أحمد عابدين يكتب: ناصر بيننا وبين إسرائيل
قبل عقود، وبعد الصدام بين عبد الناصر وجماعة الإخوان المسلمين ردد أفراد الجماعة -ولا يزالون -شائعة أن والدة عبد الناصر يهودية، وأنه كان يهودي مستتر عمل لصالح اليهود ضد المسلمين –وهي نفس المقولة التي قيلت عن كمال أتاتورك وعبد الفتاح السيسي –ولا يزال قطاع واسع من الإسلاميين على قناعة بصدق هذه المقولة، وما أفهمه أن الإخوان المسلمين كانوا –ولا يزالون -على قناعة بأنهم الممثل الحقيقي للإسلام (بعد سقوط الخلافة العثمانية)، ومن هم خارج الجماعة ليسوا كافرين بالضرورة إلا أنهم غير مكتملي الإسلام أو ليسوا حاملي لواءه مثل من هم داخلها، مستشهدين بأحاديث نبوية عديدة سمعتها كثيراً من أفراد الجماعة منذ صغري. وبناء على ذلك فإن عدو الجماعة وخصمها لا يمكن أن يكون مسلماً، كما كان عدو وهادم الخلافة العثمانية، فلا يمكن أن يكون هناك مسلماً يُعادي الإسلام، وهكذا أصبحت المشكلة مع عبد الناصر ليس ظلم نظامه ولا ديكتاتوريته ولا سلخانات التعذيب ولا الفساد والمحسوبية وترهل الدولة وإنما في كونه يهودي مستتر يحارب الدين، وهل الفارق مهم؟
منذ سنوات طويلة دأب خلالها أفيخاي أدرعي، رأس حربة الدعاية الإسرائيلية والمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، على الكتابة تحت شعار “ماذا استفاد العرب من عداء إسرائيل؟”، لتحريض الشعوب العربية على التطبيع مع دولته والتخلي عن قضية فلسطين، وساعده في ذلك العشرات من الحسابات والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي كان منها صفحة على فيس بوك باسم ” Zionist Sarcasm Society” أو مجتمع السخرية الصهيوني، وكانت من أوائل الصفحات التي تقول إنها تتبنى الفكر الصهيوني بشكل صريح -والصهيونية هي حركة قومية يهودية، ظهرت في شرق ووسط أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، تهدف إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين -وقد تولت الصفحة مهمة الدفاع عن الصهيونية كفكرة وإسرائيل كدولة والتمجيد فيها والتحقير من شأن العرب.
وفي عام 2017 أطلقت الصفحة صورة ساخرة لجمال عبد الناصر كرمز للهزيمة سرعان ما تحول إلى علامة مميزة في السخرية، وسرعان ما تلقفه خصوم عبد الناصر والناصرية –وما أكثرهم –لتُنسج عليها القصص والحكايات، وهو ما كان تحقيقاً لرؤية أوفير جندلمان، الناطق بلسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في نفس العام بأن “هناك 158 مليون حساب بالعربية على فيسبوك، وفي كل عام يتضاعف العدد، العربية هي إحدى اللغات الأكثر رواجا في مواقع التواصل مما عزز مكانة هذه الساحة كهدف دعائي بالنسبة لنا.”
“عبد الناصر خسر في حرب 48 وفي 56 وفي 67 وخسر حرب اليمن وضيع السودان وضيع الاقتصاد المصري” ورفقة صوره انتشرت هذه الجمل المختصرة أصبح تريند عبد الناصر أبو الهزائم هو المسيطر على مواقع التواصل وانتشر انتشار النار في الهشيم، وعلى الرغم من أن بعض هذه الجُمل خاطئة تماما تاريخياً أو عسكرياً أو سياسياً، إلا أنها سهلة التكرار والترديد ولم يحتاج خصوم عبد الناصر أكثر من ترديدها ألاف المرات لتُصبح حقيقة في أذهان الملايين، وتبقى أية محاولة لتصويبها جهداً مبذول دون أثر يُذكر، فلا خصومه –المباشرين أو خصومه بالتبعية –سيقتنعون ولا كارهيه وكارهي دولته سيستمعون.
وأنا لست في معرض الدفاع عن عبد الناصر، بل على العكس ربما يكون هذا المقال تحريضاً مباشراً على انتقاد عبد الناصر، فالمستقبل لن ينصلح إلا بانتقاد الماضي بكل تفاصيله السيئة، وكذلك التخلص من صورة الرئيس الأب وهيبة الحاكم واحترام المسؤولين هي بعض ركائز الفساد السياسي والدكتاتورية التي يجب أن نتخلص منها، ولكن ما أود الإشارة إليه هو أنني أرى أن هناك الملايين من حسني النية يتم استخدامهم كأدوات للدعاية الإسرائيلية دون وعي بهذا، دعاية ربما تُصبح وعياً جديداً في أذهان أجيال قادمة. وكذلك دعوة للتفكير في إجابة بعض الأسئلة مثل لماذا لم يصبح تريند عبد الناصر أنه رمزاً للتعذيب أو للدكتاتورية وحكم الفرد أو غيرها من الصفات التي اتسم بها العهد الناصري؟، هل لأن هذه الممارسات اختفت من واقعنا فأصبحت ماضي؟ أم أن هناك من لا يشغله حرية المصريين ولا حقوقهم وإنما فقط مصالح إسرائيل وعلى حساب فلسطين أرضاً وشعباً؟
إذا كانت أزمتك مع نظام عبد الناصر ديكتاتوريته وانتهاكات حقوق الإنسان والقمع، فالطبع سترى أن الإصلاح في الديمقراطية والرقابة والمحاسبة واحترام حقوق الإنسان، أما إذا كنت ترى بأن مشكلته إنه كان يهودي مستتر فحتماً أنت ترى أن الإصلاح في تولي الحكم شخص مسلم متدين حتى وإن كان لا يفقه شيء في الإدارة ومستبد وديكتاتوري، أما إذا كانت مشكلتك معه هي أنه كان معادي لإسرائيل فدعني أرد عليك سؤالك: وماذا استفادت الشعوب من التطبيع والتبعية والانبطاح؟