الطيب النقر يكتب: الجاحظ مقتطفات من حياته وأدبه وسخريته.. (دراسة مطولة)

توطئة:

إن لمجد الجاحظ بريق يخطف العيون، وحرف يأسر الأفئدة، فمؤلفاته الجامعة لشتيت الفوائد التي تدرك من غير مؤونة، ولا كد ذهن، قد استوعبت أصول الأدب، وأحاطت بفروعه، فتزاحم الناس على مر العصور والحقب على موردها العذب، وتسابقوا إلي محياها الغض، وثغرها الباسم، ولأنها بالغة الآثر، قوية الإيحاء تعهدها ثلة من أدباء هذا القرن بالعناية وذلك بشرح ما غمض من ألفاظها بعد أن نضب معين اللغة وتفشى الدخيل وأمست الفصحى تعاني العسف وتسام الخسف والتنكيل من قبل أحفاد رجال كانت لهم قدرة مذهلة في تطويع اللغة وتصريف أعنة القوافي. والحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أن الجاحظ قد استرق القلوب، واستحوذ على العقول، بحلاوة لسانه، وحسن بيانه، وسداد منطقه، وبكلامه الذي تنزه عن شوائب اللفظ، وخلص من أكدار الشبهات، ولأنه يزاوج بين الجد والهزل فمؤلفاته حوت عدد من النكات والقفشات التي توْمضَ الجماد وتُضحِكُ الثكلى، وتجلي الحزن عن من تراكمت غمومه، وتتابعت همومه. فلقد كان ديدن الجاحظ الرجل الذي لا ينكص أمام المهاترات الجزاف هو مجابهة خصومه بالسخرية اللاذعة والأجوبة المفحمة، والتخلص الذكي.

الفصل الأول: بيئة الجاحظ العامة:

العصر الذي عاش فيه الجاحظ عصر استقرار وازدهار في جميع المرافق والأصعدة، عصر توطدت فيه أركان الدولة العباسية التي قيض الله لها رجال أشداء على شاكلة الرشيد وابنيه المأمون والمعتصم الذين كانت لهم جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، ذلك النفر الذي كان يصل كلال ليله بكلال نهاره تدبيراً لشؤون دولته، وتوسيعاً لحدود مملكته، و”لم يكدر صفاء تلك الحقبة غير الحرب التي نشبت بين الأمين والمأمون، للنزاع على ولاية العهد، فسالت الدماء في خراسان والعراق، وأنفق الأمين الأموال، حتى إذا استقل أخوه المأمون بالخلافة، عادت الأمور إلي مجراها الأول في عهد الرشيد وأبيه المهدي وأخيه الهادي.ثم اختلت الدولة بعد عهد الواثق، فقتل المتوكل والمستعين والمعتز من خلفائهم”.

1-الحياة السياسية في عصر الجاحظ:

كان ميلاد الأديب الأريب، والكاتب الملهم صاحب الأحاديث المنقولة، والبلاغات المأثورة، في خلافة المهدي، وطوته الغبراء في خلافة المعتز، وهذا يعني أنه عاصر مصابيح الدجى وأعلام الهدى، وفرسان الطراد، ملوك الدولة العباسية التي دانت لهم الأرض، وخضعت لهيبتهم الرقاب، الهادي والرشيد، والمأمون والمعتصم، والواثق والمتوكل.”وتعد الفترة التي عاشها الجاحظ ظاهرة حضارية، وقوة سياسية، ونمواً اجتماعياً، وثقافياً، مختلف النزعات والميول والاتجاهات والرغبات، وذلك بسبب انتصار دولة بني العباس على أيدي الموالي الذين انبعثت أمالهم لتحقيق ما يريدون، اعتقاداً منهم أن دولة بني العباس قامت على كواهلهم، مما هيأ لهم الافتخار بجنسهم العجمي، وظهور الشعوبية التي تمجد الفرس، وتعليهم على العرب أهل الصحراء”. ولعل ما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الفرس هم الذين وطدوا دعائم الملك لبني العباس فهم الذين وضعوا أساليب الحرب ونظم الحكم وهم من كانوا ينذرون من يناوش بنو العباس بأفدح الخطوب، الأمر الذي جعل المؤرخون يذهبوا إلي حقيقة مفادها أن دولة بني أمية كانت عربية في مادتها وتكوينها، بينما كانت دولة أحفاد حبر الأمة رضي الله عنه أعجمية خراسانية. في هذه البيئة، عاش الجاحظ العصر الذهبي بين بسط المروج وأفنان الخمائل، العصر العباسي الأول{بدءاً من 132هـ} حيث كانت السلطة بيد الملك الذي دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات الحزم عليه شاهدة.

تعاقب على الدولة العباسية ملوك أشداء استطاعوا أن يبسطوا هيبتهم في كل صقع وواد من مملكتهم المترامية الأطراف، ملوك جعلوا أعدائهم يكابدون غصص الحرمان، فالخليفة المهدي الذي اتسم عهده بالنعيم والاستقرار، نجده في أول ولايته قد “أمر بإطلاق من كان في سجن المنصور،إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد، أو كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فالذين أطلقهم هم من كان جرمهم سياسياً”. كما نجده قد اهتم بالعمران وبناء القصور في طريق مكة، كما تفانى وأفرغ وسعه وجهده في رعاية المجذومين والمحتاجين. وبعد وفاته آلت السلطة إلي الهادي الخليفة الذي عاش الناس في عهده في حال جميلة وذخيرة جليلة، ومضت الدولة إبان حكمه في رخا ويسر. أما في عهد هارون الرشيد العهد الذي انفجرت فيه الحكمة من كل جانب، والعلم من كل ناحية، تلك الفترة التي قادها رجل هذبته الآداب وأحكمته التجارب، والذي بلغت الدولة العباسية شأوا عظيماً من الرقي والتقدم وتفتقت الأذهان إلي ألوان من الفكر والبيان، الخليفة هارون الرشيد الذي كان يجتمع على سماطه جمع غفير ممن رسخت أقدامهم في الدين والعلوم والأدب، يحييهم في أدب، ويناقشهم في وداعة.

ثم تسلم الحكم بعده”الأمين ثم المأمون، وكان عصرهم عصر قضاء على الثورات الداخلية والخارجية. ثم يأتي من بعدهم المعتصم الذي نشبت في عهده الثورات التي أشعلها بابك الخرمي ومازيار والافشين وغيرهم.فأقضّ مضجع الروم في غزواته المتكررة على الثغور، وتمثل في شخص المعتصم المجتمع العربي المثالي، في معنى النخوة، والحفاظ على الشرف العربي”. والحقيقة التي ينبغي علىّ بسطها في هذا المقام أن هؤلاء الملوك الشجعان الذين استقر الأمر في عهدهم، واتسق الحكم، واستبان الطريق، أتي عقبهم ملوك اتسموا بضعف المغمز وهشاشة الحشاشة، فلقد كان عصر “المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز يتصف بضعف الخلافة، وضياع هيبة الخلفاء، وفساد شئون الدولة؛ وذلك بسبب نفوذ الأتراك، الذين بلغ عددهم مبلغاً كبيراً في ظلال حكمهم”.

لقد كان الطابع الفارسي واضحاً جلياً في العصر العباسي الأول، واقتبس الخلفاء العباسيون الكثير من نظم الفرس الحكومية الذين كانوا أصحاب مجد مؤثل وماضى تليد في السياسة وتصريف شؤون الحكم، الأمر الذي هيأ لهم أن تكون لهم الكلمة النافذة، والرأي القاطع في الخلافة العباسية، وربما طمح بهم رجاؤهم إلي الغاية التي لم يخضر لهم فيها مرعى، أو يورق لهم فيها غصن، مما دفع الخلفاء لاجتثاث شأفتهم، واستباحت حوزتهم، وخير شاهد على صحة زعمنا نكبة البرامكة التي خلدتها أسفار التاريخ، فلقد أفناهم الرشيد من ظهر البسيطة بعد أن تحلبت أشداقهم لاعتلاء العرش، ومثل صنيع المأمون بوزيره الفضل بن سهل، وقبله فعل أبو جعفر المنصور بالخراساني أبو مسلم الذي تفاقم شره، واستطار آذاه بعد أن كان فارسهم الذي لا يشق له غبار، أبو مسلم الخراساني صاحب الساعد المجدول، والعضد المفتول الذي مهّدَ لقافلة بنو العباس من بعد الله سبحانه وتعالى أن تسير غير ظلعاء ولا وانية، أبو مسلم الذي تعاورته ألسنتهم بالمدح والثناء، وحوته أفئدتهم بالإكبار والحب أقدم أبو جعفر المنصور على قتله في رابعة النهار بعد أن أثار حفيظته وجعل الغضب يتنزا في صدره لتماديه وتعديه الصارخ على أصل الدولة، ومعقل الحكم، الخليفة الذي جرت العقائد المغروسة، والتقاليد الموروثة على طاعته والانصياع لأوامره”.واستمر تدخل الفرس في شئون البلاد، حتى اعتلى سدة الحكم الخليفة المعتصم الذي كان أول الخلفاء العباسيين الذين مكنوا يد الأتراك أن تنطلق في حواشي الدولة، ولعل السبب في ركون المعتصم للأتراك واطمئنانه إليهم أن والدته((ماردة)) كانت تركية من السغد، لأجل ذلك صاروا موضع ثقته المفرطة وإيثاره، وسار الخلفاء الذين أتوا من بعده على نهجه واستنوا بسنته في تقريب الأتراك، الأمر الذي قاد إلي الكثير من البلبلة والاضطراب في ثنايا الحكم، فلقد أضحى الأتراك قوة ضاربة ومسيطرة يعجز الخليفة العباسي الانفلات من قبضتها، ومن سعى لذلك كان مصيره الموت كالمتوكل ووزيره الفتح بن خاقان في أواخر 247هـ، وازدادت وتيرة تدخلهم في أمور الخلافة في عهد المنتصر والمستعين والمعتز، الذي مات الجاحظ في آخر خلافته عام 255هـ”.

2-الحياة الاجتماعية في عصر الجاحظ:

لم يكن العصر العباسي عصراً غطته أغشية الضلالة، وهام معاصرية في أودية الجهالة، كما ادعت بعض الأقلام التي لم يوهن لها عزم، ولا لانت لها قناة، في بث تلك اللوحات القاتمة عن تلك الحقبة التي تعد من أهم الحقب التي تهالك فيها المسلمون على العلم، وتنافسوا في جمعه وادخاره، ولا يعدم المرء منا حجة للاعتقاد بأنه ادعاء يشوبه الخطأ والاعتساف، ويعوزه تحرير الحجة، وتصحيح الدليل، فشيوع الترف والمجون، والتفنن في الملبس والمأكل، وتعظيم المسكرات ومعاقرتها، والتشبب بالقيان والغلمان، كان قاصرا على الطبقات المترفة، وحكرا على من سحّت عليهم هواطل النعم، ودرت عليهم روافد الرّهم، هذا التفسخ والانحلال كان يقابله جباه تعفر في التراب، ومساجد تكتظ بالعُباد، فعرى الدين لم ينفصم ارتباطها بالأرض في ذلك العهد، بل كانت دوحته فينانة الأفرع، ريا الأماليد، والشاهد على ذلك قول الجاحظ نفسه، الأديب الذي عايش تلك الفترة، نجده يقول في كتابه غزير المادة ((الحيوان)) الذي وصف فيه مساجد بغداد بأنها :”عامرة بالعبادة والنساك وأهل التقوى والصلاح، وكان في كل ركن منها حلقة لواعظ يذكر بالله واليوم الآخر، وما ينتظر الصالحين من النعيم المقيم، والعاصين من العذاب الأليم”.

نعم لقد أفرط بعض أهل اليسار والثراء الذين لا يبسطون ألسنتهم بمعروف، ولا أيديهم بمعونة، أهل الغني والرياش من اتسمت حياتهم بالبذخ واللهو والمجون والإمعان في اللذائذ والتكالب عليها، والتفنن في اصطيادها، وافراغ الوسع لها، كلما عنّت لهم الفرص، وسنحت لهم السوانح و”ساعدت الحرية المسرفة العباسيين في أن يرثوا كل ما كان في المجتمع الساساني الفارسي من أدوات لهو ومجون، حتى اكتظت حانات ((الكرخ)) ودور النخاسة بالجواري والإماء، والقيان والمغنين”. إلا أن مثل هذه الشواهد لا تكفي لكي ندمغ العصر العباسي بأسره بقبح الأحدوثة وبأنه عصر تجرد من كل فضيلة، وانغمس في كل فضيحة، حتى طارت له تلك الهيعة المنكرة التي لا يمحوها كرور الأيام، ولا يزيلها تعاقب الحدثان. فقد أدت تلك الحياة البهيمية التي يعيشها من كثرت أموالهم، وحسُنت أحوالهم، وتضاعف يسارهم، حياة التسرّي واللهو والترف “إلي زيادة استياء النفوس العالية مما يحدث، مما أدى بدوره إلي ثورتهم على الفساد الشائع، وإلي الزهد في الفانيات، فظهرت فرق دينية، ومذاهب متباينة، أشهرها جميعاً مدرسة المعتزلة الكلامية”. التي كان يشايعها الجاحظ و يتعصب لها، ويدعو إليها، وشق طريقه فيها بالعمل الدائب، والدرس المتصل، حتى صار من أقطابها الذين تشرئب لمقدمهم الأعناق، وتشخص لطلعتهم الأبصار، “وكانت المعتزلة طليعة المدارس الكلامية التي قامت لحل ما كان يشغل المسلمين من المشاكل الحيوية، مثل مشكلة حرية الإرادة ومشكلة مرتكبي الكبائر.وقد عُني رجال هذه المدرسة بدرس الفلسفة، للاستعانة بها في الدفاع عن العقيدة. ثم أخذوا تدريجياً يحاولون التوفيق بين العلوم النقلية والعلوم العقلية. وعندما توغّلوا في الفلسفة وتعمقوا في مسائلها، أحبوها لذاتها فعظّموا شأنها حتى صاروا يُخضعون النقل للعقل ويؤولون معتقداتهم الدينية ليوفقوا بينها وبين الفلسفة”. والجاحظ حينما انتسب لهذه المدرسة التي ساءت ظنون الناس فيها، وأرهفت الألسن عليها لاغراقها في الفلسفة، والتي ملكت أرباب الخلفاء، وأثارت إعجاب الوزراء، حتى غدت مذهب الدولة الرسمي في عهد المأمون والمعتصم والواثق، وقوض أركانها المتوكل في خلافته،”أخذ الجاحظ بمبادئ الاعتزال الخمسة الأساسية منها، وهي العدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكنه افترق عن سائر المعتزلة بآراء خاصة انفرد بها، فعد على أساسها صاحب فرقة مميزة عن فرق الاعتزال دعيت الجاحظية”.

إنّ الدولة العباسية ضمت في معييتها العديد من الشعوب التي تنحدر من جنسيات شتي وأعراق متباينة لا يجمعها منبت سوي الإسلام، فلقد حوت مسلمون”متعددي الفرق، ونصارى مختلفي النزعات، ويهود وصابئة، وزرادشتين، ومانويين، ومزدكيين متبايني المذاهب”. هذا الخليط من الشعوب المتناحرة التي انخرطت في كينونة الدولة العباسية تركت آثاراً سالبة على المجتمع العربي الذي كان راسخ القدم في الدين، عالي المنزلة في الأخلاق، ذلك المجتمع الذي عُرِف بمحاسن الخلال، وأُشتُهِرَ بمكارم الفِعال، تحررت بعض شرائحه من سلطان العقيدة، وانكبت على الشهوات، ولزمت غرس أقوام لا تقع إلا على منكر، ولا تتقلب إلا على معصية.

ونحن إذا نظرنا إلي تركيبة المجتمع العباسي نظرة خاطفة، لوجدناه يتكون من ثلاث طبقات أعلاها ينبتون الصخور قصورا، وأدناها تضطرب في دور يخالها المرء قبورا لضيقها وافتقارها لغضارة العيش، ولين الجانب، أعلى هذه الطبقات هي طبقة الخلفاء السادة، والملوك القادة، الذين لم تكل لهم ذراع، أو يمزق لهم شراع، وعلى شاكلتهم الوزراء، والولاة، والقواد، أقطاب الدولة وأعيانها، والثانية عمادها الصناع البارعون لصنعتهم، والعلماء المتبحرون في شرعتهم، والشعراء المتمكنون من لغتهم، ورجال الجيش الذين يفنون من مس حرمتهم، والمغنون الذين لا يستثقل الخاصة عشرتهم، والطبقة الثالثة هي الطبقة المسحوقة التي ولدت في مهاد الفقر والعدم، وترعرعت في كنف البؤس والحرمان، طبقة تعاني من نوائب الفاقة، وغوائل الغرث والجوع، تتحيفها المكاره، وتترصدها العيون، طبقة لا تجد ما يسد الرمق ويقيم الأود إلا باستخذاء من يعانون داء القدرة والتملك، وتبديد العمر في لذة الانتقاء وفرحة الاقتناء، طبقة يقع عليها عبء الحرث في الحقول، وخدمة أرباب القصور، بينما “كان الخلفاء والوزراء يعيشون في بذخ، إلي درجة أن يتلف الخليفة المقتدر الخليفة التاسع من خلفاء العصر العباسي الثاني((295-320هـ)) ويبدد ثمانين مليوناً من الدنانير، كان قد خلفها أبوه المعتضد”. بينما تكتفي تلك الأسر التي ترى فيها وضاعة الشأن، وضراعة الجانب، بدرهم يدفع عنهم بناب، ويصاول عنهم بمخلب، علل الملق والفاقة.

ومعاناة الخصاصة، ونكد العيش، وقصور وسائل الكسب من أن تفي بمتطلبات الحياة، أجبر العديد من الناس من أن يستدر الأكف بالسؤال، أو يفض الجيوب بالسرقة، ولقد استرعت ظاهرة التسول وكثرة المتسولين في نواحي بغداد “نظر رسول ملك الروم إلي المنصور، فقال لعمارة بن حمزة وكان يرافقه من قبل المنصور في تطوافه ببغداد:إني أرى عندكم قوماً يسألون الناس، وقد كان يجب على صاحبك أن يرحم هؤلاء ويكفيهم مؤنهم وعيالهم، فاعتل له عمارة بوجه، واعتل له المنصور بوجه”.

ولم يكن الجاحظ الذي يفزع إلي القلم والقرطاس كما يفزع من اشتد جوعه وطال غرثه إلي الطعام الشهي لائذا بأذيال الصمت عن صرعى الفاقة، وأنضاء المرض، فكتب عن ضخام الجلاميد الذين لا تأخذهم رأفة، أو تدركهم شفقة لتلك الأفواه الجائعة التي مستها البأساء والضراء، فلقد اختلط الجاحظ “بكل طبقات المجتمع العباسي بجميع فئاته على تباين أنواعها، وأحسّ بها جميعاً، وكتب عنها، حتى جاءت كُتبه مرآة صادقة لعصره، بل إنها تُعَدُّ أغزر مصدر لدراسة الحياة الاجتماعية في عصره”.

3-الحياة الثقافية في عصر الجاحظ:

كان عصر الجاحظ عصراً عضّ على قارحة من الكمال في العلوم والأدب، فلقد تهيأت له من الأسباب والوسائل ما لم تتوفر لعصر قبله، لأجل ذلك لم يبرأ من ترهات الأراجيف، عصر أوغل فلاسفته ومفكريه في دراسة شتي العلوم قديمها وحديثها كل الإيغال حتى تعمقوا في أغوار الفكر والشعور وبقى صدى صوتهم الدافئ يرن في أعطاف الأزمان، عصر ازدهرت فيه الحياة العقلية و”تلاقت في حواضره الإسلامية شتى الثقافات التي تمثل حضارات الأمم العريقة في العلم والثقافة؛ وأخذ خلفائه الذين خضعت لهم الرقاب يشجعون الحركة العلمية في شتى جوانبها، ويضفون عليها ظلال رعايتهم وتشجيعهم، كما كانوا يبالغون في إكرام الأدباء والعلماء ويجالسونهم ويقربونهم إليهم، وصار العلم والأدب وسيلة إلي المناصب العالية، والنفوذ والجاه؛ وكان كل من نبغ في العلم، أو شهر بالأدب ترفع منزلته، ويتنافس العظماء في تكريمه، كما يتنافسون في إنشاء دور العلم، وترجمة الكتب إلي العربية من مختلف اللغات”.

عصر صقله العلم، وشمله التمدن، ولم يترك بيتا نادراً، ولا نسيباً سائراً، ولا شعراً فاخراً إلا حواه ودونه، عصر حفل بالأذهان الخصبة، والقرائح الموهوبة التي أيقظت رواقد العبقرية، وفجرت ينبوع الإبداع الذي ما زال يلهمنا ويسقينا، عصر أيقن فيه أرباب البصائر”أن الدنيا لا تأتي من غير طريق الكفاية، وأن كل عزّ لم يؤكد بعلم فإلي ذل يؤول فاكّبوا على التأدب، وحرص أرباب اليسار على تثقيف أبنائهم، وكان إذا تفرس رب البيت في ولده ذكاء جاءه بالمؤدبين يلقنونه ما تشتهي نفسه من الآداب، ولذا أصبح التعليم صناعة، وحسن عيش المؤدبين؛ وغدا التأديب –كما أسلفت من قبل-طريقاً إلي المجد والسؤدد”.

في ذلك العصر الذي اشتدت فيه قبضة العرب على مقاليد الحضارة وسلكوا فيه سلوك الأمم المتمدنة في التدوين”حين انبثوا بفضل الإسلام في الممالك التي فتحوها واكتسبوا بالمعاشرة والمصاهرة روحاً جديداً ظهر أثره في الخطب والرسائل والمحاورات حتى ليمكن أن يقال:إن الفتح والملك أعطاهم من قوة الملاحظة ودقة التفكير ما لم يعطهم القرآن وحده لو ظلوا محصورين في أرجاء الجزيرة العربية”. ولعلني لا أجنح بعيدا عن شط الحقيقة إذا زعمت أن العصر العباسي برمته كان عصر ترجمة وثقافة وذلك لانصهار كل تلك الحضارات والثقافات المتعددة في بوتقة واحدة تواكب الرقي وتساير التطور، بوتقة امتزجت فيها خلاصة الحضارات العريقة، ولعل من مزايا هذا الاحتكاك والتمازج بين العرب وغيرهم من الشعوب المسلمة والثقافات الأجنبية الوافدة أنه أثرى الأدب والعقل في”عصر الجاحظ بما تُرجِمَ من فلسفة اليونان ومنطقهم، فقد صبغا عقلية الأدباء والشعراء بآثارهما العميقة في التفكير والمعاني، وطرافة التقسيم والخيال، كما أثرى كذلك بالمترجم إلي العربية من قصص الهند وأدب الفرس”. والحقيقة التي يجب علىّ بسطها في هذا المقام أن العرب لم يكونوا متلقيين فقط لهذا الكم الهائل من العلوم دون أن يضفوا عليه شيئاً من سمتهم الرزين ويضيفوا عليه قبساً من قريحتهم الجياشة، و”إنما كانوا إيجابيين في تعاملهم معها، ومن ثم صبغُوها بالصبغة الإسلامية، وأخضعوها لأيديولوجية الإسلام، حتى صارت هذه العلوم في نهاية المطاف علوماً إسلامية”.

الفصل الثاني:حياة الجاحظ

1-اسمه وشكله:

هو “أبوعثمان عمرو بن بحر، بن محبوب،الكناني الفُقيمي، لُقّب بالجاحظ أو الحدقي لجحوظ عينيه، أي نتوئهما، وكان هذا اللقب لا يُعجبه، على ما يظهر، فيتبرم بمن يدعوه به، ويجهد نفسه لكي يقرر في أذهان الناس أن اسمه عمرو، وأنه يُحب أن يُدعى بهذا الاسم، وأن اسم ((عمرو)) أرشق الأسماء وأخفها وأظرفها وأسهلها مخرجاً”. ونجد أن الجاحظ قد خلع على اسم ((عمرو)) المظلوم لأن الناس قد الصقوا به حرف الواو الذي لا يمت له بصلة أو يصل إليه بسبب وكان يقول عن اسمه الذي يتوق أن ينادوه الناس به:”إنّ هذا الاسم لم يقع في الجاهلية والإسلام إلا على فارس مذكور، أو ملك مشهور، أو سيد مطاع، أو رئيس متبوع، أمثال عمرو بن هاشم (جد النبي صلى الله عليه وسلم) وعمرو بن سعيد الأكبر، وعمرو بن العاص، وعمرو بن معْدِ يكرِب”.

ويرى الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي أنّ”الجاحظ ينحدر من أصل عربي صريح خالص، ومن بيت كريم المحتد، عظيم المنزلة في الجاهلية والإسلام”. وفند ترهات الشعوبيين التي زعمت أن الجاحظ مدخول النسب، وموصوم الحسب، وليس هو من أعيان الفضل وأقطاب الفخر. وأنه مولى لأن جده فزارة الحالك اللون كان مولى لأبي القلس عمرو بن قلع الكناني الفقيمي، واستندوا في ذلك إلي رواية منحولة، تروى عن يموت بن المزرع البصري (ت 204) ، وهي:”كان فزارة جد الجاحظ أسود اللون، وكان جمالاً لعمرو بن قلع”. والرأي الراجح أن أبا عثمان ليس من أقذاء الناس وحُثالتهم، أو أنه إنسان رخيص النبعة، خبيث المنبت، لسواد بشرته كما يزعم الشعوبيين فالسود والبيض يرجعان إلي محتد واحد وتربطهم بأبي البشر أواصر رحم ووشائج قربى، بل كان”عربي الدم والنسب، لأنه كرس جهده وحياته لخدمة العرب والعربية، وتزعّم أكبر حركة قامت في وجه الشعوبية حتى هدمتها أو قضت عليها، فهو رجل يغلي في عروقه الدم العربي الذكي، وتفور في نفسه العزة العربية الصميمة”. ولعل الجاحظ الذي هتك بعقله المتقد أسرار النفس البشرية، وسبر بحصاته أغوار الطبيعة لو لم يكن أثيل المنبت في أرومة العرب لنزع منزع الشعوبيين ولزم غرسهم، بل لو لم يكن قد درج من مهد السيادة، وتقلد ذروة الشرف كابر عن كابر، لغمز معاصروه قناته ورموه بالرق وخبث العنصر. والذين أيدوا “عروبة الجاحظ أبو زيد البلخي(ت322هـ)، وابن حزم (ت456هـ)”.

كان الجاحظ”قصير القامة، صغير الرأس، دقيق العنق، صغير الأذنين، أسود اللون، جاحظ العينين، مشوه الخلقة، مما جعل الخليفة العباسي المتوكل يصرفه عن تأديب ولده حين رآه وأعطاه عشرة آلاف درهم”. كما أجمع كل من أكبّ على دراسة كتب الجاحظ ومحصّها وكشف مزاياها أن الجاحظ كان مفطوراً على خفة الظل وحب الدعابة التي يجود بها في أحلك الظروف والمواطن، ونكات الجاحظ التي تبسم الثغر الحزين، وتشرق الوجه الشاحب، وتبسط المحيا الكئيب، نبعت من قبحه فالمرء”عندما يجد في نفسه عيباً يعمد إلي أحد طريقين:إما التستر على هذا العيب وإخفاؤه عن أعين الناس إذا كان ذلك ممكناً، وإما المبادرة إلي تعرية هذا العيب والهزء به ليسبق الناس إلي السخرية وليقطع عليهم طريقها. وقد آثر الجاحظ الطريق الثاني لأنه يتلائم مع وضعه باعتبار أن عيبه جسمي لا يمكن التستر عليه”. وقد تهكم الجاحظ من بشاعة صورته وتندر من قبح خلقته فقال عن نفسه:”ما اخجلني إلا امرأتان:رأيت احداهما في العسكر-مكان في سامرّا وكان مصيفاً للخلفاء العباسين- وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام. فاردت أن امازحها، فقلت:انزلي كلي معنا، فقالت:اصعد أنت حتى ترى الدنيا،(معرضة بقصره). وأما الأخرى فإنها أتتني، وأنا على باب داري، فقالت:لي إليك حاجة وأنا اريد أن تمشي معي، فقمت معها إلي أن أتت بي صائغ يهودي، فقالت له :مثلُ هذا ثم انصرفت، فسألت الصائغ عن قولها، فقال:انها أتت إليّ بفصّ وأمرتني أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت:يا سيدتي ما رأيت الشيطان،فأتت بك”.

2-مولده ونشأته:

ولد الأديب الأريب الذي كانت لا تعزب عنه مادة في اللغة، ولا قاعدة في النحو،ولا نكتة في البلاغة بمدينة البصرة، ونشأ في كنف الملق، وفناء الفاقة فلقد كان سليل أسرة من غمار الأسر التي اتسمت برقة الحال، وضيق ذات اليد، أحوجتها الخصاصة ، ودعاها الإقتار لأن يبيع فتاهم الغض السمك والخبز بسيحان وهو نهر صغير بالبصرة حتى تجد الأسرة ما يدفع عنهم غائلة الغرث. وتضاربت الآراء حول سنة مولد الجاحظ فقيل”سنة 150هـ، وقيل سنة 159هـ، وقيل سنة 160هـ وإذا صحّ ما يرويه هو عن نفسه يتعين ميلاده أولها، فقد أُثر عنه أنه قال:”أنا أسن من أبي نواس بسنة ولدت في أول سنة 150هـ وولد في آخرها، وإن كانت ولادته على وجه التحقيق، في العقد السادس من القرن الثاني من الهجرة.

أما أبوه:فلا يعرف عنه شئ إلاّ اسمه، وهذا يؤكد أنه لم يكن من عِلّية القوم، ولا من متوسطيهم ويرجح أنه مات قبل أن ينضج ابنه الجاحظ ويذيع صيته، وإلاّ للحقه شيء من شهرته. وأما أمه:فلا يعرف عنها إلاّ أنها كانت فقيرة رقيقة الحال، وكانت تنفق عليه وهو صغير، مما اضطره إلي كسب قوته ومواجهة أعباء الحياة مبكراً فباع الخبز والسمك في صباه”. والجاحظ منذ أن كان يميس في معية الصبا وحداثة السن شغوف بالعلم، ولا يتهاون في الأخذ بأسبابه وتكلف بوادره، وذلك بمداعبة أغصان أسفاره الغضة، وأوراق كتبه البضة متى ما سنحت له الفرصة، ولعل خير دليل نسوقه لصحة هذا الزعم دكاكين الوراقين التي كان يكتريها ليلاً ويبيت فيها للنظر ومطالعة ما حوته من درر وفوائد، وتردده على تلك الحلقات العامرة التي كانت تعقد في مساجد البصرة التي تدرس فيها العبر، ويتبلور فيها الفكر، تلك المروج التي تغشاها جحافل الفقراء بغية البعد عن وصمة الجهل واستجلاءً لصور العلم واستنباطاً لمعانيه، كما كان كثيراً “ما يذهب إلي المربد- وهو مكان بظاهر البصرة تفد إليه الأعراب من البوادي للتجارة وتبادل السلع –يتلقي اللغة والفصاحة مشافهة من الأعراب”. ووله الجاحظ بالعلم وتدلهه بتعقب رياضه وأفنانه كان يثير امتعاض أم الجاحظ التي كان تشرئب لأن ينصرف ابنها “بكليته إلي التجارة ولا يضيع عليه وقتاً ثميناً في الدراسة، فجاءته يوماً، بطبق كراريس، بدل الغذاء، فقال لها متعجباً:ما هذا؟ قالت:الذي تجيء به، فخرج مغتماً، وجلس في الجامع وموسى ابن عمران جالس، فلما رآه مغتماً، قال له:ما شأنك؟فحدثه الحديث،فادخله المنزل، وقرّب إليه الطعام، وأعطاه خمسين ديناراً، فدخل السوق، واشترى الدقيق وغيره، وحمله الحمالون إلي داره، فأنكرت الأم ذلك، وقالت:من أين لك هذا؟قال:من الكراريس التي قدمتها إليّ”.

3-ثقافة الجاحظ وشيوخه:

التحق الجاحظ في حداثة سنة بأحد كتاتيب البصرة حيث أجاد القراءة والكتابة، كما كان يتردد على المساجد ويحرص على حضور مجالس العلم حرص العابد المتحنث على أداء صلواته، و”بدافع الرغبة في العلم، والطموح إلي مستقبل كريم بسببه والتعويض عن اليتم الذي هاض جناحه، أقبل الطفل الصغير بكل قلبه وجوارحه على العلم والدرس والقراءة، موفور الموهبة، تام الملكة، وأخذ يتردد على حلقات العلم في مسجد البصرة الجامع، ويتلقى الفصاحة شفاهاً على العرب في المربد ويستمع من القصاص إلي أحداث الفتوح وسير الغزاة وأطوار الزهاد والناسكين”. لم يكد يشتد عوده وتظهر عليه غلواء الشباب حتى بانت عليه دلائل النبوغ وعلامات الفطنة، ولقد تتلمذ الجاحظ على يد أساتذة أجلاء كانوا غرة دهرهم، وآية عصرهم على شاكلة”الأصمعي الذي كان يحفظ ثلث اللغة، وأبو عبيدة معمر بن المثنى الذي لم يكن في الأرض خارجي ولا جمّاعي أعلم بجميع العلوم منه، وأبو زيد الأنصاري الذي قيل عنه وعن سابقيه إن هولاء الثلاثة كانوا-في عصرهم-أئمة الناس في اللغة، والشعر، وعلوم العرب، لم ير قبلهم ولا بعدهم مثلهم، عنهم أخذ جُلُّ ما في أيدي الناس من هذا العلم بل كله. كما تتلمذ الجاحظ على يد الأخفش أبو الحسن سعيد بن مسعد المجاشي الذي كان أعلم الناس بالنحو والصرف، وصالح بن جناح اللخمي الذي أدرك التابعين وكلامه مستفاد في الحكمة، وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي ا المشهور ((بالنظام)) أحد أبرز أئمة المعتزلة والذي الذي نهل منه علوم الكلام، وكان في جملة ما يحفظه الإنجيل والتوراة والزبور وتفسيرها، عدا الشعر والأدب والغريب”.

ومن أساتذة الجاحظ أيضاً موسى بن سيار الأسواري الذي قال عنه الجاحظ:”إنه كان من أعاجيب الدنيا، وكانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فييقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله، ويفسرها للعرب بالعربية ثمّ يحول وجهه إلي الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار الاسواري ولم يكن في هذه الأمة بعد أبي موسى الأشعري أقرا في محراب من موسى بن سيار”. ولم يقتصر الجاحظ على هؤلاء فقط، بل كان يتردد على “ندوات الشعر ومجالس الأدباء، يأخذ عنهم، ويجالسهم، ويناقشهم في البلاغة والأدب والشعر واللغة وك ضروب المعرفة، تساعده على ذلك موهبته الأصلية، وحافظته القوية، وذكاؤه المتوقد، وأمده طموحه وفقره بالمثابرة والقوة والتحصيل، كما كان للأحداث في عصره، وتطور الحياة والحضارة، ولحركة الترجمة أثر في ثقافته وعقليته”. كما كان للجاحظ منبع آخر تلمس فيه طريقه إلي العلم الذي بلغ ذروته حتى هتف باسمه كل أديب، وترنم بحرفه كل فنان، كان الجاحظ راسخ القدم في القراءة، عالي المنزلة في الاطلاع الأمر الذي هيأ له أن يقرأ كل كتاب وقع في يده من أوله إلي آخره، “ومنبع آخر من ثقافته، يستخدمه الجاحظ أحسن استخدام وأدقه وأوسعه، ولا أعلم له في ذلك نظيراً ممن قبله أو عاصره،ذلك أنه انغمس في الحياة الواقعية، واستفاد منها ما أمكنه، وجعل منها موضوعات لأدبه”.

4-خصال الجاحظ وأخلاقه:

كان الجاحظ لا يقول إلا عن علم، ولا يفكر إلا على هدى وبصيرة، ولقد تبدى هذا في ما جرى به قلمه الذي يفتقر الأدباء دائماً إليه، ويعتمدون مطلقاً عليه، فلقد انتجع جهابذة الأدب واللغة مؤلفاته كما ينتجع البدو منابت الكلأ ومساقط الغيث، لأن في الإتكاء على جدران تلك المؤلفات تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب. ولعل مؤلفات الجاحظ وآثاره تكشف عن جلاء عقله المتقد الذي جاءت كتاباته شاهدة عليه فلقد كان الجاحظ حاد الذهن، مُلتهِبُ الذكاء، كما كان قوي الحافظة، صلد الذاكرة، مُفحم الحجة، ساطعة البرهان،كما أن من يقترب من مؤلفات الجاحظ أو يسبر غورها يرى تلك النزعة الفطرية”إلي التهكم والضحك فقد ساعدته هذه النزعة على التغلب على مصاعب كثيرة اعترضته في الحياة. فهو ما كان ينظر إلي هذه الحياة من زاوية سوداء فيرى العبوس سائداً فيها فيجنح إلي التشاؤم بالعيش والتبرم بالناس. بل على العكس كان ينظر إليها من زاوية وضاءة تشيع التفاؤل حولها فيقدم على عمله والأمل ملء صدره بالنجاح”.

كان الجاحظ ضنينا بوقته لا يهدره سدى، ولا يبدده إلا فيما يدر دخله عليه، بعيداً كل البعد عن الفوضى، ويحب النظام في الجملة، كما كان محمود الشمائل، أريحيُّ الطباع لعترته وخلانه، وقد تأخذه أريحية الكرم فيعطي عن سخاء المال الذي ادخره لأيام الشدة والعنت حتى تعوزه النفقة، ويلوب على الناض يرتفق به، كما كان يربأ بنفسه عن مواطن الذل، ويتجافى بها عن مطارح الهوان، و”ما كان الجاحظ بالمتزمت ولا بالمتنسك، قام بما فرض الإسلام عليه من الفروض والواجبات، وصرف ساعات عمره فيما يرفع من شأن المسلمين، دعاهم إلي الحياة الفاضلة، وحبب إليهم دينهم ودنياهم، ليستقيموا أمة عزيزة فضلة في أخلاقها. وكان يرى سعادة أصحاب السلطان وأصحاب الثروة تزول بزوال أربابها، أو بما يعرض لها من أسباب الفناء، وأن العمل الصالح هو الأثر الذي يظل على الأيام، ولذلك كان يتقن عمله، ولا يتوخى منه إلا ما يجدي في الحياة والميعاد”.

ومن خصال الجاحظ أيضاً العصامية التي أهلته لنيل تلك المنزلة الرفيعة من نباهة الذكر، وشيوع الصيت، منزلة جعلت الشريف والوضيع يتمنى أن يجلس إليه، أو أن يأخذ عنه، أو ينتسب إليه، فالجاحظ منذ أن كان فتاً غضاً لم يعتمد إلا على نفسه، ولم يكل أمره إلي غيره، الأمر الذي قاده إلي بغض الوساطة وكراهية المحاباة، وتناوله بالعيب والزراية كل من يجشمه العناء في الخوض في أمر يجعله يميد من الغضب ويتفجر من الغيظ، يقول الجاحظ:”سألني بعضُهم كتاباً بالوصية إلي بعض أصحابي، فكتبت له رقعة وختمتها، فلمّا خرج الرجل من عندي فضها، فإذا فيها(كتابي إليك مع من لا أعرفه ولا أوجب حقه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذمك”.

لقد كان الجاحظ رغم الشهرة والمجد متجاف عن مقاعد الكبر، وناء بنفسه عن مذاهب الكبر،و”تراه وهو العربي القح في جميع منازعه، لم تستهوه حكمة اليونان والهند وفارس، وما امتلكت قلبه غير حكمة العرب، وهدايتهم وأدبهم، ومع هذا يأخذ ممن سبق ولحق، وعمن وافق وخالف؛ لا ينبو نظره عن شيء، ولا تُرذل نفسه حقيراً. ولم تورثه شهرته العلمية زهواً وغروراً، ولا يتكلف التواضع ولا التخاشع، وبغيته الكبرى أن يرفق بالضعاف حتى يقووا، وبالجهلاء حتى يتعلموا؛ يُحاسن الكبراء من دون إسفاف، ويتجنب مخاشنتهم تفادياً من شرهم وعتوهم، ويحلم عن الأشرار طبعاً وتطبعاً”.

5-مرضه ووفاته:

عاش الجاحظ ما يربو على التسعين عاماً، قضاها في التحصيل وتأليف تلك الجياد المطهمة العتاق التي تزدان بها المكتبات وحوايا العلم، تلك الدررالتي يتهالك على جمعها طلاب النفائس، ويتنافس في اقتنائها مهووسي المعرفة، ومما يند عن ذهن ويغيب عن خاطر أنّ حياة الجاحظ لم تقتصر على الفقر المدقع، والطعام الوخيم، والفراش النابي، بل تغيرت في نمط العيش ورونق المظهر، فلقد كفل العلم للجاحظ أن ينتقل من التراب إلي السحاب، ويغادر الفقر والفاقة التي نشأ في مهدها الخشن، ودرج في فنائها الضيق، وعاش في مرعاها الجديب، وأمسى جليساً للخلفاء الذين يجتمع على سماطهم علية القوم ووجهاء الدولة، وظل الجاحظ يتنقل بين بسط المروج وأفنان الخمائل، يتسابق الملوك إلي وده، ويتنافس الوزراء في رضاه، حتى داهمه المرض، واستفحل حتى استيأس منه الطبيب، فقد أصيب أبو عثمان الجاحظ “بالفالج، فاعتزل الناس، إلا أقلّهم، وبرم بحظه. وفي تلك السنين العصيبة، التي قضاها في البصرة، كان القلم رفيقه الدائم يستعينه على مُصابه وعلى جحود خلانه. وقد تحدث عن عجزه المضني في توطئة كتابه ((الحيوان))، معتذراً عن اضطراب بعض فصوله فقال:”وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه، أولى ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب”. ويروى أن أبو معاذ عبدان الخولي الطبيب قد دخل يوماً (بسر من رأى) على عمرو بن بحر الجاحظ يعوده وقد فلج، فلما أخذ مجلسه أتى رسول المتوكل ينشد الجاحظ فقال:”وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل ولعاب سائل، ثم أقبل علينا فقال>ك ما تقولون في رجل له شقان أحدهما لو غرز بالمسال ما أحس والشق الآخر يمر به الذباب فيغوث وأكثر ما أشكوه الثمانون، ثم أنشدنا أبياتاً من قصيدة عوف بن محلم الخزاعي”. التي مطلعها:

يا ابن الذي دان له المشرقان طـرا وقد دان له المغربــان

إن الثمانين وبــلغتهـا وقد أحوجت سمعي إلي ترجمان

كما حدث يموت بن المزرع الذي يمت للجاحظ بقرابة بأن المتوكل قد وجه في السنة التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة فقال لمن أراد حمله:وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذي شق مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل حائل؟ وحدث المبرد تلميذ الجاحظ بأنه قد دخل على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له:كيف أنت؟ فقال:كيف يكون من نصفه مفلوج لو حز بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس، لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأشد من ذلك ستة وتسعون أنا فيها، ثم أنشدنا

أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت أيام الشباب؟

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب

وقال لمتطبب يشكو إليه علته:اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي”. وظل الجاحظ يتحامل على نفسه ويغالب المرض ويفر من جحيمه وويلاته بزمهرير الكتابة التي لم ينقطع عنها طوال مدة وصبه وشكاته، الأمر الذي يدل “على أنه كان على جانب عظيم من قوة البنية، وشدة الأسر، ومتانة الأعصاب، وحضور الذهن، وقوة العقل”. وقضى الجاحظ نحبه في يوم من أيام شهر محرم سنة 255هـ حينما زحف وحيداً إلي مكتبته المكتظة بالكتب المكدسة فانهالت مجلداتها الضخمة عليه، و”كان من عادته أن يضعها قائمة، كالحائط محيطة به وهو جالس إليها”.

وشيعت البصرة التي استسلمت للعبرة، واسترسلت في البكاء، جثمان الجاحظ الذي أضمرته أرضها، وبقى ذكره الذي يجري على كل لسان، وأدبه الذي يأسر كل نفس.

الفصل الثالث:أسلوب الجاحظ وسخريته:

1-مؤلفات الجاحظ:

إن قلم الجاحظ الذي عالج كل أمر، وابتغى كل معنى، قد سطر العديد من الرسائل التي زججت حاجبيها، وصفقت شعرها، وفتنت بتفردها، القلوب الوالهة، والنفوس العاشقة، رسائل لم تغوص بشاشة وجهها، ولم يتهضم جانبها رغم كُرور الأيام، وتعاقب الحدثان، ولعل السر في ذلك يعود إلي الصفات التي اجتمعت في مبتدعها الجاحظ، تلك الصفات”التي لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كل أحد:بالطبع، والمنشأ، والعلم، والعادة، والعمر، والفراغ، والعشق، والمنافسة، والبلوغ، وهذه مفاتيح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد”. هذه الصفات برمتها أدت في نهاية المطاف بالجاحظ “إلي أن يكون إمام كُتاب العربية بلا منازع، حتى قال في حقه المسعودي:”ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتباً منه”.

ومؤلفات الجاحظ التي اتسقت عباراتها، وانتظمت ألفاظها تكاد تربو على الحصر، لأن صاحبها كان صاحب ساعد جدول، وعضل مفتول، وعقل موسوعي أحكمته التجارب، وهذبته المعرفة، لم يدع باباً إلاّ ولجه، ولا بحثاً، إلا صال وجال فيه، عقل إذا أراد أن يتخصص في ضرب من ضروب المعرفة لتعذر عليه ذلك، لغزارة المعلومات التي يختزنها في حافظته، ولاستقرائه الدقيق، وإطلاعه الشامل. ولتفتق قريحة الجاحظ، واتساع عقله الجبار،”كتب في جميع الفنون والآداب، قيل لـ ((أبي العيناء)):”ليت شعري، أي شيء كان الجاحظ يحسن؟ فقال:ليت شعري، أي شيء كان الجاحظ لا يحسن؟”. ولقد أكثر الجاحظ من التأليف، حتى قيل: إنه بزّ من سبقه، ومن لحقه، ولعل اكثاره من التأليف يعود لامتداد عمره، ولقضائه شطراً من حياته مريضاً،فاضطر إلي ملازمة بيته، وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. وربما كان سوء منظره سبباً في انصراف الناس عنه، فعنى بصناعة الكتب، ليعرفوا أن وراء هذا الوجه المشوه نفساً جميلة، وروحاً فكهة، وذهناً وقّاداً.

ومدونات الجاحظ التي ترمقها كل عين، وتشرئب إليها كل عنق، والتي يعتبرها كل أديب أريب أغلى من أقبية الديباج المخوص بالذهب، هاضتها عوادي الزمان، ومزقتها طوارق الحدثان، فضاع جلها، وبقى النذر القليل منها، وقد ذكر الدكتور الذي لم تصده عاهتة عن طلب العلوم طه حسين:”أنّ الجاحظ قد خلّف للعلم والأدب العربي أكثر من خمسين ومائتي كتاب، طُبِعَ منها بعض الكتب، وأشهرها البيان والتبيين، والحيوان، وكتاب البخلاء، ومجموع رسائله”.

والحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أن جهابذة العلماء على شاكلة بن النديم، وياقوت الحموي، وغيرهم من الغطاريف قد اختلفوا في جواهر الجاحظ التي لا تخلق ديباجتها ويخبو بريقها، و”أياً كان العدد الصحيح لكتب الجاحظ، ومؤلفاته، فإن حصر العدد في حد ذاته لا يهمنا في شيء، بقدر ما يهمنا أن الرجل كان غزير العطاء، عميق الفكر، محباً للقراءة والإطلاع والكتابة منذ صغره وحداثة سنه، إلا أن هذا اللبس في حصر كتاباته يرجع إليه نفسه، إذ كان ينسبها إلي مشاهؤر الكتاب في عصره، أو في العصر الذي سبقه. وذلك من أمثال:”ابن المقفع، والخليل، ومسلم صاحب بيت الحكمة، ويحي بن خالد”، وما ذلك إلاّ لكي تشتهر كتاباته وتنتشر، ويتقبلها القراء لمعرفتهم بمؤلفيها.لأجل ذلك ضاعت معظم مؤلفاته، وانتسب الكثير منها إلي غيره، ولم يبقى إلا القليل منها”.

2-أسلوب الجاحظ:

الأسلوب الذي انتهجه الجاحظ، أسلوب يزاوج بين الجد والهزل، لأن الجاحظ عالم بمكنون النفس البشرية التي يخامرها السأم والكلال من مطالعة الكتب التي تتسم مادتها بالجد والجفاف أو تسير وتيرتها على نسق واحد، فكان الجاحظ استجماماً للنفس، ودفعاً لأي شعور بالرتابة يخلط الجد بالفكاهة، وفي ذلك يقول:”أنَّي أوشّح هذا الكتاب وأفصّلُ أبوابه بنوادر من ضروب الشعر وضروب الأحاديث ليخرج قارئُ هذا الكتاب من باب إلي باب، ومن شكل إلي شكل، فإنّي رأيتُ الأسماع تملُّ الأصوات المطربة، والأغاني الحسنة، والأوتار الفصيحة، إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلاّ في طريق الراحة التي إذا طالت أورثت الغفلة”. والجاحظ تميز أسلوبه أيضاً بوضوح العبارة، وبساطة العرض، فقد تنزهت مؤلفاته عن التعقيد والإشكال، كما بعدت عن الحشو، والركاكة، والتعسف، فمصنفاته الموشية بذكائه اللماح، وعبقريته الفذة، وثقافته الواسعة، يمكن أن يدرك كنهها، ويحيط ببواطنها، البسيط الساذج، ومن استبطن دخائل العلم، واستجلى غوامضه، وذلك بالطبع قبل أن تتراجع العقول، وتجهد القرائح، وتقهر العامية الفصحى، ويتفشى الدخيل في اللغة التي حوت كتاب الله صوناً وحفظا.

وعلاوة على ذلك كان الجاحظ”يميل إلي تقطيع العبارة، وجعلها جُملاً قصاراً متعادلة، ويكثر من الجمل المترادفة، إقراراً للمعنى في النفوس. وهو ليستطرد إلي ما له صلة بالموضوع، من لذيذ الأخبار، وطريف الأحاديث، وومتع النوادر، تنشيطاً للقارئ، وترفيهاً عن نفسه، وذلك أظهر في كتبه المطولة ((الحيوان))”. كما أن أسلوب الجاحظ الذي أطنب في تحقير الشعوبية والزراية عليها، أسلوب يصور الحياة بألوان صاخبة من الشعر العذب الذي يؤنس مطالعيه بوجهه المتهلل، والحكمة التي يختلس أسبابها، ويمتهن أربابها، بفضل المقدرة، ورجاحة العقل، وسعة المعرفة، أسلوب”يصور خلجات الروح، وآهات النفس، وأزمات العقل، ويرسم لك المحسوسات كأنك تحسها، ويصف لك المعلوم والمجهول، ويعرض عليك المعقول والمنقول، أسلوب سجّل المفاخر والمعاير، وحمل إلي أبناء القرون اللاحقة أفانين من أدب-كاتبه-جمّلها بروح الحق وسحر الجمال”.

ولكن الجاحظ صاحب أنضر المعاني، وأرقّ الألفاظ، والذي لم يزف بعد شخوص مجده، وأفول أدبه، لأن كُتاب العربية أفرطوا في لزوم غرسه، وأوغلوا في ارتقاء جبله الأشم بمناكبهم الهشة، وعزيمتهم الماضية التي يحدوها الأمل أن تنال النذر القليل مما ناله أمير البيان العربي وشيخ النقاد، الجاحظ الذي كلنا له المدح جزافا بسط طلابه الذين هم بأجمعهم عيال عليه، ألسنتهم في مصنفاته التي منحت الحياة خصوبة وغني، وتحدثوا عن عيوبه رغم ما له من جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، وأبانوا بأن مآخذ الجاحظ تتمثل في”الفوضى في سرد الأفكار أو الاختبارات العلمية، فلا تنسيق في كتاباته ولا تصميم، ولا تسلسل منطقي، وقد تكون أسمى ميزات العالم ميزة الترتيب والتنسيق والانضباط الأسلوبي، وهذه أمور بعيدة كل البعد عن صاحبنا، وهي إذا أسبغت على القضايا الأدبية شيئاً من الطرافة، إذ تبدد الملل في قضائها على الرتابة عن طريق الخلط بين الجد والهزل، فإنها في مضمار العلم تشوش الذهن، وتقضي على التركيز، حجر الزاوية، في التحقيق العلمي”.

3- الغاية من الضحك في أدبيات الجاحظ:

الجاحظ رغم حياة الضنك والشدة التي عاشها في حياته، إلا أنه دعا إلي الضحك واقتناص أسبابه، وتكلف بوادره، ومما لا يند عن ذهن أو يلتوي على خاطر أن كتبه التي عضت الدهر بناب مسموم، وصاولته بمخلب قاتل، حتى تبقى على وجه الأديم، حافلة بالطرائف والقصص التي تضحك من استسلم للعبرة، واستخرط في البكاء ، والجاحظ لا يرى غضاضة في الضحك من أجل التسرية عن النفس، وإضفاء جو من التفاؤل والانبساط على وتيرة الحياة التي يعاني قاطنيها الغلاء المرهق، والفقر المدقع، والمرض المزمن، والهلع الذي تنخلع له القلوب، وتضطرب له الحواس، والحزن الذي لا يبارح شغاف الأفئدة، فقال:”ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك، وقبيحاً من المضحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلى والقصر المبني:كأنه يضحك ضحكاً، وقد قال الله عزّ وجلّ {وأنه أضحك وأبكى، وأنه أمات وأحيا}النجم:43،44. فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت، وأنه لا يضيف الله إلي نفسه القبيح، ولا يمنّ على خلقه بالنقص، وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع، وي أساس التركيب، لأن الضحك أول شيء يظهر من الصبي، وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه، الذي هو علة سروره، ومادة قوته، ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمي أولادها بالضحاك وببسام، وبطلق وبطليق، وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وفرح، وضحك الصالحون وفرحوا، وإذا مدحوا قالوا:هو ضحوك السن، وبسّام العشيات، وهش إلي الضيف، وذو اريحية واهتزاز، وإذا ذموا قالوا:هو عبوس، وهو كالح، وهو قطوب، وهو شتيم المحيا، وهو مكفهر أبداً، وهو كريه، ومقبض الوجه، وكأنما وجهه بالخل منضوح”.

ولكن الجاحظ لا يدعو للغلو في الضحك، والإمعان فيه، الذهاب به كل مذهب، وذلك لأن”يمنع الشهوة ويورث الصدود”. بل يدعو للضحك الذي يملأ النفس بالغطبة، والجوارح بالسرور، والجاحظ ديدنه في الكتابة أن يرفع الملل عن قارئه، ويستدر نشاطه بإيراد تلك النكات والنوادر التي تجعله يذوب في حميا اللهو، وينداح مع سكرة القهقهة، فيعاود القراءة بهمة ماضية، وعزم أكيد، يقول الجاحظ في صدر حديثه عن الجد والهزل:”خلطت لك جداً بهزل، وقرنتُ لك حجّة بمُلْحة، لتخِفّ مئونة الكتاب على القارئ، وليزيد ذلك في نشاط المستمع، فجعلت الهزل بعد الجد جماماً، والملحة بعد الحجّة مستراحاً”. والجاحظ الذي خلع على الضحك أوسمة التبجيل، وأوصله إلي ذروة السعادة التي تبتغيها كل نفس، ويتلهف لنيلها كل فؤاد، يراه الجاحظ ضرورياً للترويح عن مشاكل الحياة وهمومها التي لا تنجلي أبداً، لذلك نجده يرى”أن الجِدّ نصب، والمزح جِمام، والجد مبغضة، والمزح محبة، وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه، وصاحب المزح في رخاء إلي حين يخرج منه، والجد مؤلم، وربما عرّضك لأشد منه، والمزح ملذّ، وربما عرضك لألذّ منه، فقد شاركه في التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر. وإنا تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا، وكدوا لستريحوا، وإن كان المزاح إنما صار معيباً، والهزل مذموماً، لأن صاحبه لا يكون إلا معرضاً لمجاوزة الحد، ومخاطراً بمودة الصديق”.

وفنّد الجاحظ أن الإسلام حرّم المزاح، ودعا للكآبة والعبوس، فقال:”من حرّم المزاح، وهو شُعبة من شعب السهولة، وفرع من فروع الطلاقة، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحاء، ولم يأتينا بالانقباض والقسوة، وأمرنا بإفشاء السلام، والبشر عند الملاقاة، وأمرنا بالتوادد والتصافح والتهادي”.

4-نماذج من سخرية الجاحظ وتهكمه:

وطرائف الجاحظ وملحه التي تملأ شعاب القلب بالفرح والاستبشار،كثيرة لا تحصى، ولقد وضع في ذلك الكتب الخالدة خلود النفس البشرية إلي أن يأتي الله على هذه الدنيا الفانية، كتب تبرهن على أن الجاحظ قائد زمام هذا الجنس من الأدب الذي تفرد فيه، وعلا فيه كعبه، فكتاب البخلاء الذي وضعه يعتبر تحفة فنية خالصة لأن “البراعة الأدبية التي صاغ بها الجاحظ كتابه، والمقدرة الفنية التي ترقرقت فيه، وسرت في موضوعاته أسلوباً وغاية جعلته المتفرد في هذا المجال الذي لم يسبق إليه من قبل”. فلقد تصدى الجاحظ لهذا الموضوع الذي كان يأتي نتفاً وبصورة عفوية في مؤلفات السابقين خالية من عامل الإبداع والتشويق، ومفتقرة لاستبطان دخائل النفوس، وإبراز خصائص المجتمع. تحدث الجاحظ بإسهاب عن الصور السالبة التي كانت سائدة في مجتمعه والتي كانت تثير مكامن نفسه، وتلهب حشاشته، وتجعله يغلي من الغيظ، ويفور من الغضب، ولكن أياً من هذه المشاعر الهادرة لم تبن في سفر الجاحظ الذي ظلّ كرصفائه حياً لم يعتريه الموت، والعلة في ذلك أن السخرية مؤثلة في طبع الجاحظ، تسري في شرايينه، وينبض بها قلبه، وإن كانت سخريته مثال رفيع لسخرية الذهن الدقيق الذي يعكف على تصوير مثالب المجتمع، ويعمل على وأد كل قالةُ سيئة تقلد مجتمعه قلائد الخزي والعار.

إنّ سخرية الجاحظ”متصلة بطبيعته المرحة وفنه، وبموقفه من الحياة وهو موقف التوجيه والنقد، فالسخرية عنده لم تقم على عاطفة شخصية عارضة كما تبدو عند من سبقه، ولم تقم على الهجاء الممض، ولا الشتم المقذع، وإنما هي راجعة إلي طبيعته ومزاجه”. إذن الجاحظ استمد أيدلوجيته في السخرية والتهكم من فطرته التي فطره الله عليها، ولعل خير مثال يؤكد صحة ما ذهبت إليه، أنّ الجاحظ كان يروي سخرية الناس منه وتندرهم بدمامته، وقبح صورته، دون أن يتنزى صدره من الغضب والحنق، ققد قال عن نفسه”إنه وصف للخليفة المتوكل لتأديب أحد أولاده، فلما رأى صورته استبشعها فصرفه. وأنه اشترى له جارية تركية جميلة، رجاء أن يرزق منها ولداً بحسنها وذكائه، فولدت له ولداً جاء بقبحه وجهلها. ومن نوادره أنه سُمع يقول:رايت جارية في سوق النخاسين ببغداد يُنادى عليها، فدنوت منها وجعلت أُقلّبها، فقلت لها:ما اسمك؟ قالت:مكة.قلت الله أكبر قد قرب الحج، أتأذنين أن أقبل الحجر الأسود. قالت:إليك عني، ألم تسمع الله يقول:{لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس}النحل:7. “

والجاحظ الذي تشبعت حياته بعبق الدعابة، وأنفاس المرح، كان يجود بالطرفة في أريحية ووداعة، ويسخر ممن يعرفه ومن لا يعرفه، بسبب وبغير سبب، ثم لا يجد في نفسه مضّاً ولا غضاضة في رواية تلك الأجوبة المفحمة التي أذهلوه بها، يقول الجاحظ -أسبغ الله على قبره شآبيب رحمته-:”كنت مجتازاً ببعض الطرقات، فإذا أنا بامرأتين، وكنت راكباً على حمارة، فضرطت الحمارة، فقالت إحداهما للأخرى: وي. حمارة الشيخ تضرط، فغاظني قولها، فاحتديت، ثم قلت لها: إنه ما حملتني أنثى قط إلا وضرطت. فضربت يدها على كتف الأخرى، وقالت: كانت أم هذا منه تسعة أشهر على جهد جهيد”.

وحدث وأن صنف كتاباً من كتبه التي تلقح الفكر، وتشحذ الخاطر، وبوّب ذلك الكتاب، “وبثه في الناس، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: ياهذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صورت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما، صلم الله أذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك. حتى عدّ أعضاء الصورة”. ولعل قدرته الفائقة في ترويض القلم في السخرية من كل من سامه بخسف أو تعرض له بهوان، جعلته صاحب عزة قعساء، لا يتهضم جانبه، ولا يُستباح ذماره، فلسانه الذي كان يناوش الدهر، ويصاول الزمان، أخرس الألسنة الهازلة، والأنفس الهازئة، قيل لأبي هفان”لم لا تهجو الجاحظ، وقد ندد بك، وأخذ بمخنقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله، لو وضع رسالة في أرنبة أنفي، لما أمست إلاّ بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت، لما طن منها بيت في ألف سنة”.

لقد كان الجاحظ ينذر من يصاوله بأفدح الخطوب، ولقد برهنت رسالته الموسومة بالتربيع والتدوير، أنه ليس بضعيف المغمز، ولا هش الحشاشة، ففي تلك الرسالة التي تعد نموذجاً صارخاً على شدة عارضته، وتمكنه من أن يجهز على كل من تسول له نفسه أن يغمز قناته، أو يوطأ حماه، نجده في تلك الرسالة التي وضعها في هجاء أحمد بن عبدالوهاب، قد امتشق يراعه الصارم وضمخه في ازدراء خصمه الذي جرده من كل مكرمة، وفضح جهله وادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها، “في هذه الرسالة الفريدة التي يتنادر بها أبو عثمان على مهجوّه يطرح عليه قصد تعجيزه ومعاياته مائة مسألة تناولت معظم المعضلات العلمية التي شغلت مجتمع عصره من تاريخ، إلي فلسفة، إلي كيمياء، إلي لاهوت، إلي حيوان، إلي نبات… والمعضلات التي يذكرها الجاحظ في أسئلته المحرجة لا يحلها طبعاً في هذه الرسالة القصيرة، بل يحيل مُناظره، في كل مسألة، إلي كتاب معين من كتبه”.

خاتمة:

الجاحظ أديب العربية الذي لا يجري معه أحد في عنان، عاش عمره الذي ناهز المائة عاكفاً على الآداب والعلوم التي هيأت لذكره فيما بعد أن يضطرب في الأرجاء، ولاسمه أن تتداوله الألسنة، كابد الجاحظ غصص الحرمان، وعاش طفولة بائسة أودعت في بواكير حياته قيماً سامية مكنّت مسيرة حياته التي اختلفت عليها أحواله قبضاً وبسطاً، وخفضاً ورفعاً، أن تطوي المراحل غير ظلعاء ولا وانية، ولعل استقرائه الدقيق، وإطلاعه الشامل، وحرصه على وقته الذي يضاهي حرص الشحيح على ماله، كفل له أن ينداح في كل علم، ويستفيض في كل حديث، ومؤلفاته التي تفوق الإحصاء جسدت لنا بواقعية وتجرد، الحال التي كان عليها عصره، وربما الشيء الذي يزيد من قيمة هذا السجل الحي خلوه من التعقيد والمعاظلة ، وبعده عن الحشو والإسفاف، والجاحظ الذي كان لا يبسط لسانه بأذي أو يطوي صدره بضغينة، إلا لمن أوغل في معاداته، أو أمعن في التعرض له، وسخريه الجاحظ التي أخذ بخلائقها أدباء العربية، كانت طبع وجبلة، ساعد من صقلها، ونموها احتكاكه بالناس على اختلاف مشاربهم ودرجاتهم، إضافة لقبح منظره، ودمامة صورته، فأمير البيان العربي وشيخ النقاد، لم يكن يرمي من وراء هذه السخرية اللاذعة سوي تقويم الأخطاء التي كان يزخر بها مجتمعه، ودفع الكآبة والملال عمن يطالع مجلداته التي استقصت غرائب المسائل، ونوادر الحكايات.

المصادر والمراجع:

1- أبوعلي،محمد بركات،سخرية الجاحظ من بخلائه (عمان:جمعية عمال المطابع التعاونية،ط2، 1402هـ/1982م).

2- بوملحم،علي، المناحي الفلسفية عند الجاحظ (بيروت:دار الطليعة للطباعة والنشر،ط2، 1988م).

3- التوحيدي،أبوحيان علي بن محمد،الإمتاع والمؤانسة،تحقيق:محمد حسن محمد إسماعيل (بيروت:دار الكتب العلمية، ط1،1424 هـ/2003م).

4- الجاحظ،أبوعثمان عمرو بن بحر،البخلاء،تحقيق:أحمد العوامري،علي الجارم (بيروت: دار الكتب العلمية،1422 هـ/2001م).

5- الجاحظ،أبي عثمان عمرو بن بحر،البيان والتبيين،تحقيق:فوزي عطوي (بيروت:دار صعب،ط1، 1968م).

6- الجاحظ،أبو عثمان عمرو بن بحر، الحيوان، تحقيق:عبد السلام هارون (القاهرة:مطبعة مصطفى الحلبي، د.ط، 1938م).

7- جبر،جميل،الجاحظ في حياته وأدبه وفكره (بيروت:الشركة العالمية للكتاب،د،ط، د،ت).

8- حسين، عبد الحليم محمد،السخرية في أدب الجاحظ (طرابلس:الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع،ط1، 1397هـ/1988م).

9- خفاجي،محمد عبدالمنعم،أبوعثمان الجاحظ (القاهرة:دار الطباعة المحمدية، د.ط، د.ت).

10- الخضري،محمد،محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية (القاهرة:مطبعة الاستقامة، ط4، 1987).

11- شلحُت،فيكتور،النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ (بيروت:دار المشرق،ط3، 1992م).

12- علي،كرد،عمرو بن بحر الجاحظ (سوسة:دار المعارف التونسية،د.ط، د.ت).

13- عويضة،كامل محمد،الجاحظ الأديب الفيلسوف (بيروت:دار الكتب العلمية،ط1، 1413هـ/1993م).

14-القالي،أبو علي اسماعيل بن القاسم،الأمالي في لغة العرب (بيروت:دار الكتب العلمية،د،ط، 1398هـ/1978م).

15- القزاز،محمد سعد،الفكر التربوي في كتابات الجاحظ (مصر:دار الفكر العربي،ط1، 1415هـ/1995م).

16- مبارك،زكي،النثر الفني في القرن الرابع (بيروت:منشورات المكتبة العصرية،د،ط،د،ت).

17- هدّارة، محمد مصطفى،الشعر العربي في القرن الثاني الهجري (القاهرة:دار المعارف، د.ط، 1978م).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *