د. محمد مدحت مصطفى يكتب: النمط المصري للإنتاج (10- 11) دراسة فوزي جرجس
تكتسب الدراسة التي أعدها فوزي جرجس بعنوان “دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي” والتي طُبعت بالقاهرة عام 1958م أهميتها، بكونها نموذج مثالي لقطاع كبير من تلك الدراسات التي تعتنق مسألة انتشار نظام الإقطاع في مصر مُوضحة للفروق بينه وبين النظام الإقطاعي في أوربا. كما تتميز الدراسة بأنها تقريباً أول الدراسات العربية التي أشارت إلى مسألة جناحي الطبقة الوسطى المصرية (زراعي وصناعي) وعدم التناقض بين الرأسماليين وكبار المُلاّك. كما أشارت إلى مسألة ارتباط نشأة الرأسمالية المصرية في ارتباطها برأس المال الأجنبي، وأول من لفَت النظر إلى أن كافة المشروعات الصناعية التي قام بها بنك مصر، البنك الوطني للرأسمالية المصرية ، إنما تمت بالمشاركة مع رأس المال البريطاني والأمريكي.
كما تميز الباحث بجرأة الخروج عن المألوف في إطلاق التسميات ـ بغض النظر عن مدى صحة تلك التسميات ـ حيث أطلق على المجتمع المصري في مرحلة ما قبل الحملة الفرنسية مصطلح “مجتمع إقطاعي شبه مُستعمَر“، وأطلق على مرحلة ما بعد الحملة الفرنسية مصطلح “مجتمع تابع شبه إقطاعي”. ومن هنا نستخلص أنه يؤكد على صفة الإقطاعية لمصر في مرحلة ما قبل الحملة الفرنسية ويؤكد على صفة شبه الإقطاعية على المرحلة بعدها. رغم كل ذلك فقد تحفظ فوزي جرجس على إطلاق أية تسمية جديدة على فترة ما بعد إقرار المِلكية الفردية للأرض الزراعي مما يعني بطريق غير مباشر استمرار توصيفه الخاص بالمجتمع “التابع شبه الإقطاعي” وذلك حتى انتهاء فترة الدراسة عند منتصف القرن العشرين.
مصر في العصور الوسطى: بالنسبة لحديثه عن العصور الوسطى يقول جرجس: مع أن مصر وأوربا، كانت في مرحلة واحدة اجتماعية واحدة، هي مرحلة الإقطاع، إلا أنه كان لكل منهما ظروف موضوعية تختلف عن ظروف الأخرى، مما هيأ الظروف للطبقة الوسطى هناك لكي تنمو وتزدهر، وينمو معها المجتمع ويزدهر، بينما لم تكن هذه الظروف متوفرة للطبقة الوسطى في مصر، ومن ثم، تجمدت وتجمد المجتمع أيضاً ، لقد انتصرت الحضارة اليونانية القديمة على الحضارة الفرعونية لأن الأولى كانت حضارة تجارية نامية، بينما الحضارة المصرية كانت حضارة زراعية ثابتة، مع أن كلتيهما كانتا في مرحلة النظام العبودي. لقد كان النظام الإقطاعي في أوربا يختلف من ناحية الكم، عن النظام الإقطاعي في مصر. فهناك، كان النبلاء مستقلين تماماً بمقاطعاتهم، ولهم جيوشهم الخاصة، وعملتهم الخاصة، وحق اعتناق الدين الذي يرونه، وذلك لصعوبة المواصلات. ومن هنا، لم تكن فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا إلا وحدة جغرافية فحسب، لا وحدة سياسية. أما في مصر، حيث الوادي سهل في مواصلاته، وحيث النيل يربط بين جنوبه وشماله، وحيث يعتمد أهل الوادي على مياهه في الزراعة، فقد كان لا مفر من تعاونهم جميعاً في ضبطه، خاصة في أيام الفيضان عندما تغمر مياهه الجسور. لذلك لم يكن في استطاعة أحد من أمراء المماليك، مهما بلغ من قوة، ومهما بلغت الحكومة المركزية من ضعف، أن يستقل بإمارته.
ويُرجِع جرجس نجاح الطبقة الوسطى في أوربا وفشلها في مصر إلى مجموعة من العوامل، أهمها:
(1) أن السلطان في مصر لم يكن في حاجة مُلِحَة للتحالف مع رموز الطبقة الوسطى ضد أمراء المماليك، لا قبل الفتح العثماني ولا بعده، نظراً لقدرته على القبض على زمام السلطة المركزية، ولأن مصر كانت فعلاً وحدة سياسية كما هي وحدة جغرافية. أما في أوربا فقد وجد الملك بصفته أغنى وأقوى النبلاء في الطبقة الوسطى خير حليف، كما وجدت هي فيه خير سند يتفق مع أهدافها في المراحل الأولى، ثم تخطتها بعد ذلك إلى تحطيم النظام الإقطاعي كله، والقبض على زمام السلطة بمعرفتها.
(2) أن معظم تجارة أوربا الأساسية تمر بالأراضي المصرية. فكانت المبادلات التجارية تتم دون الحاجة إلى البحث عن أسواق بعيدة (وكأن الأسواق هي التي تأتي إليك)، بعكس الطبقة الوسطى في أوربا التي كانت في حاجة إلى هذه الأسواق وبصفة خاصة للوصول إلى موارد المواد الخام، وهي لهذا شجعت المِلاحَة ومولت الرحلات الكشفية العظيمة.
(3) كانت أرباح السلطان والمماليك الهائلة من الرسوم التي تُفرض على التجارة الأوربية المارة بالأراضي المصرية تقلل من جشعهم بالنسبة للطبقة الوسطى، فلا يفرضون عليها ضرائب فادحة كما كان يفعل أمراء الإقطاع في أوربا عندما كانوا يفرضون رسوماً جمركية على مرور التجارة عبر مقاطعاتهم.
أدت هذه الأسباب جميعاً إلى تخلف الطبقة الوسطى في مصر عن مثيلتها في أوربا. ولما كانت الطبقة الوسطى في المجتمع الإقطاعي تُعتبَر الطبقة الأكثر نضجاً من أية طبقة أخرى وتُمثل التقدم والتطور، لهذا فإن خمود نشاطها في مصر، وتحركها جنباً إلى جنب مع سلطة الإقطاع بدلاً من أن تتناقض معها جعل المجتمع المصري يثبت ولا يتطور.
ومن هنا يتضح أن كشف طريق رأس الرجاء الصالح لم يكن مجرد كشف جغرافي، وإنما كان التعبير المادي عن تفوق وقوة الطبقة الوسطى في أوربا وضعفها في مصر، بل وفي كل بلاد الشرق. وفي 1517م أي بعد تسعة عشر عاماً من رحلة فاسكو دي جاما حول رأس الرجاء الصالح، وبعد ثمانية أعوام من هزيمة الأسطول المصري أمام سواحل بومباى، دخل السلطان سليم مصر، وفقدت مصر استقلالها.
وعن الفروق الأخرى يقول: كان أمراء الإقطاع في أوربا من الوطن نفسه، أنهم كانوا يمثلون أرستقراطية منعزلة عن الشعب، والتي تحكمه بالسيف والدرع، أما في مصر فقد كان أمراء الإقطاع يُمثلون الأرستقراطية المسلحة الأجنبية التي لا تعرف في الغالب كلمة واحدة من لغة الشعب. وبدخول العثمانيين مصر، بدأت بلادنا تنحدر نحو عُزلة مميتة عن النشاط والتطور العالمي، بينما كانت أحشاء أوربا تمر بعصر النهضة إيذاناً بميلاد جديد. فبعد الضربة القاسمة لإيرادات تجارة الترانزيت العابرة بمصر، جاءت عملية اختطاف الصناع المهرة التي قام بها السلطان سليم الأول ونقلهم إلى القسطنطينية لتوجه ضربة جديدة للصناعات الحرفية في مصر. ولكن لم تلبث الدولة العثمانية أن دخلت في مشاكل دولية أضعفتها وأضعفت قدرتها للسيطرة على مصر، فاستعاد المماليك نفوذهم، حتى أصبحوا الحكام الحقيقيين للبلاد ، حتى نجح أحد كبار المماليك، وهو على بك الكبير سنة 1769م فى إعلان استقلال مصر، رغم الفشل السريع للدولة الجديدة.
مصر في العصر الحديث: يبدأ فوزي جرجس تحليله للعصر الحديث بإطلالة على مسألة “القومية المصرية” فيقول: “ظلت القومية المصرية محتفظة بطابعها الذاتي المُميز، إلا أن العقلية الإقطاعية السائدة، والارتباط بالخلافة في بغداد، ثم بعد ذلك بالقسطنطينية أدت إلى اختفاء القومية المصرية تحت غلالة دينية رقيقة.. ومع أن القومية لها مقومات عديدة إلا أن النظرة الدينية كانت تؤثر على القومية المصرية، وتُميع العلاقات بينها وبين البلاد الأخرى.. وظلت القومية المصرية في ذلك الركود البشع حتى كانت الحملة الفرنسية التي هزت الشعب المصري هزاً عنيفاً، وأيقظته من ثُباته، وجعلته ينفض عنه الغبار الذي يُخفي شخصيته ومميزاته.. لقد ضربت الحملة الفرنسية المماليك ضربة قاسمة، ووضعت نواة الفكر الديمقراطي في مصر، وحاولت تنظيم الانتفاع بالأرض في محاولة لإقرار الملكية الفردية ولكن المشكلة أن النظام المملوكي قد ضُرِبَ أساساً بواسطة القوة المسلحة الأجنبية، وليس نتاج التطور الطبيعي من داخل البلاد.
ويميل عدد من الكتاب لاعتبار محمد على ممثلاً للرأسمالية المصرية الناشئة، ومنشأ هذا التفكير الخاطئ اعتبارهم أنه هو الذي حطم سلطة المماليك، ولما كانت سلطة المماليك سلطة إقطاعية، فبالتالي لابد أن الذي يحطمها يكون ممثلاً للرأسمالية الناشئة.
وهذا تفسير خاطئ، فمحمد على لم يحطم سلطة المماليك، بل أجهز على فلولهم، والقوات الفرنسية هي التي ضربتهم الضربة القاسمة. بوصول محمد على إلى السلطة انتهى النظام المملوكي فعلاً وانتهت بهذا مرحلة من مراحل الإقطاع في مصر، دامت حوالي 555 سنة، منذ أن وصلت المماليك البحرية إلى الحكم سنة 1250م إلى أن تولى محمد على السلطة سنة 1805م. ولما كان تحطيم النظام المملوكي تم أساساً على أيدي القوة المسلحة الأجنبية، وليس نتيجة للتطور الداخلي في مصر، لهذا فإن النظام الإقطاعي نفسه لم يُقض عليه بل تغير شكله وتمركزت السلطة الإقطاعية في يد محمد على، وكوّن دولة مركزية إقطاعية وظل أسلوب الإنتاج الإقطاعي كما هو، وظلت العلاقات الإنتاجية بين القوى الاجتماعية إقطاعية كما هي أيضاً.
لقد زاد الإنتاج في عهد محمد على زيادة كبيرة، سواء في الزراعة أو في الصناعة، ولكن الفائدة لم تَعُد على أي طبقة من طبقات الشعب، ومن ذلك يتبين أن المسألة ليست مسألة زيادة الإنتاج في ذاته، بل المسألة هي توزيع هذا الإنتاج.. وباختصار فإن محمد على قد مات والمجتمع المصري مجتمعاً إقطاعياً شبه مُستَعمَر”.
وفي تحليله لمرحلة ما بعد محمد على والتدخل الرأسمالي الدولي يُبدي جرجس عدة ملاحظات عملت على تحويل المجتمع المصري من مجتمع “إقطاعي شِبه مُستَعمَر” إلى مجتمع “تابع شبه إقطاعي” وذلك على النحو التالي:
- كانت خطة محمد على الاقتصادية كالوليد الكبير الحجم الجميل الصورة، ولكنه مولود ميت لا حياة فيه، إلا أن المشروعات التي تمت في عهده هي التي مهدت وهيأت الطريق للتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي تمت بعد ذلك.
- مع فرض سياسة حرية التجارة (الباب المفتوح) انهار ما تبقى من الصناعة المصرية التي لم تتمكن من الصمود أمام الصناعة الأوربية المتطورة لتتحول مصر إلى مزرعة قطن.
- أن المشروعات الاستعمارية لم تجد القيادة الشعبية التي تقاومها بعد أن قضى عليها محمد على.
- أن رؤوس الأموال الوطنية شبه منعدمة بعد أن كان محمد على يصادرها أولاً بأول.
- أن كسر احتكار الدولة لملكية الأراضي كان نتيجة ضغوط دولية، وأن اللائحة السعيدية لم تصدر نتيجة لثورة فلاحية أو نتيجة لتطور رأس المال الوطني.
- ترتب على أزمة الديون وقوع مصر تحت السيطرة الاستعمارية.
- أن الاستعمار البريطاني هو الذي سعى نحو إقرار المِلكية الفردية للأراضي الزراعية.
- أن عملية تغلغل رؤوس الأموال الأجنبية قد صاحبها وبالضرورة عملية تفتيت في المجتمع المصري، وبالتالي فإن هذا التفتيت لم يتم بالتطور الطبيعي للرأسمال الوطني.
- أن عملية التفتيت التي حدثت في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الإقطاعي حولَتْ المجتمع المصري كله إلى مجتمع تابع شبه إقطاعي بعد أن كان مجتمعاً إقطاعياً شِبه مُستَعمَر.
يواصل فوزي جرجس تحليله للمرحلة التاريخية التالية ويرصد أهم ملامحها في:
(1) ازدياد نفوذ كبار مُلاك الأراضي الزراعية.
(2) تزايد دور رأس المال الأجنبي سواء في الشركات الزراعية أو بنوك الرهن العقاري أو النشاط الصناعي.
(3) التحول الشديد نحو زراعة المحصول الواحد (القطن) على حساب المحاصيل الأخرى.
(4) أن الجناح الصناعي المصري الذي خرج من كبار مُلاّك الأراضي، نشأ من أول يوم متداخلاً مع رؤوس الأموال الأجنبية، وهذا يوضح أسباب مهادنة هذا الجناح.
(5)أن ظروف نشأة الرأسمالية الصناعية الحديثة كجناح ما زال عميقا في ارتباطاته بكبار مُلاّك الأرض، ونظراً لضآلة حجم أمواله المُستغلَة في الصناعة فعلاً، ولعلاقته المتداخلة مع رؤوس الأموال الأجنبية، فإنه نشأ تابعاً للسيطرة الاقتصادية الاستعمارية، ولم يلعب في الثورة الدور الإيجابي لضرب المجتمع شبه الإقطاعي لتصفيته التصفية النهائية.
(6) أن بنك مصر لم يستطع أن يستمر طويلاً بعيداً عن السيطرة المالية الاستعمارية، فكون شركات متداخلة مع رؤوس أموال إنجليزية وأمريكية.
(7) التأكيد على تنامي مصالح الجناح الصناعي واجتذابه لمزيد من كبار المُلاّك خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.