مقعد شاغر على مائدة الإفطار.. الطالب مصطفى جمال يقضي رمضان الخامس في الحبس الاحتياطي بسبب أغنية لم يشترك بها: لماذا كل هذه القسوة؟
ما أصعب الانتظار على أهالي السجناء والمحبوسين، الذين يعيشون على أمل خروج ذويهم بعد أشهر وسنوات من المعاناة في غيابهم، بينما يأتي شهر رمضان وتتوق إليهم مقاعدهم الفارغة على موائد أسرهم، لتعود معها البهجة الغائبة، في الوقت الذي تنشغل الأيدي بالابتهال لعودتهم، وإعداد وجبات الإفطار لتسليمها لهم بوجوه تكسوها الحسرة، في أقرب زيارة لها خلف القضبان.
نحو 50 شهرا مروا على احتجاز الطالب ومصمم الويب مصطفى جمال المحبوس احتياطيا على ذمة أكثر من قضية دون محاكمة، آخرهم القضية رقم 65 لسنة 2021 حصر أمن الدولة العليا، ولا تزال معاناته مستمرة ولا تزال والدته وشقيقته توقان إلى خروجه ليكون بجوارهما في شهر رمضان الجاري على طاولة الإفطار بعد غياب في الشهر الكريم في 4 سنوات سابقة.
وأكمل مصطفى جمال في 28 فبراير الماضي 4 سنوات في الحبس الاحتياطي، وسيكمل في 28 من شهر أبريل الجاري 50 شهرا في الحبس الاحتياطي على ذمة أكثر من قضية دون محاكمة.
معاناة جمال بدأت قبل 4 سنوات وشهر و28 يوما، حينما ألقت قوات الأمن القبض عليه في 28 فبراير 2018، وجرى حبسه على ذمة القضية رقم 480 لسنة 2018 حصر أمن دولة على خلفية أغنية ساخرة نشرها رامي عصام، في حين ينفي بيان لأصدقاء وأسرة جمال أي علاقة بينه وبين رامي عصام واغنيته التي أصدرها في فبراير 2018 والتي كانت سبب القبض على جمال وحبسه.
وحينما حصل جمال على إخلاء سبيل في القضية رقم 480 لسنة 2018 حصر أمن دولة، جرى تدويره على القضية رقم 730 لسنة 2020 أمن دولة، والتي حصل فيها أيضا على إخلاء سبيل في يناير 2021، لكن جرى تدويره على قضية جديدة حملت رقم 65 لسنة 2021 حصر تحقيق أمن دولة عليا، وهي المحبوس على ذمتها حاليا مع إكماله 4 سنوات في السجن.
وقالت أسرة مصطفى جمال في بيان سابق: “كان رامي عصام أحد عملاء مصطفى في عام 2015، ووثق مصطفى صفحة معجبين رامي على فيسبوك، وكان هذا هو الرابط الوحيد بينه وبين رامي”، لافتة إلى أنه “عندما تم إصدار أغنية رامي عصام في 2018، لم يكن هو ورامي على اتصال منذ 2015، وبعد الإصدار سجن مصطفى في مارس وبقي محتجزًا منذ ذلك الحين”.
ويواجه جمال الذي قضى حتى كتابة هذه السطور 36408 ساعات خلف القضبان اتهامات بالانضمام لجماعة إرهابية مع علمه بأغراضها، إنشاء حساب على شبكات مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” بغرض نشر أخبار كاذبة لغرض إرهابي، ونشر وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة من شأنها الإضرار بالأمن والنظام العام.
“هل يتذكرني أحد؟”.. كانت هذه الجملة عنوان أخر رسائل مصطفى جمال، الذي ليس فقط يخشى استمرار الحبس والاحتجاز دون محاكمة، ولكنه أيضا يخشى أن ينساه الناس وتنتهي سيرته طوال فترة الحبس.
وقال جمال في رسالته إنه “لم يشترك يوما في أي عمل أو نشاط سياسي، وأنه فقط يهتم بعمله ودراسته، ليصبح بعد ذلك محبوسا بالاشتراك في أغنية لم يشترك فيها”، في إشارة إلى أغنية قدمها المغني المصري المقيم في السويد رامي عصام.
وأضاف: “أخرج من قضية، وتكون في انتظاري قضيةٌ جديدةٌ كجولةٍ استثنائية تدور في فلكٍ من العشوائيةِ والعبثية، لتعيدَ إنتاج محورٍ آخر اكثرُ حزناً وبؤساً من جديد، وأبدأ بجولة أخرى استجمع فيها ما تبقى من قوةٍ مهدورةٍ، ويضعوني في قبر سجنٍ بلا حياة”.
وفي وقت سابق، طالبت منظمات حقوقية مصرية، بالإفراج عن مصطفى جمال بعد سنوات من الحبس الاحتياطي على أكثر من قضية ولكنها المطالب التي لم تنفذ حتى الآن.
ودعت الشبكة الدولية للجماعات الثقافية – في وقت سابق – الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الإفراج عن مصطفى جمال.
ومع صدور قرارات من النيابة العامة بالإفراج عن من هم رهن الحبس الاحتياطي من السياسيين والمعارضين السلميين تجددت المطالب بالإفراج عن عن الطالب ومصمم الويب مصطفى جمال.
نص رسالة مصطفى جمال من محبسه:
اربعةَ أعوامٍ في السجن، بعيداً عن أمي وأبي واختي.
فقط، اخرج من قضيةٍ، وتكون في انتظاري قضيةٌ جديدةٌ كجولةٍ استثنائية تدور في فلكٍ من العشوائيةِ والعبثيةِ، لتعيدَ إنتاج محورٍ آخر اكثرُ حزناً وبؤساً من جديد، وأبدءُ بجولة أخرى استجمع فيها ما تبقى من قوةٍ مهدورةٍ، ويضعوني في قبر سجنٍ بلا حياة.
لم أكن يوماً على علاقةٍ بأيَّ نشاطٍ سياسي، فقط احب عملي ودراستي، اصبحتُ بين ليلةٍ وضحاها متهمٌ بالإنضمام لجماعةٍ إرهابية، بسبب أغنية لم اشترك بها !.
فقط قمت في عام ٢٠١٥ بتوثيق صفحة المغني – رامي عصام – علي الفيس بوك (العلامة الزرقاء التي توجد بجوار اسم الصفحة) قبل إصدار الأغنية بثلاث سنوات، منذ ذلك الحين لم اتواصل مع المغني أو مع أي فرد من فريق العمل الخاص به، بالإضافة أن اسمي غيرُ موجود على الأغنية، ولم يتم من خلالي نشر منشورات على هذه الصفحة، ذلك مثبوتا من خلال جميع الحسابات و الأجهزة الخاصة بي.
توقفت حياتي عند هذا الثقبُ الأسود الذي تشابهت فيه الأيامُ والسنينَ، ثقبٌ ضاع فيه مستقبلي وأحلامي، وإنهارت عنده كلَّ قواعدِ المنطق.
ساءت احوال والدي الصحية بعد دخولي السجن، كنت أرى ذلك في كل زيارة تلو الأخرى، فلقد سيطر عليه المرض وغطى الشيب رأسه، وكنت أرى دائماً ملامح العجز التي هيمنة عليه، بالرغم من اعتيادي على رؤية والدي قوي طوال عمره ولم أرى ذلك العجز في عينيه يوما ما…
اذكر أخر شيئ قاله لي قبل دخوله في صراعه الأخير مع المرض
*انا عاوزك جنبي .. وجودك جنبي هيعالجني يا مصطفي.. أنا هفضل مستنيك بس ماتتأخرش عليا*
-لقد انتظرني ولم استطع اللحاق به، واستسلم أبي للحزن فغلبه الموت-
كان خبر وفاة والدي كصاعقة انهكت قوايا، لم اتحمل الألم، فقدت عمري حينها، كل ما تمنيته أن أكون بجواره في مرضه، فلم استطع حتى أن أكون معه في دفنه، و كل ما افكر فيه الآن بعد اكثر من ١٨ شهرٍ من موتِ أبي، أنني عاجزٌ حتى عن زيارته في قبره إلى الآن..
لازلتُ رافضاً لفكرةِ موت أبي ولم اعترف بها.. اعلم جيدا أنني عندما اخرج من ذلك المكان.. سوف أجده جالساً في المنزل ينتظرني كما وعدني.
ترك أبي وراءه أمي واختي، و لا استطيع أن أكون بجانبهم، أو اخفف عنهم فراقي وفراق والدي.
لم أرى أمي سوي مره واحدة منذُ ذلك الحين الذي مات فيه أبي.. بسبب عناء السفر الذي تواجهه كل زيارة. لأنها تعيشُ بعيداً عن السجن، ولكثرةِ المتاعبِ التي تواجهها بمفردها بعد موت أبي.
أصبحت وحيداً.. لا أهلٌ ولا أصدقاءٌ ولا حياةٌ، فقط أعيش مفقوداً تحت الأنقاض، وكأنه لم يأتي أحدهم لإنقاذي، وكأني لن أعيش مرة أخرى.
الوحدة هي الصديق الوحيد الذي يلزمك ولا يتركك، ومع مرور الوقت يسلب روحك وينتصر.. ليظل الصديق الأقرب الذي يجد طريقةً ليقتلك.
كم اكره أن اسمعَ اسمي في هذا المكان.. و شعوري الدائم باللا انتماء للسجن، الذي يجعلني دائماً ساخطاً على حياتي، ورافضاً الإعتراف بأن كل هذا حقيقي.
افزعُ دائماً كل صباحٍ، عندما يفتح السجان باب الزنزانة بإعلانِ يومٍ جديد في هذا المكان..
كم اكره هذا الصباح.
دائما اهرب من هذا الكابوس الذي يلاحقني بالنوم، لأجدُ كابوساً أكبر منه في احلامي، فلا اجد منفذ للخروج من هذا العناء.
لم يكن الحبُ يوماً لمسلوبي الحرية.. اتعاملُ مع السجان كونه فردٌ من عائلتي، اتقاسم معه الطعام، اقومُ بعلاجه إذا مرض، نتكلمُ عن أحزاننا سوياً، عن أخبارِ العالم وما يحدثُ خارج هذه الزنازين.. بعدها يختتمُ كلامه بالدعاءِ لي بالخروجِ من هذا المكان ويغلق بعدها باب الزنزانة! .
سألني أحدُ السجانين ذات مرة..
* إيه أحلامك لما تطلع من هنا يا مصطفي؟
-عندها.. تذكرت ذلك الحلمُ الذي لم أعد افكر فيه منذ حبسي، إنني احلمُ أن اصبحَ مذيع راديو، وأنني كنتُ احلمُ أيضاً بأن أعمل بشركة فيسبوك ذات يوم، وأنني سأكون من أكبر منظمين الحفلات في مصر..
* أنا تقريباً كنت نسيت احلامي يا عم محمد، بس اعتقد حلمي الوحيد دلوقتي إني احضن أمي بس.
اعترف الأن.. وأنا على مشارف بداية عامي الخامس في السجن أنني لازلت مدمناً للحرية لم اتعافى بعد، ولازلتُ محتفظا بإنسانيتي.. ما بين حائطِ الأملِ والهزيمةِ.. انعي صبري ويُقتلُ فيَّ الأملُ بصمتٍ.
السجنُ يكسرنا..
كم من الوقت نحتاجه لإستعادة قوتنا وقدرتنا على الحياة، الوقتُ أقسى من الذكرى التي تسكن فينا، إنه يمرُ لأنه لابد له أن يمر دون توقفٍ ودون رحمة، يعرفُ جيداً طريقه نحو الوجع والكسرة.
فقط، استسلم لرائحةِ الموتِ وابقى في مستنقع قبر احزاني.
السجنُ يقتُلنا..
وعندها يكون الموتُ ليس نهايةِ الحياة، ففي هذا المكان لا تفقد حُريتك فقط، وإنما تفقد إيمانك بنفسك، وحبك للحياة، وشغفك بالآخرين، ويصبح ذلك القفص الذي حولك من كل الجهات نسيجا من جسمك.
فيتبقى دائما إحساسي بالخوف الدائم والغير مبرر من فقدانِ الأمل، والشعورِ بالصدمةِ والاكتئاب.
تدهورت احوالي الصحية والنفسية، وبدوت للمرض كفريسة تستقي بها ما تشاء كل يوم، ثقل لساني،
وتدهورت حالة عيني، بالإضافة لاضطراب في ضربات القلب وغيرها من الأمراض التي تصيبني ولا استطيع أن اتحملها.
ابتذالٌ في الظلمِ يخلقٌ نوعٌ من حلبٍ للحزن والاكتئاب، والوحدة وبدورها تصنع اضطرابات نفسية وصحية وتفقد فيها الأمل والحياة.
لم يعد لدي أيَّ شيئ اخسره، لقد تخلى عني الجميع.. وتهتُ في زحام النسيان و الموت الإحتياطي المطول والغير مبرر..
هذا ما دفعني في محاولتي لأذية نفسي سابقا! .. رغبةٌ مني بإنهاء هذا الموت الذي اعيشه، و إيماناً مني بحياةٍ أفضل بعيداً عن هذا العالمِ الظالمِ الذي لا يرحمُ أحد.
هل يتذكرني أحد ؟!
هل يسمعني أحدهم ؟!
لماذا كل هذه القسوة؟!
هل هذه هي نهاية رحلتي في الحياة؟
آسف يا أمي، لم أكن السبب وراء حُزنك..
لا أريدك أن تعاني من أجلي مرة أخرى
لقد أُجبرتُ لتخطي كل ذلك لأجلك، ولكن لم أعد اتحملُ اكثرَ من هذا..
أنا مكسورٌ.. لقد كسروني يا أمي.
هذا العالم لم يُحبني ..
مصطفي جمال كامل
محبوس احتياطيا منذ ٢٠١٨/٢/٢٨