“فايننشيال تايمز” عن إزالة العوامات السكنية في مصر: تدمير للتراث بدعوى التنمية والاستثمار.. والسكان يواجهون المجهول

السكان مجبرون على المغادرة دون سابق إنذار ودون تعويض.. ومسؤول حكومي: ليسوا مستحقين ومدينون برسوم.. العائمات السكنية مثل السيارات المتهالكة 

سلطت صحيفة “فايننشيال تايمز” الضوء على القرار الحكومي بإزالة العوامات السكنية على ضفاف نهر النيل في محافظة الجيزة، وتهجير سكانها منها بدعوى التطوير، حيث يؤكد السكان أنهم مجبرون على ترك بيوتهم دون سابق إنذار دون حتى أي تعويض.  

تعيش السيدة إخلاص حلمي – 88 عاما – داخل عوامتها على ضفة النيل بجوار أحد شوارع القاهرة المزدحمة، وتحديدا في منطقة الكيت كات بإمبابة، منذ 25 عامًا، لكن في الأيام المقبلة قد تواجه وجيرانها في حوالي 30  عوامة أخرى شبح الطرد من أماكنهم بقرار حكومي في غضون أيام، حيث تسعى السلطات لتحويلها إلى نشاط سياحي وترفيهي يضم مقاه ومؤسسات تجارية. 

تتحدث إخلاص، بينما تحيط الأشجار المورقة المليئة بالأزهار الوردية الدرجات المؤدية إلى عوامتها، بأسى قائلة: “لقد ولدت في عوامة وتركتها فقط عندما تزوجت، لكنني لم أستطع تحمل ذلك عندما كنت أعيش في شقة، حتى زوجي لم يعجبه الأمر، لذلك بعنا ممتلكاتنا وبنينا هذه العوامة، لكنه لم يعش طويلاً بما يكفي للانتقال إلى هنا معي، وأنا الآن لا أعرف ماذا أفعل أو إلى أين أذهب، لقد فقدت 6 كيلوجرامات من وزني في يومين بسبب الحزن”، وفق تقرير الصحيفة البريطانية. 

https://www.ft.com/content/d8321056-f9c0-4750-9fea-fb0eff39b0ff

تعد إزالة العوامات النيلية – التي لها حضور راسخ في الثقافة المصرية وظهرت في العديد من الكتب والأفلام الشهيرة – جزءًا من تغييرات أكبر في المدينة – يخشى الكثيرون من تدمير التراث أو المساحات الخضراء بدعوى التنمية، حيث يتم إنشاء طريق سريع رئيسي يهدف إلى تسهيل حركة المرور في العاصمة المزدحمة سوف يمر عبر مقبرة تاريخية تحميها اليونسكو، وتبتلع منافذ الطعام ومحطات الوقود المساحات الخضراء النادرة في مدينة يبلغ عدد سكانها 20 مليون نسمة تعاني بالفعل من نقص حاد في الحدائق العامة. 

وأوضحت الصحيفة أن مصر تمر بحملة بنية تحتية ضخمة في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، وأن الجيش مسؤول عن معظم هذه المشاريع، والتي تشمل الجسور والمرافق العقارات – حتى العاصمة الجديدة – وبينما يستجيب العديد من المشاريع للاحتياجات الحقيقية بعد عقود من نقص الاستثمار، إلا أن عملية صنع القرار من أعلى إلى أسفل وعدم وجود استشارة عامة تثير قلق أولئك الذين تتأثر حياتهم بشكل مباشر. 

يشعر آخرون بالقلق من أن السحر المتبقي لهذه المدينة الخرسانية الشاسعة سوف يتلاشى سريعا، حيث يقول المؤرخ محمد الشاهد مؤلف كتاب “القاهرة منذ عام 1900: دليل معماري”، إن العوامات السكنية تعد نموذجًا فريدًا للمباني بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، وبلغت أعدادها ذروتها بـ300 عائمة في جميع أنحاء القاهرة، لكن العدد الآن اقتصر على منطقة إمبابة في الجيزة، منذ نقلهم هناك في عام 1966″، مضيفا: “إنهم معرضون لخطر الاختفاء”.  

يقول سكان العائمات إنهم أُجبروا على المغادرة دون سابق إنذار ودون تعويض، قال أيمن أنور رئيس الإدارة المركزية لحماية النيل، في تصريحات تليفزيونية الأسبوع الماضي، إنه تم اتخاذ قرار في عام 2020 بعدم وجود منازل سكنية على النيل، مضيفا: “المراكب السكنية مثل السيارات المتهالكة منذ عام 1978 التي ألغت سلطات المرور تراخيصها، السكان ليست لديهم تصاريح إرساء أو تراخيص، لكنهم يصرون على مواجهة الدولة، وهذا ما لن يسمح به”.  

وتابع: “الملاك ليسوا مستحقين للتعويض، بل مدينون برسوم للدولة، نحن نستهدف تنمية حضارية سيشرف عليها جهاز مشروعات القوات المسلحة”. 

ومع ذلك، يقول أصحاب العائمات إنهم لم يتم إخبارهم بقرار عام 2020 حتى الآن، وإن السلطات ترفض قبول أموالهم أو منحهم التراخيص بعد أن ذهبوا إلى المحكمة للاعتراض على زيادة هائلة في رسوم الإرساء في عام 2017، حسب ما تؤكد الدكتورة أهداف سويف، الروائية الكبيرة، والتي تعيش في منزل عائم منذ عام 2013. 

توضح أهداف سويف أن السلطات تعرض بيع تراخيص لأولئك الذين يقررون تحويل منازلهم إلى أعمال تجارية مثل المقاهي وغيرها، وتواصل: “في سني، وفي هذا المكان وعلى الرغم من مهنتي، هل يجب أن أحول منزلي إلى مقهى، بأي منطق ولماذا؟”. 

لا يعارض جيروم جيير، المصري الفرنسي الذي ترك وظيفته في أوروبا لإعادة منزل عائلته إلى أسلوب عشرينيات القرن الماضي، فكرة التطوير، لكنه يتشكك في غموض الخطط وعدم وجود إطار زمني واضح لها، “كلها شفهية”، الأمر الذي لم يسمح له بحساب تكلفة إعادة التقدم للحصول على ترخيص. 

وتساءل: “أريد أن أعرف الثمن، لمعرفة ما إذا كان بإمكاني دفعه أم لا، لقد كان هدفي إعادة إحياء جزء من التراث الوطني المصري، نريد أن نكون جزءا من التطوير وأن يكون لنا مكان في بلدنا”. 

للعائمات السكنية حضور طويل الأمد في الثقافة المصرية، حيث دارت أحداث فيلم ورواية “ثرثرة فوق النيل” – وهي واحدة من أشهر روايات الكاتب الراحل نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل الذي عاش ذات مرة في منزل عائم – في إحدى هذه العائمات أيضا. 

 وقالت ياسمين ضرغامي ، ناشرة “راوي” ، وهي دورية مصرية تراثية: “إن هذه العائمات وسكانها يمثلون جزءًا مهمًا من تاريخ مصر الحديث، لكن أشياء مثل هذه  – التي تتمتع بسحر هادئ ولكنها لا تكسب المال – يتم طمسها لإفساح المجال للأعمال التجارية”. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *