في ذكرى رحيل «الخال».. نعيد نشر مقدمة هيكل لديوان الأبنودي: شاعر عاش وسط الجماهير وهي تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلاً (نص كامل)
هيكل: الأبنودي شراع على النيل جاء من صعيد مصر حاملاً معه خصب النهر العظيم ينثره حيث يصل ويحول الطمى بالفن إلى زهر وورد
مرت 9 سنوات على رحيل الشاعر الكبير الخال عبدالرحمن الأبنودي، لكنه مازال باقيًا بأشعاره ودواووينه وإسهاماته الفكرية، الأبنودي ولد في 11 أبريل 1938، ورحل في21 أبريل من سنة 2015
وقبل رحيله أصدر الأبنودي ديوان المربعات، والذي كتب مقدمته الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، وبمناسبة ذكرى رحيل الخال نعيد نشر مقدمة هيكل لديوان الأبنودي:
لا يحتاج “عبدالرحمن الأبنودى” – بالطبع – إلى من يقدمه للناس، لأنه حاضر أمامهم طلعة وطّلة، وصوتاً هادراً، وجاذبية مغناطيس يشد ما حوله، ولا يحتاج «عبدالرحمن الأبنودى» إلى من يحلل الإنسان فيه، فالخلاصة فى شأن «الأبنودى»، أنه شراع على النيل جاء من صعيد مصر، مرتحلاً إلى الشمال، حاملاً معه خصب النهر العظيم، ينثره حيث يصل، ويحول الطمى بالفن إلى زهر وورد – وإلى شوك أحياناً!! وأخيراً لا يحتاج «عبدالرحمن الأبنودى» إلى من يمهِّد لعمله، فذلك العمل أغنية تتردد صوتاً وصدى فى أرجاء الوطن، وحين سألنى «عبدالرحمن الأبنودى» إذا كنت أستطيع تقديم مربعاته، عندما تُنشر على شكل كتاب، فإن طلبه أسعدنى ليس فقط لأننى كنت أتمنى لهذه المربعات أن تظهر كاملة على شكل كتاب، وإنما سعادتى أن طلبه جاء فرصة متجددة، أقرأ فيها المجموعة موصولة ببعضها، بعد أن تابعتها يوماً بيوم، تُنشر متقطعة على صفحات جريدة يومية. وتصورت فى كل الأحوال أن قراءة المخطوطة فى صورتها الأصلية، وقبل أن تدور بها المطبعة، فرصة حميمة بين المربعات وبينى، تتيح لى قراءتها مكثفة مركزة!! تحمست – إذن – لكتابة مقدمة للمربعات دون أن يخطر ببالى لحظتها، أن الأمر أصعب مما تصورت، وأعقد مما قدّرت!! عندما قرأت هذه المربعات من جديد مرة واحدة، وباهتمام غير متقطع تجلت أمامى مربعات «الأبنودى» على صورة مختلفة، تذكرت المقولة الشهيرة التى سمعناها قبل أربعة قرون من فلاسفة جامعة «فرايبورج» – وهى من أوائل جامعات زمن النهضة – أن كل الأنهار تتسابق إلى البحر، إشارة إلى وحدة المعرفة مع كثرة المنابع!! فى القراءة المتقطعة الأولى، فإن المربعات كل يوم بدت لى نوافذ على فضاء لا يصل إليه النظر، وعند القراءة الثانية الموصولة سياقاً واحداً، بدت لى المربعات أفقاً غير محدود، ساحة بحر واسع، لكنه خضم حافل بكل فصول الطبيعة فى الوقت نفسه، فى اللحظة ذاتها. صامت هادئ فى موقع، غاضب هائج فى موقع آخر، نائم حالم قُرب صخرة، ثائر جامح يضرب نفس الصخرة بقوة إعصار. سألت نفسى طويلاً، كيف يمكن وصف هذا المشهد غير الطبيعى على لوحة الطبيعة ذاتها: ساحة واحدة، ومناخ تتباين ظواهره من صيف إلى شتاء، ومن ربيع إلى خريف، وشراع مرفوع دخل إلى البحر قادماً من النهر. سر مربعات «الأبنودى» يتجلى عند القراءة الموصولة، هو محاولة جديدة وتلقائية ما بين الأدب والسياسة، بين الفكر والتاريخ، بين الفن والثورة. هو شاعر عاش وسط الجماهير، وهى تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلاً، وهو لا يغنى لهذا المستقبل من بعيد، وإنما ينشد من وسط الجموع وبلغتها، وهى تتدافع بالزحف أحياناً، وبالتراجع أحياناً أخرى، خطوة بالأمل وخطوة بالألم. وهى أحياناً صيحة بالفرح تهلل، وفى أحيان أخرى جرح بالوجع مفتوح!! والثائر الشاعر فى قلب المعمعان، هو الثائر يوماً، وهو الشاعر فى اليوم التالى، هو الفعل فى الصبح، وهو الضمير فى المساء.
ما يدعو للتأمل أن «عبدالرحمن الأبنودى» واصل كتابة مربعاته سنة كاملة، يوماً بعد يوم، وصباحاً بعد صباح، لا يسكت، ولا يهدأ، ولا يكل، ولا يمل. يصيح بالقلق على السياسة أن تتماسك لتصنع تاريخاً، ويصرخ بالنذير حتى يمنع النسيم أن يتحول إلى عاصفة، ويمسك بالجمع لا ينفك إلى شراذم، ولا يتفرق إلى هباء!! يريد للتاريخ أن يتحول إلى نبوءة، ولا يريد للسياسة أن تتحول إلى لعنة. وهو يواصل المحاولة لعام كامل، مربع إلى جانب مربع، نافذة بعد نافذة، ثم تتجمع النوافذ، وتنفتح على بعضها، فإذا هى بحر متلاطم، وأفق بعيد، والقراءة الموصولة للمربعات هى وحدها التى تكشف وتبين!! ساءلت نفسى بعد القراءة الثانية الموصولة للمربعات بعد سنة كاملة، واصل فيها «عبدالرحمن الأبنودى» كتابة مربعاته، ثم أغلق دفترها ونحى القلم.
هل استراح واطمأن، ورأى أن يعطى نفسه لحظة هدوء وصفاء بعيداً عن صخب البحر وموجه العاتى وصخره؟!! أم أن القلق استبد به خشية أن يضيع صوته فى اللامحدود، يطغى عليه هدير البحر ويغطى نشيده؟!! هل أرهقه الإيقاع المنتظم كل صباح، وحسبه قيداً على الشاعر، لأن الشراع لا يطيق قيداً أو رباطاً، ولا خطاً ملاحياً يحدد مسار حركته مسبقاً من النهر إلى البحر؟!! لا أعرف جواباً قاطعاً، لكنى أعرف أن الشراع القادم على النيل من صعيد مصر إلى شمالها، مازال يصارع فى أعالى البحار، والريح مازالت تملأ ذلك الشراع، وهو يواصل رحلته إلى أفق لم يظهر بعد شاطئه!!.