أحمد النجار يكتب: النفط والغاز والأمن والهيمنة والدم في الدراما الأوكرانية
قال أحمد السيد النجار، الكاتب الصحفي، ورئيس مجلس إدارة الأهرام الأسبق، إن أمريكا أدارت الملف الأوكراني ساعية لتحقيق جملة من الأهداف الأول هو عزل روسيا وتخريب علاقاتها الاقتصادية المتنامية مع أوروبا، والثاني خلق بؤرة توتر عملاقة تبرر المزيد من الطلبيات الضخمة من الأسلحة للجيش الأمريكي، والثالث دفع أوروبا لشراء المزيد من السلاح من المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، والرابع استعادة جزء من الأرض التي فقدها الدولار في سلة احتياطيات العالم.
وأكد النجار أن الدول العربية المصدرة للنفط والغاز فسوف تستفيد من ارتفاعات أسعار النفط والغاز، لكن تلك الأسعار سوف تتراجع على الأرجح لدى انتهاء الصراع في أوكرانيا.
وأضاف أن الدول العربية وبخاصة مصر والجزائر والعراق فسوف تتحمل فاتورة أعلى لوارداتها من القمح وبعض السلع الغذائية الأخرى التي تصدرها روسيا وأوكرانيا، وهو أمر سوف ينتهي عندما تصمت المدافع ويحل السلام في أوكرانيا.
وإلى نص ما كتبه النجار في حسابه على (فيس بوك):
أدارت الولايات المتحدة الأمريكية الملف الأوكراني ساعية لتحقيق جملة من الأهداف. الهدف الأول هو عزل روسيا وتخريب علاقاتها الاقتصادية المتنامية مع أوروبا وعلى رأسها ألمانيا وإيطاليا وهولندا وبخاصة في مجال الطاقة. والثاني هو خلق بؤرة توتر عملاقة تبرر المزيد من الطلبيات الضخمة من الأسلحة للجيش الأمريكي ليتغذى غول المجمع الصناعي العسكري الأمريكي النافذ سياسيا على حساب دافعي الضرائب. والثالث هو دفع أوروبا لشراء المزيد من السلاح من المجمع الصناعي العسكري الأمريكي واستعادة ما فقدته من هيمنة على أوروبا في عهد ترامب. والرابع هو استعادة جزء من الأرض التي فقدها الدولار في سلة احتياطيات العالم من خلال استعادة الهيمنة العالمية والنظام أحادي القطب عبر حصار روسيا ووضع الصين تحت التهديد.
وكانت روسيا قد خفضت حصة الدولار في سلة احتياطياتها الكبيرة لنحو الثلث في الأعوام الأخيرة وأحلت اليوان الصيني محله. كما اتفقت مع الصين على تسوية تجارة السلع والخدمات بينهما من خلال عملتي الدولتين دون اللجوء للدولار مما سيوجه ضربة جديدة لمكانته المتراجعة كعملة احتياط دولية.
وفي سبيل هذه الأهداف دفعت الولايات المتحدة الرئيس الأوكراني للتصعيد في مواجهة روسيا وجمهوريتي دونيتسك ولوجانسك المنفصلتين عن أوكرانيا من طرف واحد. ولأن الرئيس الأوكراني وهو ممثل كوميدي في الأصل حتى قبل انتخابه مباشرة، لا يملك أي خبرة سياسية فقد وقع في الفخ الأمريكي وأوقع بلاده فيه بالاستجابة لتحريضات واشنطون بطلب الانضمام لحلف شمال الأطلنطي (الناتو)، وبمهاجمة الجمهوريتين اللتين انفصلتا عن أوكرانيا من جانب واحد رغم علمه بأن روسيا لن تتركهما وحيديتين في المواجهة! واستجاب لتحريضات واشنطون أيضا بالتصريح الأحمق بأنه يفكر في إعادة بلاده للنادي النووي غافلا أن الأمر بالنسبة لموسكو ليس فاصلا كوميديا، بل أمنها القومي وحياة شعبها التي ستصبح مهددة كليا بقنابل مدمرة في باحة بيتها إذا وجدت قوة نووية على حدودها مباشرة بأيدي قوميين متطرفين معادين لها ولا يتمتعون بالمسئولية التي تستوجبها حيازة الأسلحة النووية، مما أدى إلى خروج موسكو بتصريحات فورية بأنها لن تقبل بأقل من حياد أوكرانيا وعدم تسلحها نوويا.
ونتيجة لسوء التقدير منقطع النظير للرئيس الأوكراني الذي غذته التحريضات الأمريكية الخبيثة، انفجرت الحرب التي لن تنتهي إلا بتحقيق الأهداف الروسية بحياد أوكرانيا أو ولائها وبقصم ظهر النازيين الجدد الذين تغولوا فيها بدعم من الغرب “الديموقراطي” الذي هلل قبل 8 سنوات للانقلاب على الرئيس المنتخب ديموقراطيا فيكتور يانكوفيتش أيا كانت الملاحظات عليه، من خلال اليمين المتشدد ومجموعات النازيين الجدد. والولايات المتحدة غير معنية بما ستؤدي إليه الحرب بالنسبة لأوكرانيا فهي لا تزيد عن كونها أداة بائسة لاستنزاف روسيا في صدام عبثي بين الأخوة السلاف بغرض تحقيق أهدافها المشار إليها آنفا!
وتجدر الإشارة إلى أنه في عهد روسيا القيصرية كانت كل الأقاليم التابعة لها مجرد أقاليم وليست دول وبالتالي غلب على تقسيماتها الطابع الإداري وليس العرقي أو القومي. وفي عهد الاتحاد السوفيتي تم تحريك حدود بعض الجمهوريات لاعتبارات إدارية. وكان نصيب أوكرانيا أن حصلت على بعض الأراضي الروسية التي يقطنها الشعب الروسي وآخرها القرم عام 1954. وعندما تفكك الاتحاد السوفيتي انفصلت كل جمهورية وفقا للحدود التي حصلت عليها في العهد السوفيتي حتى ولو كانت لاعتبارات إدارية وليست عرقية. وهذا الأمر خلق أساساً للمشاكل الحدودية بين بعض الدول مثل روسيا وأوكرانيا، وأرمينيا وأذربيجان، وحتى بين دول وسط آسيا وبعضها البعض. ونتيجة امتناع الغرب عن استيعاب روسيا الرأسمالية تحت قيادة يلتسين في منظوماته الاقتصادية والسياسية والأمنية لأهمية وجودها كـ”عدو” لتبرير الإنفاق العسكري الأمريكي الذي يقرب من 40% من الإنفاق العسكري للعالم بأسره والذي تستحوذ عليه شركات المجمع الصناعي العسكري والبيروقراطية العسكرية الأمريكية على حساب الشعب الأمريكي.. نتيجة لذلك فإن روسيا نفضت عن نفسها عهد الهوان والانسحاق الذي شهدته في ظل رئاسة يلتسين الذي كان وثيق الصلة بالأجهزة الغربية فضلا عن غيابه عن التركيز والوعي بسبب سكره الدائم. وجاء بوتين أيا كان الموقف من ديموقراطيته أو استبداده ليعيد الاعتبار والهيبة للدولة الروسية التي استعادت وضعها كقوة عسكرية عظمى توازي في جبروتها القوة الأمريكية، وتحسن آداء اقتصادها معززا بالتحسن الكبير في أسعار صادراتها من النفط والغاز في عهده، واستعادته لبعض الشركات المنهوبة في زمن الفساد الكبير خلال حكم يلتسين.
وعودة للأهداف الأمريكية من تفجير الحرب بين روسيا وأوكرانيا فإن عزل روسيا اقتصاديا سيدفعها لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع العديد من الدول الآسيوية وبخاصة مع الصين والهند المستوردتان لما تصدره روسيا، وكذلك الأمر مع بعض الدول اللاتينية والإفريقية. وفيما يتعلق بعزل أوروبا عن روسيا في مجال الطاقة فإنه يكاد يكون مستحيلا إلا بتكلفة هائلة لن تدفعها الولايات المتحدة ولن تقبل أوروبا بتحملها. وبالنسبة للغاز الطبيعي تعتمد أوروبا على سد 40% من احتياجاتها منه من روسيا التي تنتج نحو 639 مليار متر مكعب من الغاز في العام من احتياطياتها العملاقة البالغة 47300 مليار متر مكعب تتصدر بها دول العالم ولن تستنزف قبل 74 عاما وفقا لمعدل الإنتاج الراهن. وبالمقابل تبلغ الاحتياطيات الأمريكية من الغاز نحو 12800 مليار متر مكعب يمكن أن تستنزف كليا خلال 14 سنة وفقا لمعدلات الإنتاج الأمريكية الراهنة البالغة 915 مليار متر مكعب سنويا. ولا يمكن للولايات المتحدة أن تحل محل روسيا في توريد الغاز لأوروبا لأنه سيكون غازا مسالا تبلغ تكلفته أربعة أمثال تكلفة الغاز الطبيعي الروسي يضاف إليها تكلفة التحويل للحالة الغازية وإنشاء البنية الأساسية اللازمة لذلك والمتمثلة في محطات التحويل، فضلا عن أن الاحتياطيات الأمريكية محدودة وسوف تنفذ سريعا.
وقد ترددت تصورات جزافية لا علاقة لها بالحقائق بشأن حلول قطر أو الجزائر أو دول شرق المتوسط محل روسيا في توريد الغاز لأوروبا! وللعلم فإن احتياطيات قطر من الغاز الطبيعي ضخمة وتبلغ 23846 مليار متر مكعب، لكن إنتاجها يبلغ نحو 172 مليار متر مكعب سنويا فقط وتقوم بتصدير نحو 105,8 مليار متر مكعب في صورة غاز مسال تتوجه في غالبيتها للدول الآسيوية والأوروبية. أما الجزائر فكل احتياطياتها من الغاز الطبيعي 4505 مليار متر مكعب، وتنتج نحو 81,5 مليار متر مكعب في العام، وتصدر نحو 16,6 مليار متر مكعب في صورة غاز مسال وباقي الصادرات في صورة غازية عبر الأنابيب. أما احتياطيات دول شرق المتوسط فإنها مجتمعة تقل عن 5000 مليار متر مكعب، وإنتاجها محدود حتى الآن، وأهمها مصر التي تملك احتياطيات تبلغ نحو 2209 مليار متر مكعب وتنتج نحو 58,5 مليار متر مكعب سنويا، وتصدر نحو 4,5 مليار متر مكعب في صورة غاز مسال.
وبالتالي فإن أوروبا لا بديل لها عن الغاز الروسي، فضلا عن النفط الروسي المحمل بتكلفة منخفضة للنقل والتأمين بحكم الجوار الجغرافي بما يعطيه ميزة نسبية عن أي واردات نفطية من أي بلد آخر. وترتيبا على ذلك فإن المسعى الأمريكي الأول بعزل أوروبا عن الغاز والنفط الروسيين سوف يفشل على الأرجح خاصة لو تمكنت روسيا من إنهاء الصراع في أوكرانيا بشكل سريع وخلقت حقائق جديدة على الأرض عبر حكومة تضمن حياد أوكرانيا وعدم تسلحها نوويا، وانسحبت عسكريا من أوكرانيا مفسحة المجال لإجراء انتخابات تأتي بممثلين للشعب لديهم شرعية شعبية.
لكن ارتفاع أسعار النفط والغاز بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا قدم قبلة الحياة لقطاع النفط والغاز الصخريين في الولايات المتحدة حيث تبدأ الجدوى الاقتصادية لاستخراج النفط الصخري عندما يكون السعر أعلى من 45 دولار للبرميل. وكان ذلك القطاع مهددا بالانهيار عندما انخفضت الأسعار لنحو 41,5 دولار للبرميل في المتوسط في عام 2020، علما بأنه في بداية العام الحالي يوجد 522 حفار تعمل في هذا القطاع في الولايات المتحدة وتنتج نحو 8,5 مليون برميل يوميا، وتبلغ ديونه للمصارف أكثر من 200 مليار دولار، وبالتالي فإن انهياره كان سيخلق أزمة جديدة في القطاع المصرفي والاقتصاد الأمريكي.
أما الهدفين المتعلقين بخلق بؤرة توتر عملاقة تبرر المزيد من الطلبيات الضخمة من الأسلحة للجيش الأمريكي لتغذية غول المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، ودفع أوروبا لشراء المزيد من السلاح الأمريكي من ذلك المجمع فسوف تنجح الولايات المتحدة في تحقيقهما على الأرجح. كما أنها استعادت جانبا من هيمنتها على أوروبا في ظل هيستريا العداء لروسيا بعد أن كانت قد تراجعت كثيرا في عهد ترامب.
أما الهدف الخاص باستعادة الأرض التي فقدها الدولار فإنها أضغاث أحلام في عالم يدرك تماما الاستغلال اللصوصي الردئ لوضعية الدولار كعملة احتياط والذي مارسته الولايات المتحدة وأثرت على حساب العالم وحصلت على سلعه وخدماته مقابل مجرد أوراق نقدية تفتقد للغطاء الذهبي منذ عام 1971، وللغطاء الإنتاجي منذ ثمانينيات القرن العشرين. كما أن تلك الاستعادة مستحيلة أيضا في عالم تصعد فيه قوى اقتصادية أخرى وعلى رأسها الصين التي تعد أكبر قوة اقتصادية على وجه الأرض وبفارق كبير عن الولايات المتحدة في حالة احتساب الناتج وفقا لتعادل القوى الشرائية وهو الناتج الحقيقي. وتشير قاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي وفقا لتعادل القوى الشرائية قد بلغ في الصين نحو 26657 مليار دولار عام 2021، مقارنة بنحو 22675 مليار دولار للولايات المتحدة الأمريكية. أي أن الفارق يبلغ 3982 مليار دولار لصالح الصين. كما بلغت قيمة الصادرات السلعية الصينية نحو 2499 مليار دولار عام 2019، مقارنة بنحو 1646 مليار دولار للولايات المتحدة في العام نفسه.
وسوف يتأثر العالم عموما بارتفاعات أسعار النفط والغاز بسبب الصراع في أوكرانيا مما سيؤثر سلبيا على النمو الاقتصادي ويساهم في زيادة معدلات التضخم وبخاصة في الدول المستوردة الرئيسية للطاقة. كما أن حالة الاضطراب السياسي وعدم اليقين المترافق معها سوف تخلق اضطرابا موازيا في حركة البورصات العالمية، وهو اضطراب في الاقتصاد الرمزي وليس الحقيقي ويتم تجاوزه وتعويض خسائره المالية عندما تستقر الأحوال أو تستوعب الأسواق المالية صدمة الصراع العسكري الدائر في أوكرانيا.
أما الدول العربية المصدرة للنفط والغاز فسوف تستفيد من ارتفاعات أسعار النفط والغاز. لكن تلك الأسعار سوف تتراجع على الأرجح لدى انتهاء الصراع في أوكرانيا. كما أن الدول العربية وبخاصة مصر والجزائر والعراق فسوف تتحمل فاتورة أعلى لوارداتها من القمح وبعض السلع الغذائية الأخرى التي تصدرها روسيا وأوكرانيا، وهو أمر سوف ينتهي عندما تصمت المدافع ويحل السلام في أوكرانيا.