مجلة التحالف| ماذا تفعل حرب غزة في الاقتصاد الإسرائيلي؟ محركات القوة وعوامل الضعف في اقتصاد الحرب

بقلم / إبراهيم نوار

مقدمة
تنطوي الحرب دائما على تكلفة فادحة، و خسائر مباشرة في مجالات عديدة، أشدها إيلاما هي الخسائر البشرية، التي هي في الوقت نفسه أكثر الخسائر القابلة للإحصاء الكمي، وقياس تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. كما تتضمن تكلفة الحرب أيضا الخسائر المادية والاقتصادية. ولا تختلف حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين عن غيرها من حروب المرحلة الكولونيالية، إلا في أن الغرض النهائي منها ليس تكريس النفوذ ونقل الثروة، بقدر ما هو إبادة الهوية القومية الفلسطينية فكرا وقواما. فبقاء الضحية يدل على المجرم، ولا تريد إسرائيل بقاء ضحيتها، فذلك هو الحد الأقصى لإخفاء الجريمة أو إنكارها تماما. وليس من قبيل المصادفة أن تكون نسبة الأطفال الضحايا في حرب غزة 2023 أكثر من 40% وأن تكون نسبة الأطفال والنساء أكثر من ثلثي عدد ضحايا الحرب. كما إنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون أسلوب نسف البيوت والمباني وتسويتها بالأرض هو أسلوب إسرائيل المفضل في التعامل مع الفلسطبنيين في الأراضي المحتلة قبل الحرب وخلالها وبعدها. ما يراه العالم من مشاهد الدمار في غزة والضفة الغربية شاهد على أن غاية إسرائيل من الحرب هو “إبادة الهوية الفلسطينية” فكرة وقواما.

متابعة تطور الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني (ولا نقول العربي – الإسرائيلي لأن الحكومات العربية إختارت الخروج من دائرة الصراع، بل إن بعضها متواطؤ مع إسرائيل سرا أو علانية)، تشير إلى أن حروب إسرائيل تقدم لنا استثناءا تاريخيا فيما يتعلق بقياس تكلفة الحرب على الاقتصاد، ذلك أنه على الرغم من أن الحرب لعبت دورا تاريخيا في صعود قوى وهبوط أخرى، إلا إنها لعبت دائما تقريبا دورا مهما في تعزيز قوة إسرائيل، وكانت منذ حروب العصابات حتى حروب الجيوش الرسمية، واحدا من أهم محركات النمو والتوسع الاقتصادي وليس العكس. ففي حرب يونيو 1967 تمكنت إسرائيل من احتلال أراض عربية تعادل أكثر من 350% من مساحتها قبل الحرب، فأصبحت تسيطر على فلسطين التاريخية بأكملها، إضافة إلى هضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء في مصر. هذه المساحة بما تضمنتها من موارد خصوصا المياه والأرض الزراعية و الطاقة والمعادن، أضافت محركات جديدة إلى النمو الاقتصادي. وبينما كان معدل النمو الاقتصادي في عام 1966 قد انخفض إلى نسبة سالبة (- 0.1%) فقد ارتفع في عام الحرب إلى نسبة موجبة بلغت 3% وتضاعف أكثر من خمس مرات في العام التالي (1968) ليصل إلى 16.2%. وعلى العكس من ذلك فإن مصر تعرضت بسبب الحرب إلى هبوط معدل النمو إلى 0.8% عام 1967 ثم تدهور إلى نسبة سالبة في العام التالي للحرب بلغت (- 1.6%). وبعد حرب أكتوبر 1973 وتوقيع اتفاقية سلام بين البلدين، ورغم استمرار حروب إسرائيل وتوقف حروب مصر، فإن إسرائيل حققت من الحروب نموا أكثر مما حصلت عليه مصر من “ثمار السلام” الموعودة. ويكفي للمقارنة أن نعرف أن قيمة الناتج المحلي الإجمالي في مصر كان يعادل مثيله في إسرائيل عام 1967 (حوالي 5.6 مليار دولار)، لكن إسرائيل تفوقت في العام الماضي بتحقيق 522 مليار دولار مقابل 476 مليارا في مصر. هذا الرقم يخفي حقيقة صادمة وهي أن متوسط الناتج المحلي للفرد (وهو معيار أهم من الناتج المحلي الإجمالي) بلغ في العام الماضي 4295 دولارا في مصر مقابل 54659 دولار للفرد في إسرائيل، أي أن متوسط إنتاج الفرد في إسرائيل يزيد عن مثيله في مصر بحوالي 13 مرة مقابل 8 مرات في عام 1967. هذه المقارنة ما تزال تخفي أيضا مفارقات أسوأ إذا أخذنا في الاعتبار ضرورة المقارنة بين جودة الارقام في البلدين، وكذلك بين نوعية مصادر توليد الناتج. وربما يقدم رقم واحد فقط، هو قيمة احتياطي النقد الاجنبي، معيارا يفصل بين فشل مصر في الاستفادة من ثمار السلام، ونجاح إسرائيل في استثمار اقتصاد الحرب. في مصر يبلغ هذا الرقم 35 مليار دولار، ويتكون أساسا من أرصدة مدينة مستحقة للغير، بينما يبلغ 200 مليار دولار في إسرائيل، ويتكون من موارد حقيقية دائنة غير مستحقة للغير.

وقد كانت الحروب على مر التاريخ وسيلة عنيفة لتحويل النفوذ والثروة من مكان إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن قوة سياسية إلى أخرى. وتعتبر المرحلة الكولونيالية في تاريخ البشرية مثالا تاريخيا على عملية نقل الثروة من خلال تقسيم استعماري للعمل يضمن للدول الاستعمارية الحصول على مواد أولية رخيصة، والدخول إلى أسواق مفتوحة بلا قيود. وما تزال إسرائيل تمارس هذا النمط الكولونيالي في علاقتها مع الضفة الغربية و قطاع غزة و القدس الشرقية، ولكن في صورة أشد وحشية من خلال مصادرة الأراضي لإقامة مستوطنات صهيونية عليها، وقتل السكان الفلسطينيين وتهجيرهم، وتحويل جزء منهم إلى قوة عمل تكميلية رخيصة، تعمل لخدمة قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي. لكن دورة التاريخ تخبرنا بأن قدرة أي دولة على تحويل خسائر الحرب إلى مكاسب في الأجل المتوسط والطويل، تتوقف على كفاءة إدارتها وقدراتها الاقتصادية، وقوة محركات التجديد التكنولوجي محليا. وقد رأينا كيف أن تخلف الدولة العثمانية تكنولوجيا كان من أهم عوامل انهيارها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وكذلك كيف انهارت الإمبراطورية البريطانية بعد أن خرجت مثقلة بالديون في نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو الحال الذي تعاني منه القوة الأمريكية حاليا، التي بدأ الوهن في الظهور على محركات قوتها. وتقدم تجربة إسرائيل التاريخية حتى الآن مثالا واضحا على إمكان تحقيق النمو الاقتصادي مع التوسع في الحرب، طالما أن هناك طرفا آخر يتحمل النصيب الأكبر من عبء تكلفة الحرب. كما أن تحقيق النمو مع التوسع في الحرب يتحقق أيضا طالما كانت الحرب تؤدي إلى إضافة موارد اقتصادية جديدة، تساعد على استيعاب المزيد من السكان. ومن ثم فإن الحرب في التجربة الإسرائيلية تمثل محركا أساسيا من محركات النشأة والنمو. ومن الصعب تصور بقاء دولة دينية صهيونية في إسرائيل دون حرب مستمرة في الأجل الطويل. فالحرب تمنح إسرائيل الفرصة تلو الفرصة لترسيخ صورتها الذهنية باعتبارها “ضحية” محاطة دائما ببحر من الأعداء، والحكم على من ينتقدها بالعداء للسامية والاصطفاف تاريخيا مع النازية الألمانية، التي كانت صناعة غربية بامتياز. وسوف يظهر خطر هذه الدولة على العالم كله في اللحظة التي تتصرف فيها حكومتها من منطق الهيمنة على العالم، والحق في انتهاك قوانين وقيم البشرية.

الحرب والتوسع الاقتصادي
نشأت دولة إسرائيل إنطلاقا من منصة مجتمع مقاتل، تقوده الحرب إلى التوسع والنمو. وإذا اعتبرنا أن “الكيبوتز” كانت الوحدة الاقتصادية الأساسية للاستيطان الصهيوني في فلسطين، فإن الكيبوتز في جوهرها هي وحدة إقتصادية/عسكرية تحمل مضمونا إيديولوجيا يعكس سعي مؤسسو الدولة إلى تعميق وتأكيد العلاقة بين اليهودي المستوطن والأرض في فلسطين. وقد اعتبر بن جورين أن عملية “فلاحة الأرض” هي أساس العلاقة الجديدة بين اليهود القادمين من أوروبا وأرض فلسطين. ومن خلال هذه العلاقة الايديولوجية/الاقتصادية/العسكرية المدمجة، إستطاع المستوطنون اليهود في ظل حكومة الانتداب الأولى بقيادة هربرت صاموئيل وضع أسس إقامة الدولة الصهيونية التي تم إعلان قيامها رسميا في 14 مايو 1948. ونظرا لأن المستوطنين الصهاينة كانوا اقلية محدودة وسط أغلبية فلسطينية متنوعة الديانات، فإننا نستطيع القول بأن تنمية وجودهم في فلسطين قد اعتمد على أربعة مبادئ أساسية. المبدأ الأول هو رفض الاندماج مع الفلسطينيين. المبدأ الثاني هو التركيز على تعميق الارتباط بالأرض من خلال مهنة الفلاحة. المبدأ الثالث هو استخدام التقدم التقني لتحقيق تفوق نوعي لتعويض الضعف الكمي. المبدأ الرابع هو استثمار الحماية البريطانية إلى أقصى قدر ممكن لتمكين المستوطنين من الحصول على المساعدات الاقتصادية والأسلحة والتدريب والدعم الإداري والسياسي. وقد التزمت قيادات الحركة الصهيونية في فلسطين بهذه المبادئ حتى قيام الدولة وتشكيل سلطة سياسية مستقلة، وبناء مؤسسات للدولة الجديدة مستندة على المبادئ نفسها تقريبا. ونستطيع القول بأن حكومات إسرائيل المتتالية منذ إقامة الدولة حتى الآن ما تزال تلتزم هذه المبادئ الأربعة مع مواءمتها لتتكيف مع الظروف. على سبيل المثال فقد حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا، وتحولت الكيبوتس إلى وحدة زراعية/صناعية/تكنولوجية/عسكرية تعتمد على التعليم و التكنولوجيا كمحرك أساسي للنمو. وما المستوطنات الجديدة إلا وحدات اقتصادية/تكنولوجية/عسكرية تمثل طليعة العقيدة الصهيونية التوسعية التي تسعى إلى ابتلاع فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، باعتبارها “الأرض التي وعد بها الرب إسرائيل”.

ومن خلال الكيبوتسات حقق الاستيطان الصهيوني في فلسطين نموا في نسبة السكان اليهود بمقدار 4 مرات تقريبا، من 8.1% من سكان فلسطين في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 (60 ألف يهودي) إلى 32% في عام 1947 قبل إعلان قيام الدولة (630 الف يهودي)، لكن عدد السكان اليهود في فلسطين تضاعف أكثر من عشر مرات خلال تلك الفترة (30 عاما). وكانت هذه الزيادة في عدد السكان اليهود تتخذ هيئتها من خلال تنمية الكيبوتسات وتنظيم العصابات المسلحة التي تتحمل مسؤولية توسيعها لاستيعاب الأعداد الإضافية من المهاجرين. وبعد إقامة الدولة وهزيمة العرب في حرب عام 1948 كانت أهم تداعيات الهزيمة هي انقلاب نسبة عدد السكان اليهود في فلسطين لتصل إلى 82.1% بعد طرد الفلسطينيين العرب. ففي ذلك العام إنخفض عدد سكان فلسطين المحتلة إلى 782 الف شخص، منهم 717 من اليهود إضافة إلى 156 ألفا من غير اليهود. ومع التوسع الاستيطاني واستيلاء إسرائيل على أراض فلسطينية إضافية فإن عدد اليهود في دولة إسرائيل تضاعف عشر مرات ليصل إلى 7.18 مليون شخص بين عامي 1948 و 2023. ومع ذلك فإن نسبة اليهود في الدولة الصهيونية تعرضت لانقلاب تاريخي في عام 2000 لتهبط إلى ما دون 80% من عدد السكان. في ذلك العام هبطت نسبة اليهود إلى 77.8% فقط وما تزال تتراجع حتى بلغت في العام الحالي 73.3% فقط.

هذا التراجع في نسبة السكان اليهود في دولة إسرائيل يفسر حالة الهلع التي يعيشها اليمين الصهيوني الديني والتي تعبر عن نفسها في زيادة حدة العداء للفلسطينيين و غير اليهود عموما، والعودة إلى استخدام أسلوب العصابات المسلحة غير الحكومية لتهجير الفلسطينيين والتوسع في الاستيطان، إلى جانب ظهور موجة من العداء لليهود الليبراليين والعلمانيين بشكل عام و اتجاه الرأي العام الإسرائيلي يمينا عاما بعد آخر منذ أواخر القرن الماضي. كما أن هذا التراجع يفسر أيضا الموقف الإسرائيلي المتشدد ضد فكرة الدولة الديمقراطية ثنائية القومية، باعتبارها خطرا يهدد “يهودية” الدولة، الأمر الذي مهد الطريق لإصدار قانون في هذا الشأن (2018) ينص على ضرورة قبول “يهودية الدولة” من جانب مواطنيها والدول المتعاملة معها وأن يكون هذا القانون هو أساس ممارسة الحقوق السياسية للأفراد والتنظيمات. وفي مقابل التيار الرافض لفكرة الدولة الثنائية القومية ينقسم اليهود إلى تيارين، واحد منهما يؤيد حل الدولتين، بإقامة دولة فلسطينية تعيش في سلام بجوار إسرائيل، والثاني يؤيد نوعا من الحكم الذاتي المحلي للفلسطينيين داخل “كانتونات معزولة” تحت السلطة السياسية والأمنية لدولة إسرائيل، وهو تيار يمكننا وصفه بأنه يحاول تجنب الصدام مع التوجه العالمي لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، مع العمل في الوقت نفسه على إقامة حقائق جديدة على الأرض تجعل حل الدولتين “مستحيلا”، وعند ذلك فإن الدولة اليهودية الواحدة تكون هي الصيغة السياسية العملية الواحدة القابلة للاستدامة.

خسائر حرب غزة مؤقتة

كلما طالت الحرب واتسع نطاقها من مجرد جبهة واحدة إلى عدة جبهات زادت حدة الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة. وطبقا لتقدير المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي السيدة كريستالينا جورجيفا خلال مشاركتها في “منتدى دافوس الصحراء” في السعودية يوم 25 أكتوبر الماضي، فإن القطاعات الاقتصادية الأكثر تأثرا بالحرب في إسرائيل ودول المنطقة بسبب حرب إسرائيل على الفلسطينيين تشمل الطاقة والسياحة، والتأمين على نقل البضائع، و زيادة حذر المستثمرين تجاه الاستثمارات الجديدة والقائمة بالفعل، وارتفاع أعباء اللجوء والمهاجرين، خصوصا في الدول المحيطة بإسرائيل مثل الأردن ومصر ولبنان. كما يمكن أيضا القول بأن تداعيات الحرب من شأنها تعميق وزيادة حدة التفاوت الاقتصادي الإقليمي بسبب القفزة المحتملة في أسعار النفط، خصوصا في حال امتداد نطاق التوتر إلى دول الخليج. كما حذرت مؤسسات الدراسات الاقتصادية الدولية من خطورة تدهور الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وارتفاع تكلفة الإعمار وإعادة البناء، خصوصا وأن أكثر من ثلاثة أرباع سكان قطاع غزة يعيشون على المساعدات الإنسانية الدولية. وقد لاحظنا أن هناك تقديرات مبالغ فيها لبعض بيوت الاستثمار والاستشارات المالية، مثل جى بي مورجان الذي يتوقع هبوطا في الناتج المحلي الإسرائيلي بنسبة 11% في الربع الأخير من العام الحالي، مع انتشار التداعيات السلبية في سوق الصرف وأسعار الأسهم والسندات وسوق العمل وغيرها. كما توقع البنك الدولي أن يقفز أسعار النفط بسبب الحرب إلى 150 دولار للبرميل، بما يعنيه ذلك من تراجع معدل النمو العالمي، وارتفاع معدل التضخم بسبب زيادة تكلفة الطاقة والغذاء.

تقدير بنك إسرائيل لخسائر الحرب
أعد بنك إسرائيل دراسة دقيقة للتداعيات الاقتصادية لحرب غزة، سواء على الجانب العيني الحقيقي، أو على الجانب المالي. وبناء على تقدير الحاجة إلى زيادة الإنفاق لتجنب حدوث هبوط حاد في الاقتصاد العيني، والانحفاض المتوقع في الإيرادات، الذي سيؤدي إلى زيادة العجز المالي للحكومة، ومقارنة الزيادة المتوقعة في الإنفاق للسنة المالية الحالية، بالزيادة في الإنفاق خلال فترة مكافحة تداعيات جائحة كورونا، فإن البنك استخلص نتيجة مفادها أن الاقتصاد ما يزال في وضع افضل لمواجهة تكلفة حرب غزة.

ودعا أمير يوران محافظ البنك المركزي الإسرائيلي إلى ضرورة اتباع سياسة مالية مسؤولة، وهو ما يعني ألا تنساق الحكومة لزيادة الإنفاق بمعدلات مفرطة تحت ضغط الحرب. لكنه توقع في الوقت نفسه أن ترتفع نسبة الدين العام إلى الناتج اعتبارا من العام الحالي لتصل إلى 62% هذا العام ثم إلى 65% عام 2024 مقابل 60.5% فقط في العام الماضي. هذا التقدير من جانب بنك إسرائيل يشير إلى أن التكلفة المتوقعة لحرب غزة ستؤدي إلى زيادة معدل الدين العام/الناتج بنسبة أقل من تلك التي سجلتها زيادة الإنفاق الحكومي خلال جائحة كورونا التي رفعت معدل الدين العام إلى 72% من الناتج. وليس من المتوقع أن تؤدي زيادة الدين العام إلى تداعيات سلبية خطيرة، نظرا لأن الحكومة تتمتع بوجود هامش واسع للمناورة. و بسبب تداعيات الحرب يتوقع البنك انخفاض معدل النمو في العام الحالي بنسبة 0.7% عن التقديرات السابقة إلى 2.3% بدلا من نمو بنسبة 3%. وقدرت وزارة المالية خسائر إسرائيل المباشرة في الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب بحوالي 7.5 مليار دولار، أي ما يزيد عن 357 مليون دولار يوميا.

المساعدات الأمريكية
من المتوقع أن تلعب الولايات المتحدة من خلال برنامج المساعدات الاقتصادية والعسكرية دورا جوهريا في الحد من الآثار السلبية الإقتصادية للحرب. وقد أظهر تصويت مجلس النواب الأمريكي على حزمة مساعدات منفصلة لإسرائيل بقيمة 14.3 مليار دولار أن الجمهوريين والديمقراطيين تجمعهم سياسيا رابطة التفاني في إعلان التأييد لإسرائيل، وتجاهل خلافاتهم السياسية عندما يتعلق الأمر بأدق الخلافات وأكثرها حساسية. وقد عبر عن ذلك رئيس مجلس النواب مايك جونسون بقوله أن الموافقة على المساعدات لإسرائيل هو بمثابة “رسالة للعالم بأن أي تهديدات ضد إسرائيل أو الشعب اليهودي سوف تقابلها ردود قوية (من جانب الولايات المتحدة)”. قيمة المساعدات الإضافية التي ستحصل عليها إسرائيل (14.3 مليار دولار) تتجاوز ثلاثة أمثال المساعدات العسكرية السنوية التي تحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة، التي أقرتها إدارة أوباما عام 2016 وبدأت في الحصول عليها عام 2019. حزمة المساعدات الجديدة لم تتضمن أي مخصصات للمساعدة الغذائية لقطاع غزة. وقد تم التصويت على تمرير مخصصات المعونة العسكرية لإسرائيل في قراءة منفصلة حصلت على أغلبية 226 مقابل 196 في مجلس النواب، بعد أن انضم 12 نائبا ديمقراطيا إلى الجمهوريين. وقد عارض الجمهوريون الذين يسيطرون على مجلس النواب تمرير حزمة التمويل الإضافي للمساعدات الخارجية التي طلبها البيت الأبيض بقيمة 106 مليارات دولار، التي تتضمن مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان، وبرنامج تقوية الحدود والمنافذ الحدودية الأمريكية، ومخصصات برامج المساعدات للدول الصغيرة في منطقة المحيط الهادي/الهندي. وليس من المعروف حتى الآن ما إذا كان الرئيس الأمريكي سيعارض قرار الكونجرس، في حال الموافقة عليه في مجلس الشيوخ، أم سيطلب إعادة التصويت على المساعدات لإسرائيل على أن تكون ضمن حزمة الـ 106 مليارات دولار وليست قانونا منفصلا.

وتاتي الولايات المتحدة على رأس الدول المانحة للمساعدات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية إلى إسرائيل بقيمة بلغت 317.9 مليار دولار حسب البيانات الرسمية الأمريكية. وفي السياق نفسه فإن إسرائيل تسعى إلى استخدام حرب غزة على أوسع نطاق ممكن من أجل الحصول على المساعدات، لأغراض تعويض خسائر الحرب، وزيادة الإمكانيات المادية العسكرية والاقتصادية. وليس من المتوقع أن تواجه هذه المرة أي مشكلة في الحصول على كل ما تريد من مساعدة من الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية.

وفي كل الأحوال فإن الاقتصاد الإسرائيلي ليس مصمما على احتمال تداعيات الحروب الطويلة المدى، لكنه يستطيع التكيف مع الحروب القصيرة الأجل، التي تعد من حيث المدى الزمني بالأيام مثل حرب يونيو 1967 أو بالاسابيع مثل حرب غزة 2014 أو بالأشهر والسنين مثل حرب لبنان 1982. ومن أكثر التداعيات تأثيرا على الاقتصاد الإسرائيلي ما يتعلق بتأثير استدعاء جنود وضباط الاحتياط إلى الخدمة العسكرية. ويبلغ عدد هؤلاء في الحرب الحالية حوالي 360 ألفا، أي ما يعادل 3.7 في المئة من قوة العمل الإسرائيلية.

وبناء على متوسط الناتج المحلي للفرد في إسرائيل في عام 2022 الذي يبلغ 54 ألفا و 968 دولارا سنويا، أي ما يعادل حوالي 151 دولارا يوميا، فإن استدعاء 360 ألفا من القوى العاملة للخدمة العسكرية، يتسبب في خسائر مباشرة تبلغ حوالي 54.2 مليون دولار يوميا، أي ما يصل إلى 4.9 مليار دولار إذا استمرت الحرب حتى نهاية العام الحالي، بما يعادل خسارة 1.16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. أما إذا استمرت الحرب لمدة 12 شهرا فإن خسائر فقدان أيام العمل فقط ستصل إلى 19.8 مليار دولار، أي ما يعادل 4.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. هذه الخسارة هي جانب واحد فقط من الخسائر في الاقتصاد غير العسكري يتعلق بالعمالة. وهناك أيضا تكلفة الحرب المباشرة التي تشمل استعواض الأسلحة وقطع الغيار وتوفير الوقود والإمدادات اللوجستية.

وتتضمن الخسائر في قطاعات الاقتصاد المدني، تراجع أعداد السائحين، وحركة رحلات الطيران، ونقص معدل الأشغال في الفنادق، وتوقف النشاط الاقتصادي تماما في المناطق المقفلة بسبب العمليات العسكرية حول قطاع غزة وشمال إسرائيل التي تشمل ما يقرب من 60 مدينة وبلدة وقرية كان يسكنها أكثر من 80 ألف شخص، أصبحت بعد إخلائها مجرد مدن أشباح. ومن أهم الخسائر التي تعرض لها الاقتصاد المدني توقف الإنتاج في حقل “تمار” البحري للغاز الذي يقع على بعد 25 كيلومتراً قبالة مدينة عسقلان على ساحل البحر المتوسط جنوب إسرائيل. ففي يوم الإثنين التالي لعملية “طوفان الأقصى” أعلن وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي “إسرائيل كاتس” وقف العمل في حقل “تمار” البحري للغاز مؤقتا، خشية تعرضه للخطر بسبب العمليات العسكرية، نظرا لقربه من مسرح العمليات في جنوب إسرائيل. كما يعود القرار إلى أن خط الأنابيب الذي يتم استخدامه في تصدير إنتاج الحقل إلى مصر يمر قريبا جدا من سواحل قطاع غزة، ومن السهل تعرضه للخطر بسبب العمليات. وكانت حماس قد استهدفت منصات استخراج الغاز في عام 2014 بإطلاق الصواريخ.

وكان إنتاج الحقل في العام الماضي قد وصل إلى 10.25 مليار متر مكعب من الغاز، وتم استخدام نسبة 85 في المئة من الإنتاج لتلبية احتياجات توليد الكهرباء محليا، في حين تصدر إسرائيل إلى كل من مصر والأردن نسبة تعادل 15 في المئة تقريبا، لاستخدامها في توليد الكهرباء (الأردن) وتشغيل محطات الغاز المسال (مصر) لغرض التصدير إلى أوروبا.
وفي القطاع المالي إضطر بنك إسرائيل المركزي إلى التدخل في سوق الصرف الاجنبي لتخفبف الضغوط على الشيكل. وبلغت قيمة مبيعات البنك من احتياطي النقد الاجنبي خلال الايام الاولى من عملية “السيوف الحديدية” حوالي 30 مليار دولار لمنع تدهور قيمة الشيكل. قفزت تكلفة التأمين على السندات الحكومية تحوطا لاحتمال مواجهة صعوبات في السداد من 45 نقطة أساس إلى 109 نقاط بعد أيام من بدء الحرب، وتراجعت قيمة الشيكل، وزادت خسائر البورصة في اليوم الاول للتداول بعد الهجوم على المستوطنات الإسرائيلية إلى ما يقرب من 7 في المئة من القيمة السوقية للأوراق المالية المتداولة، وبدأت موجة هروب للاستثمارات الأجنبية خصوصا في قطاع التكنولوجيا والشركات الناشئة، وهو ما أدى بمؤسسات التقييم الائتماني إلى تعليق مراجعة التقييم من جانب مؤسسة “موديز”، بينما قررت فيتش وضعها تحت المراقبة السلبية، مع احتمال تخفيض تصنيفها، للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل بسبب التداعيات الاقتصادية المحتملة للحرب في غزة.

الريادة التكنولوجية
يعتبر قطاع شركات الريادة التكنولوجية من أكثر القطاعات تأثرا بتداعيات الحرب، وذلك لعدة أسباب منها ارتفاع نسبة جنود وضباط الاحتياط الذين تركوا أعمالهم لأداء الخدمة العسكرية، وانسحاب عدد من الشركات الأجنبية العاملة في القطاع، أو نقل مقراتها الإقليمية إلى خارج إسرائيل، إضافة إلى الانخفاض الحاد في الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع منذ أوائل العام الحالي بسبب سيطرة التيار الديني الصهيوني المتطرف على الحكومة الإسرائيلية. وقد كانت الخسائر في أسهم شركات التكنولوجيا أكبر من غيرها في القطاعات الأخرى، حيث خسرت سوق الأوراق المالية في تل أبيب حوالي 40 مليار دولار من القيمة الإسمية للأسهم في الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب.

وقد عبر تومر سايمون كبير العلماء في مركز الأبحاث والتطوير التابع لشركة مايكروسوفت في إسرائيل عن مخاوفه ومخاوف شركات التكنولوجيا في رسالة مكتوبة وجهها إلى مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنجبي لكنه لم يتلق ردا.
وبناء عليه، فإنه نشر نص رسالته في صحيفة كالكاليست الاقتصادية، قائلا إن هذا رأيه الشخصي ولا يمثل مايكروسوفت التي تعد واحدة من مئات الشركات متعددة الجنسيات العاملة في إسرائيل. وقال سايمون إنه “يجب على البلاد أن تخلق أفقا إيجابيا حتى تستمر الشركات متعددة الجنسيات في النمو”، مشيرا إلى أنه مقابل كل وظيفة تكنولوجية هناك خمس وظائف أخرى تستحدث مما يدعم الاقتصاد الإسرائيلي. وأضاف “هناك خطر كبير هنا. لا يمكن لإسرائيل العودة إلى إنتاج البرتقال فقط. وبدون التكنولوجيا الفائقة سنعود إلى اقتصاد العالم الثالث، في إشارة إلى أن إسرائيل حتى بداية سبعينات القرن الماضي كانت صادراتها تتكون أساسا من البرتقال والألماس، من أن الشركات متعددة الجنسيات قد توقف أنشطة الأبحاث والتطوير في إسرائيل. وطبقا لتقارير السوق حاليا فإن 26% من الشركات ما تزال متوقفة عن توظيف عمالة جديدة مقابل 35% عادت إلى معدلات التشغيل السابقة للحرب، و 5% تطلب عاملين أكثر مما كانت. لكن قطاع شركات الريادة التكنولوجية ما تزال تعاني من الركود الشديد، حيث ما تزال مستويات التشغيل حتى الآن أقل بنسبة 70% عما كانت عليه قبل الحرب.

خاتمة
يواجه الاقتصاد الإسرائيلي ضغوطا وصعوبات بسبب الحرب على غزة التي امتد لهيبها إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية وجنوب لبنان. وقد جاءت هذه الحرب في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد قد بدأ التعافي من تداعيات جائحة كورونا، وركود الاقتصاد العالمي، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء ومعدلات التضخم. وتشير النتائج والتقديرات الأولية إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي لديه قوة كافية لتحمل ضغوط الحرب. لكن قوة التحمل تلك تنخفض كلما طالت مدة الحرب و تعددت جبهاتها؛ فالاقتصاد الإسرائيلي مصمم هيكليا لاستيعاب الصدمات القصيرة الأجل، بما في ذلك صدمات الحروب السريعة الخاطئة. وفي حال طال أمد الحرب فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة الضغوط إلى الحد الذي يستدعي تغيير السياسة الاقتصادية، وزيادة الاعتماد على الخارج لبناء قوة تحمل أكبر. وفي هذه الحالة فإن المساعدات الأمريكية ستلعب دورا جوهريا في زيادة القدرة على تحمل صدمة الحرب.

ومع ذلك فإن مؤشرات الأداء الاقتصادي منذ بدء الحرب حتى الآن لا تظهر ضغوطا غير عادية، بل إن البنك المركزي الإسرائيلي يعتقد أنه في وضع أفضل الآن عما كان عليه خلال فترة مكافحة الجائحة، مع التأكيد على ضرورة أن تنتهج الحكومة الإسرائيلية سياسة مالية مسؤولة، لا تهدد الاستقرار الاقتصادي، خصوصا مع الانخفاض المتوقع في معدل النمو، وزيادة الدين العام. وتتحمل إسرائيل بسبب الحرب خسائر يومية تقدر بنحو 357 مليون دولار يوميا، لكنها تتوقع استئناف النمو بمعدلات قوية بمجرد انتهاء الحرب، خصوصا في قطاع الشركات التكنولوجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *