محمد حليم يكتب: الإحتيال الإقتصادي

محشوراً بمقعدي المهترئ بأحدى “الميكروباصات” البالية، متجهاً الى مقر عملي بأحد المراكز الريفية، أعاني من دوار طريق ليس بطريق، أحاول الهروب “عبثاً” من صوت الفنان “حمو بيكا”، الصادر من سماعات الميكروباص “اللعينة”، بمطالعة كتاب “قوة الاقتصاد” لكاتبه الاقتصادي المشهور “مارك سكاوزن” صاحب الكتاب ذائع الصيت “الثلاثة الكبار في علم الاقتصاد”، وبينما أقلب بعيني في الفهرس، لفت نظري عنوان جانبي باسم “ماذا حدث للمصريين؟” وقد ورد هذا العنوان تحت الجزء الخاص ب “حل المشكلات العالمية”، فاتجهت مباشرة لقراءة هذا الجزء، الذي جاء فيه([1]):

“مصر اليوم دولة منهارة، فلدى وصولنا الى ميناء الاسكندرية، التي كانت يوماً مدينة الاحلام، قبل بضع سنوات، رأينا القمامة والغبار منتشرين بشكل كثيف على الطرق العامة، ولدى وصولنا إلى القاهرة لمشاهدة الاهرامات القديمة، رأينا مجاري مائية ملوثة، ومياهاً غير صالحة للشرب، وفقراً مدقعاً، وحركة مرورية صاخبة، وملايين مكتظين وباعة ملحيين، ومزيداً من الغبار، الا أن مصر تمتلك موارد هائلة: نفط، قطن، وأراض من أجود الأراضي وأكثرها خصوبة في العالم، ومنظومة ري من الطراز الأول، وقناة السويس، وقوة عمل ضخمة (نحو 70 مليون شخص وهم في تزايد سريع)، ولكن نسبة البطالة الحقيقية تبلغ 20 في المائة، فيما تعد البطالة المقنعة بمنزلة مرض مستوطن، كما أن مصر تعاني من هجرة ضخمة للكفاءات، حيث يعمل 2,5 مليون مصري بالخارج، كما تعاني البلاد من معدلات أمية تبلغ 66% بين النساء و 37% بين الرجال، وتستورد نصف غذائها، وتعد هذه الدولة العربية الافريقية أعلى الدول المتلقية للمعونة الأمريكية في العالم بعد اسرائيل”.

ثم يمضي الكاتب في تحليل هذا الانهيار الاقتصادي، الذي أوجزه، في سياسة التدخل الاشتراكي التي تبنتها مصر في الستينات، فيقول:

“يحمل الاقتصاد المصري إرث سياسات إقتصادية تعود الى خمسينات القرن العشرين والتي كانت معنية بالمساواة وإعانة الفقراء، وكانت هذه السياسات تتسم بتنظيم الاسعار ودعم السلع الاستهلاكية، وقطاع عام مهيمن وسيطرة للدولة، حين تولى جمال عبد الناصر مقاليد الحكم في 1954 أسس دولة ديموقراطية اشتراكية، وأمم كل شئ تحت الشمس، بما في ذلك شركة البيرة المحلية، وزاد بشكل كبير من سيطرة الحكومة على الاقتصاد، ولكن لحسن الحظ بدأ أنور السادات- خليقة ناصر- برنامجاً للحد من دور الحكومة، وبعد اغتياله المأساوي في عام 1981، قام حسني مبارك بتسريع وتيرة سياسات السوق المعنية بالخصخصة والاستثمار الاجنبي والقضاء على ضوابط الاسعار وتداول النقد، وأصبحت البيرة المحلية ملكية خاصة”.

بغض النظر عن مسألة ملكية البيرة المحلية، ودون التطرق لمسألة الرفض الشعبي للسياسات “النيوليبرالية” التي تبنتها إدارات السادات ومبارك، والتي تجلت في انتفاضة الخبر في يناير 1977، وفي ثورة 25 يناير التي أطاحت بحكم مبارك، فبمجرد النظر الى مؤشرات أداء الاقتصاد المصري، التي تعبر عن نتائج تطبيق تلك السياسات– التي يرى فيها سكاوزن وغيره من مفكري الرأسمالية الحل لمشكلات الاقتصاد – يتضح لك عزيزي القارئ مدى زيف تلك الادعاءات، التي روجتها الإدارات الإقتصادية منذ السبعينات إلى الآن بدعم من المؤسسات الإقتصادية الدولية، حيث تشير تلك المؤشرات إلى الآتي([2]):

– يعاني الإقتصاد المصري من عجز في ميزان المدفوعات حيث بلغ هذا العجز 102.5مليار دولار خلال العام المالي 2018/2019، كما يعاني حساب المعاملات الجارية من عجز مالي بلغ 10.9مليار دولار في نفس العام.

– بلغ رصيد الدين العام المحلي 4282.1 مليار جنيه في نهاية يونيو2019، وهو ما يمثل نسبة 80.5% من الناتج المحلي الإجمالي بنفس العام.

– بلغ رصيد الدين الخارجي نحو 108.7مليار دولار بنهاية يونيو 2019، وهو في زيادة مستمرة.

– يقع 29.7% من المصريين تحت خط الفقر([3]).

– يعاني الإقتصاد المصري من عجز مزمن بالموازنة العامة للدولة، حيث بلغ نحو 445.1مليار جنيه وهو ما يمثل نسبة 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي.

ولم يتوقف “كاتبنا ” عند هذا الحد، بل تطرق إلى مثال أكثر فجاجة على إنحيازاته “المفضوحة”، مثال “تشيلي”، الذي أختار له أسم “كيف صنعت تشيلي ثورة عمالية رأسمالية؟” والذي أورد فيه :

“كانت تشيلي تعاني من كارثة إقتصادية كبرى في بداية السبعينات من القرن الماضي، تحت حكم أول رئيس ماركسي منتخب ديموقراطياً “سلفادور أليندي”، فقد خلقت سياسات أليندي الإشتراكية من تأميم ورفع للأجور ورقابة على الأسعار، أزمات وأسواقاً سوداء وتضخم خارج عن السيطرة، وبعد سلسلة من الإحتجاجات الشعبية، قام الجيش بقيادة “بيونشيه” بإنقلاب عسكري في سبتمبر 1973م وأنتحر أليندي”.

ثم مضى “سكاوزن” في شرح عبقرية “صبية شيكاغو/ صبية فريدمان”([4]) وكيف أنهم حققوا نجاحات إقتصادية في التجربة التشيلية كانت ستبهر كارل ماركس نفسه!

وتناسى “سكاوزن” أن هذا النموذج الناجح، قد أنتهى بثورة شعبية أجبرت المنقلب “بيونشيه” على ترك الحكم والهروب خارج البلاد، وموته منفياً مطارداً من قبل العدالة والقضاء لإرتكابه جرائم تتعلق بالفساد والقتل والتعذيب، وأن هذا “النموذج الناجح” قد مر بأسوأ الأزمات الإقتصادية ([5])، ليستقر بعد ذلك إلى نموذج إقتصادي/إجتماعي يعبر عن جوهر رأسمالية العصر الحديث، ففي السنة الأولى من تطبيق السياسات الإنفتاحية بتشيلي انكمش الإقتصاد التشيلي بنسبة 15%، وبلغت نسبة البطالة 20% من قوة العمل التشيلية، في حين أنها لم تتعدى نسبة 3% في عهد الرئيس المنتخب ” أليندي” الذي تم اغتياله بـ 14 صاروخ أسقطوا على قصره الرئاسي في واحدة من أبشع جرائم العصر الحديث، ولم ينتحر كما أدعى كاتبنا.

ناهيك عما انتهت إليه الأوضاع المعيشية الصعبة التي عانى منها الشعب التشيلي، تحت وطأة سياسات صبية شيكاغو، حيث أوضحت الأرقام بهذا الصدد أن نسبة 74% من دخل العائلات التشيلية كانت تذهب إلى شراء الخبز فقط في عهد بيونشيه، الأمر الذي دفع تلك العائلات إلى الإستغناء عن شرب الحليب وإستقلال وسائل المواصلات للذهاب إلى العمل، وبالمقارنة مع الوضع المعيشي في عهد أليندي تبين أن تكلفة الخبز والحليب واستقلال المواصلات لم تشكل سوى نسبة 17% فقط من دخل العائلات التشيلية.

وبعد 10سنوات انهار الإقتصاد تحت وظأة الديون والتضخم والبطالة التي وصلت إلى 30% ، أي عشر أضعاف ما كانت عليه في عهد “أليندي”، نتيجة المضاربات الجنونية لبيوت المال في التي تم إزالة القيود عليها، وهو ما أجبر “بيونشيه” على القيام بتأميم العديد من تلك الشركات مقتفيأ اثر “أليندي” ، حيث كان الشئ الوحيد الذي حمى تشيلي من كارثة الإنهيار الإقتصادي الكامل في بداية الثمانينات هو عدم إقدام بيونشيه على خصخصة شركة “كوديلكو” شركة تعدين النحاس التابعه للدولة، التي جرى تأميمها في عهد أليندي، والتي كانت تولد 85% من عائدات التصدير بتشيلي.

وأخيراً بقدوم عام 1988 وإستقرار الإقتصاد وإستعادته لنموه، كان 45% من السكان قد سقطوا تحت خط الفقر، واستحوذ 10% من السكان على 83% من الدخل القومي بالبلاد، واحتلت تشيلي المرتبة 116 من أصل 123 دولة رصدتها الولايات المتحدة الأمريكية للبلاد الأكثر إفتقاراً إلى المساواة الإقتصادية.

نأتي للسؤال الذي يطرح نفسه صارخاً، لماذا يعمد أمثال “سكارزون” إلى تشويه الحقائق على هذا النحو ؟

ففي المسألة المصرية لم يحدثنا “سكارزون” عن 72 عاماً قضتها مصر تحت الإحتلال، والذي تم فيه نزح الفائض الإقتصادي المصري، إلى الإقتصاد البريطاني ولصالح توسع السوق الرأسمالي العالمي، فقد كانت مصر مصدراً صافياً لرأس المال بنحو 3.4 مليون جنيه سنوياً خلال الثلاثة عقود الأولى من عمر الإحتلال، كذلك قامت بريطانيا بالسطو على الرصيد الذهبي للإحتياطي المصري وحولته إلى بنك إنجلترا في عام 1914، وفي عام 1916 أخطر بنك إنجلترا البنك الأهلي “المركزي وقتئذ” عدم قدرته على تغطية أوراق النقد المصري ذهباً، وتم ربط الجنيه المصري بالجنيه الإسترليني في واحدة من أحقر عمليات السطو الإقتصادي على مر التاريخ، حيث تمكنت بريطانيا بتلك الخطوة من تمويل المجهود الحربي البريطاني خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية على أرض مصر، وهو ما أدى إلى إنهيار الإقتصاد المصري في وقت لاحق([6])

كذلك لم يعرض كاتبنا دور وكالة الإستخبارات الأمريكية في دعم الإنقلاب بتشيلي ضد الرئيس المنتخب، ولم يحدثنا عن 14 صاروخاً وجهوا من قبل قوات الإنقلاب إلى القصر الجمهوري، وعن إعدام 3200 شخص دون محاكمات، ولا عن سجن الآف المعارضين في ملاعب كرة القدم لعدم وجود معتقلات كافية، ولم يحدثنا عن 200 الف مهاجر تركوا وطنهم لأسباب تتعلق بالقمع السياسي.

الإجابة في وجهة نظري تتلخص في عبارات الإقتصادي المصري جلال أمين، نفس الكاتب الذي اختاره “سكارزون” لإختيار أحد أشهر كتبه “ماذا حدث للمصريين؟” لعنونة الجزء الخاص بحديثه عن الحالة المصرية، فيقول “جلال أمين”[7] :

“اللافت للنظر بشدة، لمن يلقي نظرة على ما طرأ على الكتابات في إقتصاديات التنمية خلال الخمسين عاماً المنصرمة، سواء فيما يتعلق بالاسئلة المثارة أو فيما يتعلق بالإجابات التي قدمت عن هذه الاسئلة، أن يلاحظ إلى أي مدى كانت هذه الكتابات أقرب إلى التعبير عن المصالح والتحيزات السائدة في فترة زمنية معينة، وتتغير بتغير تلك المصالح والتحيزات، منها إلى المحاولات المتجردة من الغرض، للوصول خطوة بخطوة إلى معرفة الحقيقة، فسواء انطلقت هذه الكتابات بتقديم تعريفات للمشكلات أو الظواهر التي يجري بحثها، أو بتحديد الأهداف التي تعتبر جديرة بالسعي لتحقيقها، أو بإقتراح الوسائل التي يظن إنها أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق تلك الأهداف، كانت النظريات السائدة في إقتصاديات التنمية تعكس في معظم الأحوال المصالح السائدة في وقت ظهورها”.

وأخيراً وصل ميكروباصي المهترئ إلى ملاذه الأخير، معلناً عن إنتهاء رحلة أخرى ووصلة أخرى من الوصلات الغنائية التي لا تنتهي للفنان الأستاذ “حموبيكا”.

ملخص المقال:

يتناول المقال موضوع التحيزات غير العلمية للاقتصاديين.

باحث اقتصادي، أمين التثقيف بحزب التحالف محافظة الدقهلية 


[1] مارك سكاوزن، قوة الافتصاد: كيف يغير جيل جديد من الاقتصاديين العالم، مؤسسة هندواي للتعليم والثقافة، الفاهرة، 2016.(مترجم).

[2] تقرير الوضع الخارجي للاقتصاد المصري للعام المالي 2019/2020 ، المجلد رقم 69، الصادر عن البنك المركزي المصري.

[3] بحث الدخل والانفاق الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، مارس،2020.

[4] هو مصطلح تم اطلاقه على الاقتصاديين خريجي مدرسة شيكاغو في الاقتصاد الذي تبنوا أفكار الليبرالية الجديدة المعنية بحرية السوق والحد من التدخل الجكومي في النشاط الاقتصادي.

[5] نعومي كلاين، عقيدة الصدمة: صعود راسمالية الكوارث، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت،لبنان، الطبعة الثالثة،2011.

[6] محمد عبد الحليم، بناء استراتيجية لجذب الإستثمارات الأجنبية المباشرة للإقتصاد المصري دون الوقوع في التبعية الإقتصادية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التجارة، جامعة المنصورة، 2020.

[7] جلال امين، فلسفة علم الاقتصاد: بحث في تحيزات الاقتصاديين وفي الاسس غير العلمية لعلم الاقتصاد، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الخامسة،2019.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *