مدحت الزاهد يكتب: خواطر كورونية.. عولمة ضد العولمة
١- كشفت أزمة وتداعيات كورونا عورات النظام لاقتصادى العالمى وتقدم فرصة لبلورة رؤى لعالم جديد وحشد قوى تتطلع الى الظفر به ، ولكن من الخطأ فى ظنى استنتاج انها ستعصف بعملية العولمة حتى لو أدت فى المدى المباشر إلى تباطؤ عمليات الترابط والسيولة فى الأسواق والتجارة الدولية وتدفقات السلع ورؤوس الأموال والبشر.
٢- لكن أزمة كورونا تقدم فرصة لتعزيز القدرات الإنتاجية لاقتصادات دول الجنوب ، فى اتجاه توسيع مساحة الاعتماد على الذات كنتيجة لتباطؤ حركة التجارة العالمية ، على نحو ما عززت الحروب العالمية القدرات الإنتاجية للاقتصاد فى مصر وأوروبا ومناطق كثيرة
٢- وهى أيضا فرصة لإعادة النظر فى النماذج التى قدمتها رأسمالية الاحتكارات فى مجال الرعاية الصحية والاجتماعية بشكل عام وكوارث البيئة وعسكرة العلاقات الدولية وما افضت إليه أيضا سياسات الليبرالية الجديدة فى تفكيك دولة الرفاه من انكشاف نظم دول الشمال من جهة وهشاشة الاقتصادات التابعة فى الجنوب التي خضعت لروشتة التعويم والخصخصة واعيد تنظيم هياكلها الاقتصادية وتشريعاتها ونخبها السياسية لتكون بقرة حلوب لرأس المال الاحتكارى .
٤- ولا يعنى هذا أن هناك فرصة سهلة للتحولات فى دول الشمال والجنوب ، آخذين فى الاعتبار أن التأميم الذى حدث فى بعض القطاعات فى دول الشمال ،كحل مؤقت، ليس الاشتراكية ولا يشبهها، بل خطوة تكتيكية فرضتها الظروف لإنقاذ قطاعات من الاقتصاد والحفاظ على النظام فى ظروف جديد، وهى كذلك صعبة فى دول الجنوب لان هيمنة دول الشمال على توجهاتها تعتمد على وكيل محلى تمثله قوى اجتماعية وجماعات ضغط ونخب سياسية قوية ونافذة وشديدة الولاء لروشتة الليبرالية الجديدة، فضلا عما اطلقته ازمة كورونا من ميول لتعزيز القبضة الامنية لكثير من الدول.
٥- القضية إذن ليست المفاضلة بين نماذج نظرية معزولة عن مصالح اجتماعية حتى نتصور نقلة ميكانيكية سهلة ، فهى تبقى وثيقة الارتباط بصراعات محلية واقليمية وكونية وبالقدرة على تقديم بدائل ونماذج جديدة وبناء كتل ضاغطة تجسدها فى النشاط العملى والمشكلة الاكبر ليس فى بلورة البدائل النظرية بل تخطى حواجز وصول الرسالة لأصحابها وتحويلها لقوة مادية وكتلة بشرية
٦- كما يحتاج التحول إلى أفق سياسى، يتعارض مع الأثر المباشر الذي خلفته كورونا فى تعزيز الميول العنصرية ضد العمالة الملونة والمهاجرين فى الشمال، وما افضت إليه فى معظم دول الجنوب من تعزيز التوجهات السلطوية التسلطية ، والذى لن يحول دون الانفجارات الاجتماعية مع استمرار ترافق التوجهات التسلطية مع انحيازات اجتماعية للقوى الأكثر استحواذا على الثروة
٧- وجوهر هذا الأفق اللازم للتوجه للامام هو انفتاح على التعددية والتنوع والابداع، وقيم العدالة والحق فى المشاركة وهذا الأفق لن ينبثق، كما انبثقت آلهة الإغريق من زبد البحر، وهو يتطلب مهارة الربط بين الأزمات المباشرة والنماذج الجديدة، واعتماد المشاركة الشعبية ومد جسور بين تطلعات الشعوب إلى عالم جديد وبلورة خطاب واضح يراعى ظروف الأزمة دون أن يفقد بوصلته ويقدم تصورا لاستمرار الحياة والانتاج فى أمن وسلام بعد تراجع الخطر، وذلك فى حالة أزمة ممتدة.
– وبالنسبة لنا والدول الشبيهة يتطلب هذا الخطاب حشد قوى المدرسة العلمية الوطنية وهى غنية مع التركيز على إطلاق القدرات الإنتاجية للاقتصاد واعداد خطط واشكال تنظيمية لادارة الازمة والمخاطر وتوفير الدعم والحماية القوى الاجتماعية التى ضربتها الازمة، وتوحيد القطاع الصحي تحت قيادة مشتركة وتحقيق العدالة فى توزيع الأعباء والموارد والاعتماد على الديمقراطية التشاركية والمشاركة الشعبية، وجبهة واسعة متحدة كطريق لمواجهة التحدى.
8- والاحتمال الأفضل إذن ليس إزاحة العولمة، فهى من ناحية مهمة مستحيلة ولم يحدث فى اى تنظيم اقتصادى اجتماعى تاريخى جديد أن حطم انجازات النظام السابق ، بل عدلها وأعاد صياغتها فى المنظومة الجديدة تبعا لمصالح وقيم القوى الصاعدة، ومن ناحية أخرى فان العولمة إنجاز تاريخى شوهته الليبرالية الجديدة والرأسمالية المتوحشة واحتكارات الهيمنة والمطلوب حقا هو تغيير مسارها والقوى المهيمنة عليها ، وثقافتها وقيمها الاستهلاكية .. عولمة الشعوب ضد عولمة الاحتكارات .. عولمة عنوانها الانسان قبل الأرباح وليس الأرباح قبل الارواح .. وعدالة التجارة قبل حرية التجارة وتزدهر فيها القيم الإنسانية المبدعة وقيم الاستنارة والفنون وديمقراطية التمكين لا التفويض .. والديمقراطية التشاركية فى مواجهة برلمانات البورصات ومشاركة الخمس دقائق أمام الصناديق والعدالة فى توزيع الأعباء والموارد ومتساوون فى عالم عادل يكفل للجميع الحق فى الغذاء والتعليم والعمل والرعاية الصحية والسلامة المهنية.. عالم يشبه فيه الناس بعضهم ولا يشبهون تجار الحروب والأوبئة وتوحش الاحتكارات.