محمد عيسى يكتب: كلمة من على رصيف المقهورين!
أتحدث إليك سيدي من المأوى الذي أطلق عليه صديقي الذي ينقل إليك كلماتي الآن بـ«رصيف المقهورين». وأنا هنا لا أذيع سرًا حين أقول لك إني وقت ما سمعت منه هذا المُسمى قلت له «الملافظ سعد»، وأنه لا ينبغي أن يسمي الرصيف الذي يؤويني «أنا وابني الحيلة» برصيف المقهورين، حتى لا يذكرني بوضعي الذي يصعب على العدو قبل الحبيب، ولكنه صمم على هذا الاسم، والحقيقة أنه عنده حق في ذلك، ولكن ليس بالضرورة أن يقولها في وجهي في كل وقت وحين.
المهم أن هذا الحديث ليس رغبة مني في أن أتحدث عن أحوالي أو أشكو حالي إلى البشر فأنا لا أشكو حالي إلا لرب البشر، كما أن حالي وحال أقراني مُتخذين الأرصفة مأوى لهم لا يخفى على أحد، سواء أكان هذا الأحد مسؤول بيده أن يقدم لنا شيئًا، أو غير مسؤول بيده يدعي لنا بأن يعيننا الله على ما نحن فيه، أو يدعي علينا بأن يريحنا الله الراحة الأبدية من هذا الشقاء الذي نحن فيه حتى لا يشعر بتأنيب الضمير حين يرانا، ونحن نفترش الأرصفة أسرة إعمالًا لمنطق «عم نجم» الساخر: «هتقولي الفقرا ومشاكلهم.. دي مسائل عايزه التفانين.. وأنا رأيي نحلها رباني.. ونموت كل الجعانين».
بالمختصر المفيد لم أكن أريد أن أتحدث، ولكني رضخت لإلحاح صديقي الغتيت حتى «يحل عن سمايا»، وهنا لابد من أن أنوه بأني غير مسؤول عن أي «تجويد» منه فيما أقوله، حتى لا أغضب مني السادة المسؤولين الذين أغدقوا عليّ وعلى أقراني كرمهم، وتركوا لنا الأرصفة لكي ننام عليها، فأنا لا أريد أن أجد نفسي بين عشية وضحاها متهمًا بمحاولة قلب نظام الحكم من على رصيف المقهورين، وبدلًا من أن أنام على الأرصفة العامة أنام في الزنازين العامة، حتى وإن كان النوم في زنزانة في هذا الجو الممطر البارد أرحم بكثير من النوم على الرصيف.
أكاد أسمع صوت محشرج يصدر من أنفك لأني استفضت كثيرًا في المقدمة دون أن أقول شيئًا عن معاناتي أو معاناة أقراني، وبيني وبينك أنا لا أعرف بماذا أبدأ وماذا أقول وما الجدوى من كلماتي، ولكني أساير هذا الصديق الغتيت حتى يتركني في حالي، أعرف أنك الآن تلعن في «سنسفيلي» أنا وصديقي، وأزعم أنك تردد بينك وبين نفسك الآن وأنت تتأفف «ها يابن… هتتكلم ولا لأ»، لذلك فأنا أرجو منك أن تضع نفسك – بعد الشر عنك وعن السامعين – مكاني، وقل لي ماذا ستقول في هذه الحالة، باختصار يا سيدي صورتي أنا وأقراني ونحن نفترش الأرصفة أسرة تعبر عن نفسها، ولا تحتاج إلى تعليق، معاناتنا معروفة للقاصي والداني، فلا فائدة الآن من قول كلمات تجعلك تتعاطف معي، لأنك إذا لم تكن متعاطفًا معي وأنا أنام على الرصيف في هذا الطقس البارد، بينما أنت تقرأ هذه الكلمات من جهازك الثمين، وأنت ملفوف بالبطاطين الناعمة، فهذا يعني بأنك «ولا مؤاخذة» مثل أهلك ليس عندك نقطة دم حمراء، لذلك أنا لا أعرف ما الذي يمكن أن أقوله لك، وعلى العموم لن أخذلك وسأحاول أن أتحدث عن أي شيء، فمثلًا من الممكن أن أتحدث عن مسحة من طموحاتي ومخاوفي.
فإذا تحدثت مثلًا لك عن طموحاتي لن أقول لك إني أتمنى أن أجد فانوس سليمان، لكي أفرك سطحه بيدي على طريقة الفنان الراحل إسماعيل ياسين، «فيطل عليّ منه عفريت، ويحقق لي الأماني التي لا أحققها إلا في أحلام اليقظة»، لأني غير متأكد إذا كان هناك «فانوس سليمان» من الأساس، ولا أن يصورني عيل من العيال الذي يرتادون الجامعة وأنا على حالي هذا الذي يرثى له، وينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي فيتعاطف معي أحد رجال الأعمال، فيزورني وأنا على رصيفي المتواضع لكي يعطي ليّ مفتاح شقة أمام الكاميرات، وذلك لأني أعرف مسبقًا أن هذا المفتاح سرعان ما سيأخذه مني بمجرد أن يأخذ اللقطة وتغادر الكاميرات الرصيف، ولكن ما أتمناه بدون أدنى مبالغة أن يتم القبض عليّ كمتشرد لا كإرهابي، لكي أجد سقفًا يدرأ عني المطر في هذا الجو الشتوي، وأجد طعامًا نظيفًا آكله أنا وابني هذا لو افتراضنا أنه وجد أصلًا في مكان كهذا، بدلًا من الفتات الذي نعيش عليه من صناديق القمامة، فصراحة «نحن قرفنا من أكل صناديق القمامة».
أما إذا تحدثت عن مخاوفي فبعد الذي رأيته في هذه الحياة لا أتصور أن يكون هناك شيئًا أخاف منه، اللهم إلا شيئًا واحدًا، فقط بتُ أخاف منه بعد أن حكى ليّ صديقي «الدبش» عن فيديو شاهده على وسائل التواصل الاجتماعي لطفل عراقي يحتضن أخاه الذي ينام معه على الرصيف بعد أن مات من شدة البرد، فمنذ أن حكى ليّ عن هذا الفيديو، وأنا أخاف أن أستيقظ مرة من النوم وأجد ابني الذي يبلغ من العمر خمس سنوات فارق الحياة لأنه لم يتحمل البرد القارس، أو لأنه لم يتحمل قرصة الجوع.
ها هل استرحت الآن؟ أعتقد أن ليس هناك شيء آخر من الممكن أن أقوله لك، لأني إذا قلت شيئًا آخر سيكون هذا الشيء عبارة عن شتائم للعالم كافة بأقذع الألفاظ، «آه صحيح» لا تنسَ وأنت تقرأ كلماتي هذه بأن تمصمص شفتيك وتتمتم بالحوقلة، وتدعي بأن يجعل الله يومي قبل يوم ابني التعس الذي كل ما جناه في هذه الحياة أنه ولد فوجد والده مشردًا لا مأوى له في عالم قاسٍ لا قلب له.