عمر عسر يكتب: خطاب بعلم الوصول إلى محمد صلاح
عزيزي محمد
تحية طيبة من مصر التي لو لم تنجب سوى صنفك لاكتفت بكم عن العالمين..
أعلم أنك لا تنتظر خطاباتٍ من أحد وانك لم تنتظر يوماً شيئا من أحد، كما أعلم جيدا أن كثيرين ممن يكتبون عنك أو لكَ يدركون أنك في غنىً عن العالمين لكن تجاهلك صعبٌ والالتفات عما فعلت مستحيل.
أشكرك من كل قلبي لأنك أثبتَ للجميع أن فينا من لا يقايضون الكرامة بالحياة ذاتها، وأن منا الذين يقبضون على جمر الشرف مهما كانت الآلام ومهما كانت النتائج.
عزيزي البطل
أشكرك لأنك قاتلتَ في صمت الزهاد وترفع الأولياء.. قاتلتَ ولم تحسب مكاسبَ القتال كما لم تجزع من كلفته، قاتلت وحيدا كراهبٍ في “قلايته” وصرعتَ وحدك شياطين الجبن والرغبة.
كان المخطط لكَ أن تظل طوال عمرك تسدد ديونا.. إما استدنتَها لتعيش أو استدانها حكامُك ليبنوا “إنجازاتهم” التي ما استشاروكَ بشأنها وما كلفوا خواطرهم حساب كم تستغرق من عمرك في سدادِها، ولم يشغلوا ضمائرهم التي خدرها “حشيشُ الإنجازات” ببؤس يأكلك حيا وإحباط يدفعك لمهاوي الاكتئاب، فقط ينشغلون بانسحابك وصمتك الضامنين لبقاء الكراسي آمنة واستمرار مكاسبهم المشبوهة وصفقاتهم التي لا يأتيها العدلُ من بين يديها ولا من خلفها.
كان المخطط لك أن تعيش تحت ُحكم يَمِنُ عليك أن تركك تتنفس الهواءَ مجانا.. وأن يكون موتك مجانيا وعبثيا في أي حادث سببه إهمال أو مرض فلا ينشغل بموتك أحدٌ كما لم ينشغل بحياتك وبؤسك أحد.
كان يُفترض بك يا محمد وأحمد وعادل وجرجس (أسماؤنا لا تُهم وتتشابه أمامهم كذرات الرمل في قفار الوطن) أن تُهمَش بالقسر وأن تُستَبعدَ من المشاهد كلها فلا يتشوه ُ “رونقُها الزائفُ” ببؤسكَ وعلامات قسوة الحياة التي ترتسم على ملامحك.
لكنك تصدرتَ المشهدَ وكتبتَ بموتك شهادة حياتك التي زادها الموت حيويةً وأكسبتها سخونةُ دمك وهجا لا يمحوه ظلامُ الدنيا كلُّهُ، وحين قايضتَ الحياةَ بالكرامة سقطت دعاوى الزيف التي تزعمُ أن هذا الشعب العظيم” غير مؤهل” للحياة و”غير مستحق” للديمقراطية والحكم الرشيد، محا دمك كل الكذب وكل الزيف.. صار لهبا يلتهم كل تهاويم كتبة السلطان وكل تعاويذِ سحرته.
عزيزي الشهيد
إفلاتك من مخطط التهميش والإفقار والصمت الإجباري دليلٌ على صحة ثقتنا في هذا الشعب، ورافدٌ آخر لنهرِ الحبِّ الذي يربطنا بهذا الوطن، فلا نشكرك لأنك أثبتّ صحةَ فكرةٍ، إنما نشكرك لأنك أنقذتنا من أن نتفاجأ بأننا من العدم أتينا إلى العبث.. نشكرك لأنك أثبتّ لنا أن الوطنَ حق وأن الحياةَ حق وأن قدرنا ليس إدارة السواقي كالثيران تجلدُ السياط ظهورنا ويحيط رقابنا الطوق.
قد تكون إحدى أزهار مصر قد أحبتك حيا في صمت وتبكيك شهيدا في صمت، إذا زرتها في منام فبلغها مني السلام وقل لها: إن الرجال الحقيقيين كالنور والنار ليس من السهل احتضانهم وليس من الممكن حبسهم في غرف القلوب خوفا عليهم من مصير اختارهم واختاروه، بلغها مني سلاماً وقل لها: إن حياةً أفضل اصطفتكَ وإن الحب يُنسى لكن الكرامة لا عوض عنها ولا بديل لها.
ولتبلغ سلامي إلى كل من رفع سلاحه في وجه غاصبٍ أو ظالمٍ أو محتل فانتصر أو انتصر.. بهزيمة الظلم أو بالاستشهاد الذي يمحو بالدمِ فصولا من سجل عار الإنسانية. بلغ سلامي إلى كل من جعل موته أغنية للحياة وجعل من نضاله حلما بعالم يسوده العدل ولو لساعة واحدة فأنت تعلم كم تستحق هذه الساعة أن يُبذل في سبيلها الغالي والنفيس، وتعلم أن لحظة كرامة واحدة تعيش ألفَ ألفٍ من السنين.
اعذرني لإطالتي لكن الحديث إليك لا بد أن يكون طويلا فأنت نحن، ولا حرج -فيما أعتقد- لو أطلنا الحديث إلى جوهر وجودنا حتى نلتمس بعض الطمأنينة بأننا لن نفنى ولن نصير ذات يوم بعضا من العدم.