عمر عسر يكتب: بوتين.. قيصر الوعود الزائفة
“حرية التعبير، حرية الضمير، حرية الصحافة وحقوق الملكية. جميع العناصر الأساسية للمجتمع المتحضر ستكون محمية من قبل الدولة”، هكذا تعهد فلاديمير بوتين في أول خطاب وجّهه إلى الشعب الروسي في ليلة 31 ديسمبر 1999/ 1 يناير 2000، عقب تنحي بوريس يلتسين عن الرئاسة وتعيين بوتين “رئيسا بالإنابة”، لكن تاريخ بوتين في العمل يكذّبه!
في مساء 20 أغسطس 1998 كان الصحفي ليفين أوتكين نائب رئيس تحرير صحيفة “ليجال بطرسبرج توداي” يتفحص صندوق بريده قبل دخوله شقته عندما هاجمه رجلان وحطما جمجمته واستوليا على كل ما كان بحوزته وتوفي أوتكين يوم 24 أغسطس متأثرا بإصاباته. كانت حافظة أوراق أوتكين تضم مستندات حول تورط بوتين في تهريب “ولي نعمته” أناتولي سوبتشاك من المحاكمة، وكان عددها السابق لواقعة القتل قد صدر تحت عنوان “فلاديمير بوتين يصبح رئيسا للمخابرات بطريقة غير شرعية”.
تم تدبير واقعة التخلص من أوتكين لتبدو حادثة سرقة عادية في مدينة “سان بطرسبرج” التي تسيطر عليها عصابات الجريمة المنظمة، والصحيفة نشرت عديدا من وقائع الفساد فلماذا تحوم الشبهات حول بوتين وحده؟، يمكن قبول هذا التشكيك في اتهام بوتين، لنستعرض إذن ما حدث مع الصحفي الروسي أندريه بابتسكي.. أثناء احتدام معارك حرب الشيشان في عام 2000 نشر بابتسكي تقارير تكذّب الرواية الرسمية الروسية فألقت وزارة الدفاع الروسية القبض على بابتسكي لا ليمثل أمام أي محكمة وإنما ليتم تسليمه إلى القوات الشيشانية مقابل خمسة أسرى روس!
في واقعة بابتسكي كان بوتين رئيسا لروسيا وقائدا أعلى لقواتها المسلحة بحكم منصبه، وتم تسليم مدني غير مشارك في عمليات قتالية ولا علاقة له بالصراع إلى جيشٍ مُعادٍ، وبالطبع أثار مصير بابتسكي موجة انتقادات واسعة لبوتين حينها، تغلب عليها باحتفاله بالنصر على الشيشانيين واستعادة السيطرة على جروزني. وهكذا كذّبت تصرفات بوتين تصريحه.
كان الهدف الأول لفلاديمير بوتين هو تصفية نخبة بوريس يلتسين و”تمكين” نخبته. وقائع هذا التمكين يسردها كتابان: “كل جيش الكرملين” تأليف ميخائيل زيجار (ترجمة دكتور نزار عيون السود- دار ممدوح عدوان، دمشق سوريا، 2018) و”القيصر الجديد” تأليف ستيفن لي مايرز (ترجمة: تيسير نظمي خليل- دار العبيكان، الرياض السعودية، 2015)، واستعراضها يتطلب مقالات لا مقالا واحدا، والشاهد أن هدف بوتين تحقق وتمت له ولـ”سيلوفيكي” الاسم الذي يطلقه الروس على “نخبته” السيطرة الكاملة على مفاصل السلطة ومصادر الثروة في روسيا، ولم يكن بوتين يجهل أن حريات الصحافة والتعبير أكبر عائق في وجه هدفه.
لم تكن أخلاق العصابات بعيدة أبدا عن “الاوليجاركية” الحاكمة في روسيا (كما يسميها الغرب)، فالعلاقة بين “أبناء الظل” من ضباط جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) وضباط المخابرات السوفيتية السابقين مثل بوتين وناريشكين، و”أبناء الليل” مؤسسي وأعضاء المنظمات الإجرامية تعود إلى الحقبة التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي، وتسببت هذه العلاقات بفضيحة في 17 نوفمبر 1998 حين انعقد مؤتمر صحفي دعا إليه ستة أشخاص هم: ألكسندر ليتفينينكو (اغتاله جهاز الأمن الفيدرالي عام 2006 في بريطانيا) وميخائيل تريباشكين وأربعة آخرين ارتدوا أقنعة ونظارات تخفي ملامحهم، وأخبروا الصحفيين المشاركين أن وحدة الجريمة المنظمة بجهاز الأمن الفيدرالي التي يعملون بها صارت “مؤسسة إجرامية” تعمل مع عصابات روسية ومرتزقة شيشانيين لابتزاز الشركات العاملة في روسيا وخطف رجال أعمال لطلب فدية، وكان فلاديمير بوتين وقتها رئيسا لجهاز الأمن الفيدرالي!
أفضل وسيلة لتغطية جرائم الانظمة السياسية هي إطلاق الشعارات، وأثبت نظام بوتين براعة هائلة في هذا الاستخدام وأطلق شعارات تتمحور حول “استعادة أمجاد روسيا” و”العالم متعدد الأقطاب”، لكن تقارير المؤسسات الدولية حول ترتيب روسيا على قوائم الفساد مثلا تفضح كذب شعارات بوتين واوليجاركيته فقد كانت روسيا تحتل المركز الـ90 على مؤشر “الفساد العالمي” وبعد عام واحد من حكم بوتين انخفض ترتيبها إلى 126 وتحتل المرتبة 137 منذ ديسمبر 2022،فهل يبني الفساد الدول أو يحارب الإمبريالية!
لكن شعارات بوتين الكاذبة لاقت رواجا هائلا بين سكان “مدن الملح” في الشرق الأوسط التعيس، ويتوهم كثيرون -بينهم من يصفون أنفسهم بالمثقفين- أن بوتين قادر على تحطيم غرور الأعداء (أمريكا، إسرائيل، التطرف الديني،… إلخ)، ويغرقون في الوهم فيتصورون أن “نسر المخابرات” سيهبط على الأرض بالمن والسلوى، ويجهلون أن “نسور الأجهزة السرية” حين تتولى السلطة، ينكشف عند تحليقها الأول أنها غربان منتوفة الريش لا تجيد سوى النعيق بالشعارات وجلب الشؤم إلى أي مكان تحط فيه.