ماكرون يفشل في الحصول على الأغلبية التشريعية في فرنسا.. وانتصار “مر” لتحالف ميلانشون اليساري

مونت كارلو 

حصد التحالف اليساري الذي شكله جان لوك ميلانشون المركز الثاني من حيث عدد المقاعد بنتيجة الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي جرت الأحد 19 يونيو. رغم ذلك، فإن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف هو صاحب الديناميكية الأكثر إثارة للدهشة بين جميع الأحزاب السياسية الفرنسية. 

صحيح أن حركة ميلانشون “فرنسا العصية” حصدت 76 مقعداً مقابل 17 بنتيجة انتخابات 2017، إلا أنها ربما لم تكن لتتمكن من ذلك لولا التحالف العريض الذي ساهمت بتكوينه بين أربع قوى يسارية لا يكاد يجمعها شيء على الصعيد الأيديولوجي. بالمقابل، فإن حزب مارين لوبان انتقل، لوحده وبدون أي تحالفات من أي نوع، لا مع يمين الوسط ولا حتى مع أقصى اليمين (إريك زمور)، من 8 مقاعد في 2017 إلى 89 مقعداً. 

النتيجة الهائلة تخفف إلى حد كبير من ادعاءات الديناميكية الشعبية الكاسحة التي طرحتها وروجت لها ماكينات ميلانشون الدعائية، كما أن من المعلوم اليوم إن تحالفاً بين قوى اليمين الفرنسي، مشابهاً لما تمكن اليساريون (يسار وسط واليسار الراديكالي) من إنجازه، كان ليضع التحالف اليساري خلفه ببساطة ويصبح قوة المعارضة الرئيسية في البلاد. ليس “انتصار” اليساريين نتيجة لديناميكية شعبية جديدة أو لدخول قطاعات جديدة في خزانهم الانتخابي، بل يعود لتشتت خصومهم من اليمين ولضعف شعبية الرئيس ماكرون. 

كل ما سبق يجعل انتصار تحالف اليسار، وقائده ميلانشون على الخصوص، انتصاراً بطعم الهزيمة أو انتصاراً مرّاً لأن الفرصة التي سنحت اليوم من الصعب أن تسنح مجدداً، أي فرصة النجاح في إنجاز تحالف اللامعقول بين قوى اليسار، ومواجهة تحالف رئاسي في أسوء أوقاته، وخوض المنافسة مع يمين مضطرب تنهشه الخصومات. 

وكان التحالف اليساري قد احتفل في ختام الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية بالنتيجة التي حققها وعمت الفرحة أوساط قياداته وكوادره بما وصف بالانتصار التاريخي الذي تنتظر توكيده بفرض ميلانشون رئيساً لوزراء ماكرون. 

لكن ما هي الوقائع الفعلية خلف أرقام نتائج الانتخابات؟ وهل تمكن التحالف فعلاً من فرض ديناميكية جديدة لتحالف “شعبي” واسع الطيف روج لها على مدى شهور؟ هل “دقّت ساعة الشعب” كما يعلن نائب قائد الحركة؟ كيف تكوّن هذا التحالف وما هي حظوظ بقائه متحداً لا تدمره الخلافات الداخلية؟ 

من الأكيد أن مرشحي التحالف، المكون من فرنسا العصية والحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي وأحزاب الخضر، قد حلوا في المرتبة الثانية بعد تحالف الرئيس ماكرون ومن الأكيد أنهم نافسوا بشدة على مقاعد الأغلبية مع خسارة تحالف ماكرون. وكذلك فإن حنكة ميلانشون الشهيرة تحسب له في ترويض أحزاب التحالف الثلاثة وفرض نفسه قائداً فعلياً لتحالفها البرلماني. كل شيء مسموح لبلوغ الهدف. 

تمكن ميلانشون في النهاية من جمع “اليسار” تحت مظلته جاعلاً من “توحيد اليسار” مشروعه الوحيد الباقي بعد الفشل في استقطاب ذوي الحساسية غير اليسارية. ولكن التدقيق في الوعود بديناميكية شعبية كاسحة، بتحرك الشعب والتفافه حول التحالف، بجذب قطاعات شعبية جديدة عازفة عن التصويت أو مصوّتة لليمين المتطرف، سيضعها فوراً محل شك ويخفف من تاريخية الانتصار اليساري. 

انضمت الأحزاب الثلاثة إلى “فرنسا العصية” لضمان مقاعد لها في البرلمان بعد الهزائم الساحقة التي منيت بها في انتخابات سابقة أدت إلى مسح بعضها كلياً عن الخريطة السياسية. والعارف بالتاريخ القريب للعلاقة الشائكة والمتوترة التي تربط ميلانشون بحزبه الاشتراكي السابق وكذلك بحلفائه الشيوعيين السابقين، عدا عن الخضر الذين لا يشاركون ميلانشون شيئاً من طموحاته، سيهلل بحماس أقل نسبياً لانتصار اليسار. 

لدينا في الحقيقة يسارات أربع اضطرت مرغمة على التشارك في معركة الانتخابات: 

دمرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة الحزب الاشتراكي وتسببت في تقليص نفوذه عملياً إلى أبعد حد. كان الحل الوحيد، ورغم الاعتراضات الهائلة على كل شيء تقريباً في برنامج ميلانشون، هو الانضواء تحت التحالف العريض لضمان استمرار الوجود. لكن إيديولوجيا الحزب الاشتراكي، الموالية للاتحاد الأوروبي، المصادقة على سياسات التقشف، الداعمة للحفاظ على الطاقة النووية، المتوافقة مع العولمة، الراغبة بتحالف أوثق مع الولايات المتحدة والناتو، المعادية لروسيا بوتين والمطالبة بتسليح الأوكرانيين، العاشقة للمدن الكبرى وسكانها المتحركين، المطبعة تماماً مع الرأسمالية عكس ما يوحي اسمها، لا يمكنه أن يتفق مع دعوات ميلانشون المعاكسة شكلياً لكل ما سبق. 

الحزب الشيوعي الذي خرج من تحالف قديم مضن مع ميلانشون وخاض الانتخابات الرئاسية وحده، واتهمه كوادر ميلانشون بالخيانة لأنه قدم مرشحاً مستقلاً ولم ينتخب ميلانشون، تربطه بالزعيم خلافات أكثر بكثير مما هو متصور. لا يشارك الحزب الشيوعي شيئاً من ادعاءات ميلانشون الصريحة أو المبطنة. فهو معارض شديد للاتحاد الأوروبي (بينما لم يعد موقف ميلانشون من هذه القضية مفهوماً)، وداعم بشدة للطاقة النووية (فيما يريد ميلانشون إغلاق كل المفاعلات فوراً لإرضاء الخضر)، مناهض شديد للإسلام السياسي ومدافع قوي عن علمانية راديكالية (في الوقت الذي يستميت فيه ميلانشون لكسب أصوات المسلمين)، عدا عن المشاكل الشخصية بين قيادات الشيوعي وميلانشون الذي ينزع في تحالفاته نحو الهيمنة. إن واحدة من أبرز القضايا التي تشغل بال الحزب الشيوعي الفرنسي وتساهم في رسم سياساته هي هوسه في الحفاظ على استقلاله بالنسبة لقوى اليسار الأخرى. 

بأكثر العبارات صراحة، قال السكرتير الوطني للحزب الشيوعي فابيان روسل ليلة إعلان نتائج الانتخابات التالي: “لم يسمح التحالف بالحصول على الأغلبية” كما أنه “لم يمنع العديد من الناخبين من التحول إلى مرشحي التجمع الوطني واليمين المتطرف”. ويكمن الخطأ بالنسبة له في أن التحالف “تعامل مع جزء من فرنسا فقط، جزء من المدن وليس الجزء الريفي (…) وصلنا إلى حدود ما يمكننا القيام به”. 

أما مشاكل الخضر مع ميلانشون فهي بلا نهاية أيضاً. فبعد تاريخ طويل من الدفاع عن النزعة الإنتاجية والاستهلاكية خلال سنواته الاشتراكية الديمقراطية، اكتشف ميلانشون فضيلة البيئة والمناخ وعمل سريعاً على تطوير خطاب بيئوي قريب من الخطاب الكارثي الأخضر أملاً في “سرقة” أصوات البرجوازية المدينية الشابة خاصة. ومن غير الأكيد أن ترد قيادات الأحزاب الخضراء بالموافقة حول ما إذا كانت تعرف نفسها كاشتراكية أو يسارية، لكن ميلانشون يسميها يسارية وهذا هو المهم. حركة ميلانشون التي تنسب لنفسها ادعاءات كبرى كقلب النظام الرأسمالي ودحض “المَلكية الجمهورية” بالانتقال إلى جمهورية سادسة، والانحياز للعمال والفلاحين والمعدمين والعاطلين والفقراء على وجه العموم، لا تجد صدى في صفوف الخضر المشغولين حصراً بمنع الطائرات والسيارات والمبيدات الحشرية وإغلاق المفاعلات النووية وفرض الدراجات الهوائية… والكتابة غير المتحيزة جنسياً. وافق ميلانشون طبعاً على كل ذلك في سبيل تكوين التحالف الجديد، كما وافق في غير مكان على طلبات الشيوعيين والاشتراكيين المتناقضة فيما بينها أشد التناقض. 

بالنسبة لليسار الميلانشوني، فهو خلطة عجيبة من كل ما سبق يضاف إليها و/أو ينقص منها عناصر مختلفة تبعاً للظروف مما يجعل بابها مشرعاً لكل الأهواء الأشد اختلافاً. فبعد سنوات من محاولات بناء كتلة قادرة على حيازة الهيمنة الشعبية لا تسمي نفسها يسارية ولا تنشغل بالتحالف مع اليسار ضد اليمين، بل تنطلق مما تعتقده هموم الطبقات الشعبية وتقدم لها برنامجاً يتجاوز طموحاتها، بدأت الحركة تتراجع خطوة ثم خطوات عن برنامجها الأولي، وباتت اليوم بفضل قياداتها الأكثر تمسكاً بمصفوفة الانقسام بين يسار ويمين ميداناً لكل الطامحين الأبارتشيك ومصنعاً يعاد فيه تدوير اليسار الأمريكي الهوياتي. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *