأ ولن يتهاون في إنفاذ القانون أو حفظ حقوق الدولة.
خلال فترته الرئاسية الأولى.. تقمص حسني مبارك دور المسئول المتابع للتفاصيل والرئيس الذي يعمل ليل نهار لرفع شعار “صنع في مصر” وفي خلفية المشهد بدأ بروز نوعية جديدة من رجال الأعمال تعمل من وراء واجهة دينية.
انحسرت موجة شركات توظيف الأموال بسرعة فاقت سرعة مدها ولم تقتصر خسائرها على المودعين الذين فقدوا مدخراتهم في شركات منحوها الثقة لأسباب من بينها الرعاية الرسمية التي شملتها.. وفضحت “كشوف البركة” -التي سجلت عطايا أصحاب شركات الأموال لمسئولين كبار- النظام وأظهرت أن رعاية هذه الشركات لم تكن خالصة لوجه الوطن.
تجاوز النظام الفضيحة وإن ظلت تستخدم من معارضيه كدليل على عدم كفاءته مع تحمل المواطن العادي الجانب الأكبر من تكلفة ما حدث، لكن الفضائح تأكل بعضها وتتسبب الجديدة في نسيان القديمة.
في منتصف التسعينات تفجرت فضيحة “نواب القروض”.. النواب من رجال الأعمال أعضاء الحزب الحاكم وقتها استغلوا نفوذهم وحصانتهم وعلاقاتهم مع السلطة في الحصول على قروض بالملايين والمليارات مقابل ضمانات وهمية ولم يسددوا أقساطها، بذل النظام جهدا كبيرا لـ”لم الموضوع” وكالعادة سدد المواطنون فاتورة زواج السفاح بين الثروة والسلطة.
مع مطلع العقد الأول من القرن الحالي عاد جمال مبارك من لندن ليبشرنا بـ”الفكر الجديد” ويطبق سياسات فتحت الباب واسعا أمام المضاربين والمحتكرين وكل من أسعده بالقرب من السلطة، انتهز رجال الأعمال الفرصة لإنشاء احتكارات عملاقة تتقاسم مصر أرضا وموارد.. وهيأ “جيمي” البيئة الحاضنة وأصدر تشريعات تحميهم وتقنن مكاسبهم، فتحول الاقتصاد المصري من اقتصاد وطن إلى “اقتصاد منزلي” تملكه وتتحكم فيه أسرة مهما كثرت فروعها فأصلها واحد!
لم تخش فئة رجال الأعمال “25 يناير”.. كشف لهم قربهم من السلطة انعدام الهيكل التنظيمي لمن صنعوا الحدث، وساهمت وسائل الإعلام المملوكة لهم في تحويل الحدث عن مساره الأول وتفريغه من مضمونه ليصير صراع أجيال “شباب ثاروا ضد مسنين”!
خشية رجال الأعمال الحقيقية من يناير بدأت عندما ركب شركاؤهم (الإخوان) الموجة وسيطروا على أغلبية البرلمان وجلس مرشحهم على كرسي الرئاسة.. مصدر الخشية أن الإخوان منهم رجال أعمال حازوا ثروات ضخمة بآليات عصري مبارك والسادات وبالطبع ستتوزع الكعكة بينهم فلا ينال الشركاء -من خارجهم- شيئا.
دخل رجال الأعمال حلبة معارضة السلطة الإخوانية بمنطق “صراع الأشباه” لا منطق “صدام الأضداد”.. أطاحت 30 يونيو بالإخوان، فتخلصوا من منافسة الشريك واكتسبوا بالدعاية المكثفة صورة المدافعين عن هوية ومدنية الدولة، لكن الصور الزائفة -مهما أجيد إخراجها- قصيرة العمر لا تثبت ألوانها أمام أول اختبار.