كارم يحيى يكتب: هيا نشاغب محمد العزبي عن الصحفيين والجنة

زرت الكاتب الصحفي الأستاذ “محمد العزبي” بمناسبة عيد ميلاده الحادي والتسعين، وشاكرا ممتنا لقيامه بإهدائي نسخة من كتابه الجديد: “هل يدخل الصحفيون الجنة؟”. وقد أكرمني و كتب” كلمتين وبس” أعلى الصفحة الأولى للكتاب. وهما : “لعلك ترضى” قبل توقيعه، وبقلم حبر أزرق باهت اللون لايستفز ولا يزعج.

وفي هذا الإيجاز مايوحي بأن هذا القلم صاحب مقالات وأعمدة الرأي المحترمة النادرة في صحافتنا المصرية على مدى نحو النصف قرن يراني ومن على شاكلتي في موقع “المتطرف” مما هو عليه. أو مما أصبح عليه.
وربما ليس هكذا .. والله أعلم بنيات الكاتب الطيب.

ما في الكتاب الجديد مقالات تم نشرها في ” المصري اليوم”، وقد نقل إليها “العزبي” عنواني مقالاته الشهيرة في جريدة ” الجمهورية ” “بعيون مصرية” و ” من غير ليه”. و أيضا مقالات أخرى بموقع “مصر المحروسة نت” الإلكتروني. وكذا مقال يتيم عن الفنان “عادل إمام” في جريدة صدرت ولم تعمر طويلا اسمها :”الطريق”. وكل هذه المقالات منشور بين عامي 2014 إلى 2018. وهذا مع العديد من النصوص/ المقالات غير المؤرخة بالكتاب، علمت من إتصال هاتفي معه إنها منشورة بالأصل قبل سنوات في الصحيفة / الموطن الأصلي ومستقر الكاتب لعقود ” الجمهورية”. وهذا قبل أن يغلق الأستاذ ” العزبي” الباب خلفه، ويطوى صفحتها تماما ونهائيا، بعدما تعرض لمضايقات السادة الزملاء الأبناء الرقباء وعدوانهم على ما يكتب. وهذا بسلطة المناصب و”رهاب” خوف السلطة ونفاقها معا.

وفي حكاية أستاذنا مع الكتابة للصحافة وحتى اليوم وإن ندرت وأصبحت كالعنقاء والخل الوفي، مايدهش ويؤلم. وعلى الغلاف الأخير للكتاب أعاد نشر ما أبكانا وصدمنا على صفحته بالفيس بوك مع نبأ وفاة نجله المهندس “سامح “رحمه الله قبل نحو العامين.

كتب:” تركني (سامح) ابني وسندي حبيبي.. ذهب وحده للقاء ربه. كنت أتوكأ عليه في شيخوختي، وأرى الدنيا بعينيه بعد أن ضاع البصر، وائتمنته على وصيتي بعد موتي، فإذا به يخدعني ويموت قبلي”.
في نصوص كتاب “هل يدخل الصحفيون الجنة؟” ، وكما في كتابات منشورة سابقا لكاتبنا، ما يكشف عن عمق تأثير تجربتي الاعتقال والفصل من العمل على الصحفي المصري وبخاصة منذ يوليو 1952، وماتبعها من قرار الرئيس الراحل عبد الناصر “تنظيم” أو “تأميم” أو ” مصادرة” كبريات الصحف المصرية. وللقارئ أن يختار منها ما يوافق هواه وقناعاته.. وما يحب أن يرى أو لا يرى.

ثمة في الكتاب الجديد استعادة وبالإحاح لاعتقال نظام الرئيس الراحل “عبد الناصر” خلال عام 1966 للكاتب الصحفي / مؤلف هذا الكتاب مع مجموعة من المثقفين المبدعين كالراحلين “الأبنودي” و”سيد حجاب” و”غالب هلسا” و”صلاح عيسى” ولشقيقه الصحفي والمحرر مترجم الأخبار الخارجية القدير البشوش الساخر الأستاذ “محمد العزبي” في قضية تنظيم شيوعي، لم يكن بالأصل له وجود. وهكذا حتى تم الإفراج عنهم بتدخل من الفيلسوف والأديب الفرنسي العالمي “سارتر” قبل زيارته الشهيرة لمصر، وبأشهر معدودة سبقت هزيمة يونيو 67.

وعن فصل الصحفي يكتب ” العزبي” عن تجربة صديقيه الراحلين ” صلاح عيسى ” و” رياض سيف النصر ” في “جمهورية” الثمانينيات. يكتب بذاكرته وبوجدانه. ومن فرط وقع ظلم الصحفي رئيس مجلس الإدارة للصحفي غير المحبوب من السلطة وأجهزتها، يكتب وكأن “العزبي” وعلى بعد هذه السنوات يتوحد مع الضحايا. وكأنه هو الذي عاش مرارة تجربة الفصل عن العمل والكفاح والتعب من أجل العودة. وحتى أن القارئ يخال أن الكاتب يخاف إلى اليوم أن يناله من الفصل نصيب، وهو في بيته وعلى سريره في غرفة النوم متنعما براحة بال من غادروا صحفهم بعد الستين.

في نصوص الكتاب مايتراوح بين الحديث عن “وفاة الصحافة” ومعها عبارة “إن أزمة الصحافة ليست اقتصادية فقط بل هي في الأساس أزمة محتوى وافتقار الحرية” وبين عنوان ” لسة الصحافة ممكنة”. وهذان القطبان يضفيان على الكتاب توترا يصيب القارئ بالحيرة. ولعل في هذا ما يترجم توتر الكاتب الصحفي بعد كل هذا العمر عندما يسأل نفسه: هل اتجشم تعب ومعاناة الكتابة ؟ ..ولماذا؟ ومن ينشر ؟.. ومن يقرأ ؟.. ومن يصدق ما نكتب ؟. وربما في قلب هذه المعاناة / البلاء/ الجحيم يحاول ” أستاذنا”، ولا أقول ” شيخ الصحفيين اليوم”، أن يطل علينا مؤخرا كل شهر أو يزيد من صفحات “يوميات الأخبار”. فهل يشعر مع كريم الضيافة بأنه ” غريب الدار”؟.

الكتاب في أسلوبه ـ وبنصوصه المكتوبه غالبا بعد الثمانين من العمر ـ يبدو وكأنه يقوم على الجمل الانطباعية وبثقة وبصيرة وبجرأة من عرك مهنة الصحافة وحياة الصحفيين لمايزيد على الستين عاما. ومايلفت النظر أيضا هو الإيقاع السريع لتلاحق هذه الأحكام الانطباعية واستدعاءات الذاكرة حتى ولو بدت متناقضة. تقول الأمر وعكسه. ولا أعرف لماذا بعدما إنتهيت من القراءة حضر عندي التشبيه بحدقة العين سريعة الحركة والتنقل. حفظ الله لأستاذنا ما تبقى له من بصر.

و” محمد العزبي” معروف في كتاباته وعلاقاته المهنية والاجتماعية بين الصحفيين بأنه هادئ ولا يجرح،وبقدرته على الاحتفاظ بصداقات بين مختلف القبائل والعشائر والذوات المتنافرة المتخاصمة، وكذا النرجسية المتضخمة كعادة أكابر أهل مهنتنا.
وربما لهذا، لا تخلو كتاباته بدروها من “مجاملات”. وهو ما يتجسد في هذا الكتاب على نحو خاص. لكن هذه الوداعة و”اللطف” لاتفقده صفة ” المحارب على البارد ” في الحق. وهو تعبير اكتشفته عندما أغلقت دفتي هذا الكتاب شاعرا بأنني كنت ألاحقه جريا، وأنا الهث خلف كلماته وعباراته.
وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة أن كتاب “العزبي” الأخير يبدو مجاملا لواقع وشخصيات في المهنة والحياة العامة أكثر مما كان عليه كتابه السابق “الصحافة والحكم” قبل سنوات. وهذا مع أن كتاب “هل يدخل الصحفيون الجنة؟” ينتهى بهذه الجملة :”.. وأحزن بعد قراءة الصحف”. وربما كانت هذه الملاحظة وليدة اختلاف الظروف الموضوعية والسياق العام في البلد بين تاريخي الكتابين، وليس وحسب لاعتبارات ذاتية تتعلق بمؤلفهما.

وإذا ماحاولنا أن نفهم أكثر ما أشرت إليه سابقا عن ” التوتر” و” المجاملات” دون إلقاء راية “المحارب على البارد” سأضرب مثالا تطبيقا واحدا، وأكتفي تجنبا للإطالة. تحت عنوان ” لا أحد يقرأ الصحف في العيد” يفاجئ الكاتب القارئ بعد سردية ناقدة ساخطة على أحوال الصحافة والبلد وحكومتها ووزرائها ومستشاريها وغيرها الكثير بفقرة تبدأ بهذه العبارة :” أنا أحب السيسي لأسباب كثيرة …”. لكنه سرعان ما يعود بعد أسطر معدودة ليخبرنا نقلا عن صديقه الصحفي ” توماس جورجسيان” بحكاية إهداء وزير دفاع أمريكي كتابا حديثا عن حياة الجنرال “جورج واشنطن” الرئيس المؤسس للولايات المتحدة ولديمقراطيتها للسيسي ، ومع الإشارة لعنوان الفصل الأخير من هذا الكتاب :” كيف ابتعد الجنرال الأمريكي عن السلطة؟” . وسريعا وعلى الفور تحضر العبارة تالية ومباشرة :” ليصبح السؤال: هل ستصبح جورج واشنطن أم حسني مبارك؟إ”. وبحركة عين سريعة وكأن “العزبي” يخلي مسئوليته هو عن السؤال، ينهى القصة ومعها الفقرة كاتبا :”عسكريون مصريون قالوا للوزير الأمريكي: خليك في حالك!”. وللعلم فإن هذا النص/ المقال منشور بتاريخ 16 أكتوبر 2013 قبل تولي المشير ” السيسي” الرئاسة.

ولمحاولة المزيد من فهم أسلوب “محمد العزبي” يمكن العودة لعبارات في حواره مع صحيفة ” الشروق ” المصرية بتاريخ 12 مارس 2017 . حينها قال :” نادرا ما وجهت التحية لرئيس أو وزير، ولم أدق الطبول أبدا. ولم أسئ لأحد، ولم اكذب كثيرا”. وقال أيضا :” كلنا نكذب قليلا .. لو قلت لم اكذب أبدا فهذه عنتريات”.
*
قبل أيام و بمناسبة كتابه الجديد نشر رئيس تحرير سابق لجريدة قومية شهير بالمقال مانشيت الصفحة الأولى:” مصر ولدت من جديد” في عيد ميلاد الرئيس “مبارك” صاحب السبعين مليار دولار مع نجليه في بنوك سويسرا عن الأستاذ “العزبي” وعن الكتاب، و في الجريدة نفسها.

أما العبد لله الذي كان قد تمكن من النشر عن كتاب “العزبي” السابق ” الصحفيون و الحكم ” في جريدة ” الأهرام ” بتاريخ 8 ديسمبر 2015 فقد احتار اليوم أين ينشر عن كتابه الأخير؟.
لكن ومع هذا، ها هو هذا المقال يجد طريقه للنشر أو لنقل “الحجب”، والحمد لله ، في موقع “درب” الإلكتروني . وهو واحد من بين مئات المواقع الصحفية المصادرة المحاصرة منذ صيف 2017 في “مصر التي عادت و ولدت من جديد”. واعترف بأن صاحب ” مصر ولدت من جديد” عنده الحق فيما كتب متنبئا بدخول كل الصحفيين الجنة. وهذا إذا ساروا على درب أستاذنا “العزبي”، كما كتب ونشر. وأخاله بالطبع يفكر في نفسه أولا.
صحيح عنده حق في كل هذه الثقة وكل هذا التعميم. أما العبد لله فهو ممن يتشككون ـ وفي تواضع مع كل معاناتهم لعقود في صحافة النشر بالمناصب وعلاقات النفاق لذوي السلطة ـ من بلوغ أعتاب الجنة.

وهذا مع أنني مررت بـ”الأهرام” منذ أول نشر لي على صفحاته فبراير 1986، فلم انافق “رئيسا” أو رئيس تحرير أو قسم أو حتى صفحة. أو هذا ما أظنه عن نفسي راضيا مرضيا. ولعل في هكذا “عناد وممانعة” ما قد يراه زملاء العجب العجاب، خصوصا إنني مازلت على قيد الحياة، وأواصل الكتابة في جهاد بهدف احترام قراء أراهم عاقلين راشدين، أو حتى ما أظنه قارئا ولو وحيد من هذه النوعية.
وعلي أي حال، فلست وحدي فيما كنته كصحفي في ” الأهرام” وغيرها من صحافة الشعب أو ضياع (عزب) سلطة الدولة والرئيس ورجاله ( وفق ماترى ؟) . ولست وحدي أمام مفارقات الزمان قبل وبعد ثورة يناير 2011. ولا أدل على تقلب الأحوال وعودة “ريما لعاداتها القديمة” بين التهميش والاحتكار أن حتى أستاذنا “محمد العزبي” بكل تاريخه وعلاقاته “غير المتطرفة ” مع الجميع في المهنة وخارجها أخبرني كيف احتار وتعذب في نشر كتابه الأخير ؟. وهذا إلى أن وجد ناشرا لم اسمع عنه وغيري كثيرا من قبل: “ريشة للنشر والتوزيع”. دار ناشئة جديدة لناشر ـ مع كل الاحترام والتقدير ـ لن يعطيه مليما واحدا. وكأن كل تعب الكاتب لا يساوى مثقال “ريشة”. وهذا بينما قامت مؤسسته الصحفية “دار التحرير” بطباعة ونشر وتوزيع كتابه السابق ” الصحفيون والحكم” قبل نحو ست سنوات فقط.

يعود ليكتب وينشر الأستاذ رئيس دار التحرير/ الجمهورية الأسبق والأقوى والأطول أمدا صاحب “الكبسولات” وقد ناهز اليوم 82 سنة. أطال الله في عمره وقلمه. يكتب وينشر في ” الجمهورية ” و” المساء ” وكل مكان، وفي كل وقت من اليوم. كما لا يكتب أستاذنا “فهمي هويدي” (84 سنة متعة الله بالصحة وطول العمر) لا في “الأهرام” ولا في ” الشروق ” ولا في أي مكان ” صحرا إن كان أو بستان” بالداخل أوالخارج. وربما بحثا عن ” الأمان”، الذي لم تذكره “شادية” في أغنيتها.
بل وربما لسبب آخر جاء في كتاب ” هل يدخل الصحفيون الجنة؟” وعلى طريقة الضربة الخاطفة التي لا تسقط الخصم في الملاكمة لكنها تؤلم عندما تأتي من قفاذ “محارب على البارد”:
” الصمت يوم وليلة، مع أن ( الباشا ) يريده كل ليلة، فهو يعاكس فهمي هويدي عند السفر”.
نعم .. يعود ليكتب وينشر الأستاذ “صاحب الكبسولات”، ولا يكتب الأستاذ “محمد العزبي” ولا ينشر. ولا “عزبي” آخر يكتب وينشر اليوم في “الجمهورية” أو غيرها. لكننا جميعا ننتظر “الجنة”، بعد عذاب الدنيا عند صحفيين و نعيمها وصولجانها وامتيازاتها وثرواتها وقصورها وسياراتها الفخمة والاستثمار في أراضيها وأرصدتها البنكية وغير البنكية عند آخرين. وهذا مع الاستمتاع بـ”جاكوزاتها” ، ولو في مكاتب رؤساء الإدارة والتحرير وأجنحتهم الوسيعة المحلاة بالطنافس والثريات الفخيمة.

ويا ” أستاذنا” .. ثمة “واحد صحفي” دفعك تواضعك وأدبك الجم أن تأمل “لعله يرضى” يقول لحضرتك :” إكتب ولو بعد التسعين حتى ولو كل وغاب البصر.. نحتاج بصيرتك “. إكتب من فضلك ولو نشرت وحسب على حسابك الشخصي بالفيس بوك. وكما تفعل ونفعل .
إكتب يا أستاذ “محمد العزبي” المتبقي لنا بين قلة على أصابع اليد الواحدة من روائح كل الحبايب/ عطر الأحباب ممن قبضوا على الجمر في صحافتنا المصرية في عقودها المتوالية العجاف .
.. إكتب يا أستاذنا أطال الله في عمرك، و أدام قلمك .
إكتب لتمنحنا الصبر و الأمل أن نواصل الكتابة.
.. أما النشر في صحفهم ودور نشر كتبهم، ومعه دخول الجنة، فعند مليك مقتدر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *