ممدوح حبشي يكتب: فاستعانوا على الرمضاء بالنار

„رحل بشار الأسد بعد ان سقط نظامه في القضية الوطنية والاقتصادية والاجتماعية وفي قضية الحريات الديمقراطية العامة“ فرقص السوريون في الشوارع داخل وخارج البلاد. ولا عجب في هذا بعد نصف قرن من القمع في ظل حكم اوتوقراطي بشع. وعندما استيقظ السوريون وأفاقوا من سكرة التحرر من نظام الأسد، تيقنوا من أنهم وقعوا بين نارين، كمن استعان على الرمضاء بالنار. نار الأمل في مستقبل أفضل يصنعوه بأنفسهم ونار الحذر، أو لنقل الرعب، من الفوضى وتجدد الاقتتال وهم لم ينسوه بعد.

الوضع في سوريا اليوم مركب وشديد التعقيد. الهدف من تحليلنا لهذا الوضع الآن، الذي سوف يتفادى الدخول في التفاصيل التي لا نهاية لها والتي تناولتها وسائل الإعلام بأنواعها، ليس مجرد الفهم، بل استشعار خطانا المستقبلية تجاهه.

الحقيقة أننا أمام مؤامرة من العيار الثقيل، أو دعنا نسميها استراتيجية، حيث أن المؤامرة يجب أن تكون سرية. أما ما يحدث في سوريا فقد تطوع لاعبوه بالإعلان عن دوافعهم وأهدافهم، برغم كل ما ينتاب عملية التنفيذ من نفاق في وسائل الإعلام.

 تندرج أحداث سوريا الحالية في إطار الحرب الكونية بين القوى العظمى، الغرب، الاستعماري تاريخياً، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية ضد الصين وروسيا من ناحية أخرى، لإعادة رسم الخريطة الجيو-سياسية من جديد. الصين وروسيا، مع مجموعة البريكس BRICS بعد توسيعها، يريدون مكاناً لهم في عالم متعدد الأقطاب، أما الولايات المتحدة وفي ذيلها دول الغرب (حلف شمال الأطلنطي NATO) تحاول بكل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، الحفاظ على هيمنتها في عالم أحادي القطب، أي استعماري امبريالي يفرض على بقية دول وشعوب العالم الخضوع الكامل لمصالح الرأسمالية في مرحلة أفولها.

يلعب الغرب في هذه المأساة دور الفاعل الأساسي بقيادة الولايات المتحدة وبواسطة ذراعيه الأهم في المنطقة، إسرائيل وتركيا. وهما كما تبدو الصورة الآن المستفيد الأكبر من انهيار “الدولة” في سوريا.

لذلك فسوريا قد بدأ الاعتداء عليها منذ فجر ما سمي بالربيع العربي عام ٢٠١١ في إطار رسم شرق أوسط جديد. وما إسرائيل وتركيا والنظم العربية الحاكمة، لاسيما الخليجية وبما فيها السلطة الفلسطينية، ناهيك عن ميليشيات الاسلام السياسي، إلا أدوات في تنفيذ هذه الاستراتيجيات. أي أن سوريا هي الحلقة الضعيفة في إطار إعادة تشكيل شرق أوسط جديد تقوده وتهيمن عليه إسرائيل، في إطار حرب كونية ضروس بين تلك القوى سالفة الذكر.

نأتي الآن إلى ما أطلقنا عليه “محور المقاومة” الذي ظهر بشكل حاسم للجميع مع انطلاق حرب طوفان الأقصى. ففيما خططته الاستراتيجية الامبريالية للمنطقة كانت – بوجه عام – الدول أو النظم في جانب وشعوبها في الجانب المقابل. فقد أجبرت المقاومة مخططات الامبريالية على اعتبارها العامل الحاسم في المعادلة خوفاً من تأثيرها على عملية إيقاظ أو تحريك الشعوب. فكان التخطيط للاستيلاء على سوريا لأسباب عديدة. هنا ظهرت الأهمية القصوى لموقع سوريا الجيوستراتيجي، بين إسرائيل وتركيا وإيران ولبنان، أهمية موقعها في دعم استمرار المقاومة في فلسطين المحتلة. وبالتالي تأثير صمود هذه المقاومة على شعوب المنطقة برمتها.  

لقد تاجر نظام بشار الأسد بدور “الممانعة” الذي كان يوصف به. بمعنى أنه لم يقدر على تطوير المقاومة بسبب عيوبه الأصيلة من استبداد وغياب عدل اجتماعي وغيرها، بل وغياب الرغبة في المقاومة أصلاً، ولكنه “مانع” في التسليم لإسرائيل وأمريكا. فلو كان النظام شَعْبِيًّا ويُحقق مصالح الأغلبية لدافعت عنه جماهيره. كما أن الحلفاء لا يُقدّمون المُساعدة سوى لمصالحهم. فعندما هبت روسيا لإنقاذ نظام الأسد من ثورة شعبه في الربيع العربي، لم يكن هذا من أجل بديل تقدّمي بل من أجل تحقيق المصالح التجارية والاقتصادية والجيو-استراتيجية في إطار النظام الرأسمالي العالمي.

أما أهمية الفاعل الثاني في محور المقاومة، إيران، فتأتي من كونها النظام المستقل الوحيد في المنطقة. الذي حول ريع البترول إلى هيكل زراعي صناعي علمي مُتقدم، أمكنه أن يُحقق اكتفاءً ذاتياً غذائياً وصناعياً. كما سعى للامتلاك المستقل للتكنولوجيا في أفرعها الحديثة، فدخل المجال النووي وتصنيع الصواريخ والمُسَيَّرات وما إلى ذلك. وقد تمكن من تحقيق ذلك بنشر التعليم والصحة حتى صار في مؤشر التنمية البشرية أعلى دول المنطقة. ولكنه أيضا نظام استبدادي يقمع الحريات السياسية مثل الأنظمة القومية التي نعرفها جيداً. إنه يذكرنا بنظام عبد الناصر في مصر الخمسينيات والستينيات الذي حقق معجزات في مجالات التنمية لكن ملف الديمقراطية لديه كان سلبياً إلى درجات كبيرة. الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى سهولة انتصار الثورة المضادة عليه متمثلة في عصر السادات والاستسلام لإسرائيل والولايات المتحدة.

لهذا فإن عداء نظام الجمهورية الاسلامية في إيران للإمبريالية العالمية، وبالتالي للكيان الصهيوني المحتل، هو عداء حقيقي وليس مصطنعاً مثل مسرحيات النظم العربية في مؤتمراتها المتكررة. تماماً مثل عداء نظام عبد الناصر للإمبريالية، فقد كان حقيقياً، ولذلك وقف معه كل الشعب في هذا العداء. وما العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦ وتبعاته السياسية إلا الدليل الدامغ على ذلك.

أما كيف تتعامل الامبريالية العالمية مع بلدان الشرق الأوسط فبطرق مختلفة، حسب المعطيات الموجودة في كل بلد على حدة. فهناك نظم تلعب أدواراً فاعلة في هذه الاستراتيجيات مثل بيادق الشطرنج، لذلك وجب الحفاظ على تلك النظم لتعظيم الاستفادة من أدوارها، مثل تركيا ودول الخليج وإسرائيل ومصر والأردن والمغرب. كما أن هناك نظم أخرى وجب هدم أسسها كدولة تماماً لأنه أسهل وأنفع، حيث أن التفتيت هو جزء أساسي من إستراتيجية الامبريالية العالمية، مثل ليبيا والسودان واليمن والعراق والآن سوريا.

تحت شعار “كل يبكي ليلاه” دخلت عناصر عدة في هذه البوتقة، كل له دوافعه الخاصة. روسيا في حربها ضد حلف ال NATO بالنيابة في أوكرانيا واحتياجها إلى توسيع نفوذها في المنطقة في صراعها من أجل أخذ دور في عالم جديد متعدد الأقطاب. تركيا القوة الاستعمارية الصغيرة، الدولة التابعة العضو في حلف ال NATO، بنزقها المتصاعد في التوسع “العثماني” وحربها اللانهائية مع حزب التحرير الكردي PKK والذي تعتبره الخطر الإرهابي الأكبر على وحدة أراضيها. أما طموحات وأهداف إسرائيل فحدث ولا حرج. توحد هؤلاء حول ضرورة القضاء على محور المقاومة، العقبة الكأداء الوحيدة المتبقية في الطريق المؤدي إلى شرق أوسط جديد تحت قيادة إسرائيل، أي الخاضع تماماً للإمبريالية العالمية ضد مصالح شعوبه بشكل صريح.

تفاعلت هذه العناصر مع بعضها حتى توصلت إلى تسويات انتهت بإسقاط نظام الأسد بالاستعانة بقوى ظلامية ارتدت مرحلياً ثياب الديمقراطية والمدنية والوحدة الوطنية.  لن تمضي شهور حتى تظهر النوايا الحقيقية التي تنذر بصراعات بين أشتات هذه الجماعات قبل أن تخبو نشوة انتصارها، صراعات قد تنفجر مع المجتمع ككل بسبب الرغبة المعلنة في إعلان سورية إسلامية. كما اتوقع ظهور صراعات طائفية وعرقية. أما الشيء الأكيد فهو أن تستولي تركيا وإسرائيل على أجزاء شاسعة من الأراضي السورية. ولن تعدما الحجج أمام مجتمع دولي أصم أبكم وقوى عظمى لا يهمها سوى مصالحها الجيوستراتيجية.    

في حساب المكسب والخسارة نتيجة هذه التفاعلات نجد المستفيد الأول من سقوط النظام هو إسرائيل التي سارعت بإسقاط اتفاقية فك الاشتباك مع الحكومة السورية الموقعة عام ١٩٧٤، واحتلت المنطقة العازلة بين قواتها والقوات السورية في الجولان ودمرت سلاح الجيش السوري. والمستفيد الثاني هو تركيا التي ساهمت في تمويل وتسليح المعارضة، لتبسط نفوذها على منطقة أوسع شمال سوريا وتحكم حصارها على الإقليم الكردي الذي يتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي شمال غرب سوريا.

أما الخاسر الأساسي فهو محور مقاومة الغطرسة الإسرائيلية والنفاق الغربي بمعاييره المزدوجة. فسوف يفقد حزب الله الدعم الذي كان يأتيه من إيران عبر الحدود السورية. ثم تأتي ثانيا إيران التي بدأت تفقد النفوذ الذي جعل منها قوة إقليمية في الشرق الأوسط بسقوط نظام حليف وإضعاف حزب الله. وأخيراً روسيا التي خسرت نظاما حليفا في الشرق الأوسط وربما قواعدها العسكرية على السواحل السورية.

الدليل على ضلوع الغرب في هذه “العملية” محكمة التخطيط والتنفيذ هو شروع الحكومات الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا في تبييض وجه من انتصروا على نظام الأسد. فبدأت وسائل إعلامهم الكلام عن نفي صفة الإرهاب عنهم تبعتها تصريحات مسؤولين بأن منظمات الإسلام الداعشي تلك قد غيرت من فكرها وراجعت مواقفها و. و. تمهيداً للاعتراف بسلطتها على سوريا. فحسابات الغرب الامبريالي في هذا الصدد تنطلق من احتمالين كلاهما على هواه.

الاحتمال الأول؛ إذا نجح الغرب في ترويض هذا العدد الهائل من المنظمات الإرهابية لكي ينشئ بها دولة مستدامة لكنها تابعة له تماماً، أسوة ببقية دول المنطقة العربية على سبيل المثال لا الحصر. بذلك تكون عملية تغيير النظام regime change في سوريا قد حققت هدفها، وتصبح السياسات في منطقة الشرق الأوسط يمكن التنبؤ بها وحسابها. الاحتمال الثاني هو أن تسقط سوريا في آتون صراعات عرقية ودينية وطائفية لا نهاية لها. الغرب يعتبر هذا الاحتمال أيضاً مكسباً، لأنه بالضرورة سوف يؤثر سلباً على محور المقاومة ويسهل بسط الهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط ويجعله حتى مقبولاً “أخلاقياً” لدى قطاعات عريضة من شعوب الشمال العالمي.    

ما العمل؟

إنّ عملية تغيير النظام جذرياً في سوريا، أي بناء دولة القانون والمواطنة هي عملية أشد تعقيداً بكثير من مجرد إزاحة رئيس. ونظراً لهول المخاطر المحدقة بهذا البلد الضحية فإن المهمة الملحة والعاجلة هي التنسيق والتكامل والتحالف بل الوحدة بين مختلف أطياف القوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية والتقدمية واليسارية في سوريا، لتشكيل قطب في معادلة إعادة رسم مستقبل البلاد السياسي، بعيداً عن نظم المحاصصة الطائفية ومشاريع النفوذ والهيمنة الخارجية.

ثم يأتي دور قوى التحرر في العالم كله. عليها اليوم وليس غداً أن تتضامن مع هذا المولود الجديد في سوريا وتوفر له كل وسائل الدعم، خاصة في المحافل الدولية، لتتمكن من إحباط كافة المؤامرات التي تحاك لهذا البلد. علينا جميعاً أن نعي جيداً أن الغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لم ولن يقدم حلولاً في صالح الشعوب في أي مكان في العالم، ناهيك عن الشرق الأوسط. علينا جميعاً أن نعي أن حلول المشاكل لا تأتي إلا من خلال المستفيدين منها… ولن تأتي إلا بالتنظيم ورص الصفوف… ولن تأتي إلا بالصدام مع الامبريالية العالمية. علينا جميعاً أن نعي أن الامبريالية تعادي بطبيعتها الديموقراطية الحقيقية في الشمال العالمي كما في الجنوب العالمي… علينا جميعاً أن نعي إنه ليس امامنا خيار سوى المقاومة، مهما طال بنا الطريق. فلنجعل هذا هو معيار حكمنا على الأمور.      

تنويه| المقال بقلم/ ممدوح حبشي – أمين لجنة العلاقات العربية والدولية بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي ونشر في العدد الجديد لمجلة التحالف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *