مدن.. محمد العريان يكتب هنا القاهرة (2): إذا أردت الشراء لا تشتري.. وانتظر (حكايات قاهرية)

المدن تصطفي قاطنيها وتشكلهم كالعجين، هي باقية، وعلى الفاني الطاعة أو الرحيل.

توزع كل مدينة جزءاً من روحها على سكانها، فتعزف المباني والشوارع والبشر سمفونية واحدة، كل مدينة لها لحن، وروح، ورائحة مميزة، كبصمة الأصابع لا تتطابق مع أخرى، كل مدينة لها شخصية شكلتها تجربتها مع السكان، دبيب أقدامهم على شوارعها، سبابهم وغنائهم، رائحة طيبتهم وغضبهم، مجاريهم في قلبها ومخلفاتهم على أطرافها، كل هذا يجعلها متفردة، تجردها السنين من نزق الصغار وضعف القلوب الطرية وتمنحها حنين الأم القاسية وحكمة الجدة .

إذا كنت ساكناً جديداً لا بدّ أن تتعامل بحذر؛ فالمدينة -أي مدينة- تختبرك لتعطيك ختم الإقامة أو الجنسية أو المرور فقط.

ستندهش في البداية، ثم تطوعك قوانينها، تشد عودك بالحوادث، وإذا كنت عصياً لفظتك، إما أن تعود لموطنك أو تتكيف وتسير على مسارات البشر.

القاهرة

ليس كل شخص يستطيع الحياة فى القاهرة، فلها من اسمها نصيب، وإذا أجبرتك الظروف على السكن فى القاهرة (الكبرى) سواء لظروف عمل أو دراسة أو علاج فلابد أن تخرج منها سريعاً إن استطعت، أما إذا أردت الاستمرار فيجب أن تتمتع بمواصفات المواطن القاهري، لتحصل على الإقامة، فعلاً بنعمل كل حاجه علشان نعيش.

المواطن السوبر مان بالتأكيد يعيش في القاهرة، في القاهرة كل المواطنين سوبر مان، ويستحقون جميعاً جائرة القدرة على الحياة في أصعب الظروف، ففي المدينة تناضل كل يوم لكي تحصل على ما يحصل عليه أي إنسان في الدنيا ببساطة، المدينة هي تجسيد لـ كبد الإنسان ونموذج حي للانتخاب الطبيعي للبشر.

في المقال السابق تحدثنا عن الألعاب البهلوانية والحسابات الدقيقة للحركة في القاهرة وتجنب الزحام، وفي هذا المقال سنتحدث عن مهارات القاهري في السوق، والقدرة على الشراء.

الفصال

لا أعرف تحديداً متى بدأت ظاهرة الفصال؟، فهناك تاريخ لكل شيئ إلا الفصال، متى بدأ؟ من ابتدعه؟ لا نعلم، ولكن ما أعلمه أن الأشياء تتفاوت في أسعارها حسب جودتها وتوافرها والمنتوجات المنافسة… إلخ، هكذا في كل الدنيا، أما في القاهرة فالأصل: نظرية “ببلاش إلا ربع” وهي تعبير عن عادة هدفها الشعور بالنصاحة والفتاكة والفهلوة، الأصل في القاهرة أن السلع لا تستحق سعرها وثمن الخدمة يمكن تخفيضها، هكذا اعتاد سكان المدينة ولهذا لا ينزعج البائع ومقدم الخدمة من الفصال إلا نادراً.

الشطارة هي عنوان من يستطيع أن يحصل على أسعار أقل من البائع، والبائع الشاطر هو من يرفع سعر السلعة حتى لا يجبره الفصال على الخسارة، وفي السوق كل شيء ممكن، وأعملنا خصم.

قاموس الفصال يحفظه كل قاهري عن ظهر قلب وكأنه حروف الأبجدية، يبدأ من اسم الكريم إيه؟ طب صلي على النبي، مروراً بـ ده أنا هبقى زبونك، أكرمني علشان أول مرة أشتري منك، أنا بجيب من عندك على طول، وأنا لسه شايفة في المحل الفلاني ببلاش، وفي النهاية يفتح الله أو نقول مبروك.

والبائع أيضاً يعرف قاموس الفصال فيرفع سعر السلعة ليتجنب الخسارة وفي الوقت نفسه يوهم المشتري بأنه انتصر بعد الفصال يردد: مش هتجيب همها والله، كده هتقف عليٌ بخسارة، طيب حلال عليك.

في سوق الخضار، تعبث سيدة بحبات الطماطم قبل أن تسأل البائع بكام؟ والسؤال الجاهز قبل أن يرد، ليه؟ رغم أن السعر مكتوب بخط واضح 8 جنيهات، تستعين بسيدة أخرى تتابع عملية الفصال، بيقول بـ 8 جنيه، ترد السيدة: كل السوق بيبعها بـ 7.50 اشمعنى أنت؟ البائع يعلم جيداً أنها تكذب إلا أنه لا ينزعج وبحسبه بسيطة يوافق.

على فرشة أخرى بلا سعر مكتوب، بكام؟ من غير فلوس خالص خدي اللي أنت عايزها، لأ كتير من غير فلوس، ابتسامة متبادلة لبدء المباراة، طيب عايزة كام كيلو؟.

في أسواق الخضار عملية الفصال غير مجهدة وتنتهي سريعاً، أما الملابس والأجهزة الكهربائية هي الأصعب على الإطلاق.

من أين تشتري؟ لازم تتعب

يعلم القاهري أن الحصول على سلعة ما بسعر جيد، وجودة مضمونة أمر يشبه البحث عن كنز مفقود، ولابد أن تبذل مزيداً من الجهد للفوز بالجائزة، مثل عبلة التي انتظرت مهرها يأتي به عنتر 100 ناقة حمراء.

في السوق؛ لا تشتري من أول بائع، قاعدة مهمة للحصول على سعر جيد، فأول بائع عادة يتمتع بعجرفة المكان المميز ويعتمد على المشتري المتعجل، وغالباً يرفض لعبة الفصال وينزعج من كثرة الأسئلة عن السعر.

ومن يبحث عن سعر جيد لابد أن يفرز السوق ويدخل جميع الحواري ويبتعد عن ضوضاء السوق، نعم هناك فى المكان الهادئ بعيداً عن غبار المشترين ستجد بائعك المفضل، سعر جيد ووجه بشوش ونصائح صادقة، وسيتذكرك إذا أردت استبدال السلعة.

لكي تشتري يجب أن تتحرك، فالبائع القريب ليس له منافس ويستغل المشتري في أغلب الوقت، وفي مصر أسواق لكل شيء حتى بقايا الأكل والملابس المستعملة والحديد الخردة، فالأزهر والعتبة ووسط البلد للملابس لزبائن معينة، والسيراميك والبورسلين في الفجالة وترسا، والأثاث في المناصرة والأجهزة الكهربائية شارع عبد العزيز، وبعد أن تشتري يتبقى لك أزمة كبرى: كيف تتحرك في الزحام ومعك سلعة؟ خاصة لو كانت بحجم ثلاجة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *