عشر سنوات على ثورة يناير.. محمد العريان يكتب: رأيت الله (ذكريات يناير)

كأن الميدان أرض المحشر

والهتاف نفخٌ في الصور

فخرجنا نحاسبهم

لو احتل 100 ألف متظاهر وسط البلد 3 أيام ينهار النظام.. المحامي أحمد سيف بعد مظاهرات ضرب العراق 2003.

                                             (1)

كنا صغارا نقول “بخ” فيخاف أقراننا، حينما كبرنا اكتشفنا أنها أسخف لعبة، لكنها كانت حقيقية كالموت.. هروب رئيس تونس كان شعلة لا تكشف طريقة إسقاط النظم فقط ولكن بيان عملي لما فعله الهتاف بالوحش.

أطلقت الدعوة للتظاهر يوم 25 يناير أمام وزارة الداخلية لإقالة حبيب العادلي، وهروب بن على في تونس حولها لأمل ثورة بميعاد لإسقاط حسني مبارك.

في موقع جريدة البديل قبل أسبوع من 25 يناير، أمارس دوري التحريضي على الظلم كمدير تحرير لزملاء محرضين يمكن أن تعدهم على أصابع اليد، أنتظر معرض الكتاب لصدور أول كاتب لي عن أزمات المطلقات المعيلات في مصر تصدره نهضة مصر، كنت أتمنى الثورة ويغور الكتاب.

خبر على الوكالة الرسمية يؤكد أن مبارك سيفتتح معرض الكتاب السبت 29 يناير، أتشكك، هو النظام مش خايف؟ أسأل خالد البلشي رئيس التحرير، ينظر من أسفل نظارته ولا يرد كعادته في الأسئلة الوجودية التي أطرحها من وقت لآخر ونحن نعمل.

كل الأخبار تؤدي إلى 25 يناير.

النظام والنخبة يتعاملون مع اليوم بجدية شديدة، مسئولون يتجاهلون اليوم تماما وكأنه هراء على الفيسبوك، وشباب يجهزون لثورة تقتلع جذور النظام.

                                           (2)

دائما ما كانت تأسرني الهتافات، أن تكون وسط مجموعة من البشر يرددون ما تود أن يتحقق، أتماهي مع الهتاف وأصرخ وأتخيل الثورة التي “تشيل ما تخلي”، ألمح ابتسامات ساخرة لضباط على الجهة الأخرى من سلالم نقابة الصحفيين، اه إحنا عبط بس بنحلم وأنتو عاقلين ومش عايزنا نحلم، نضرب الأرض بأقدامنا “يسقط يسقط حسني مبارك” أول مرة أسمعها اقشعر بدني وشعرت أن مسام جلدي تستنشق الهواء فأتضخم ويتضاءل صف العساكر والحواجز أمامي وأشفق عليهم.

ليلة 25 يناير لم أنم جيدا، قلق وكوابيس استيقظت 3 مرات أنظر في ساعة الموبايل، لماذا يمر الوقت بطيئا هكذا؟، الطرق فارغة تماما كيوم إجازة عادي جدا لكن سيارات الأمن المركزي بقع زرقاء تلطخ الطريق من الهرم حتى وسط البلد.

إيه الأخبار حد نزل؟ سؤال معتاد حتى الثانية عشرة ظهرا، بصوت منخفض متوسل يقول خالد البلشي لي: محمد …

أرد قبل أن يكمل: أول ما بتقول يا محمد بتبقى عايز مني حاجة وعارف إني مش هوافق.

يبتسم ويقول مترددا: أنا هنزل شوية عند دار القضاء والنقابة وهرجع وأنت تنزل طول اليوم.

يضع يده في جيبه ولا يترك لي فرصة أن أرد: مش هطول متخافش، واحتمال ميبقاش في حاجة أصلا، شوية عيال وبيتسلوا.

أضحك، خالد كان أكثرنا يقينا أن 25 يناير ثورة، يبتسم ليداري كذبه.

أقول: أنت عارف وأنا عارف إن انهارده مش زي أي مظاهر، موافق أنزل بس لو مجيتش هقفل الموقع.

كنا في البديل 4 صحفيين وأنا وخالد، أتلقى الأخبار من الزملاء، كل لحظة خبر جديد بمظاهرات بالمئات في أماكن مختلفة، الملمح العام أن وجوهًا جديدة تتظاهر لأول مرة والأمن لا يتعامل بعنف خوفا من استفزاز المتظاهرين.

الزميل محمد عادل يهاتفني، أسمعه بصعوبة: إيه الأخبار عندك؟

أستاذ محمد في قلة مندسة بتتظاهر دلوقتي، حوالى 10 آلاف واحد.

اتصل بالبلشي لا يرد، أخبار شهيد السويس تصيبني بالخوف على أخي الأصغر عبد الستار

ـ أنت فين خرجت من الدقي ولا لأ؟

ـ متخافش أنا مع زياد العليمي -يزداد خوفي أكتر- أنا دلوقتي على كوبري أكتوبر هروح لأحمد أخويا في المكتب.

ـ الأمن بدأ يضرب غاز وفي شهيد في السويس متخرجش من هشام مبارك إلا على البيت يومك كده خلص اتفقنا.

يصمت فترة ويرد: حاضر.

خدعني البلشي وبدأ يمليني أخبارا حتى اتركه يتظاهر، أسبه والزملاء يضحكون، أنا جاي حالا يا عريان، أنا جاي.

كان موقع البديل لديه مصداقية لدى الجمهور، ما ننشره هو تأكيد لما ينتشر على تويتر والفيسبوك بحالة الشوارع، تمزقت بين المهني ودوري كصحفي وبين السياسي، أقرر النزول وغلق الموقع يتصل بي البلشي أنزل يا محمد أنا مش هاجي أنزل قراء البديل في الشارع، أسبه في الطريق من عابدين وحتى ميدان التحرير وما أن رأيت أعداد المتظاهرين وسمعت الهتافات ترج الميدان غفرت له.

بعد منتصف الليل بقليل أطلقت مدرعات الشرطة سارينات النجدة في وقت واحد وأنارت سيارات الأمن المركزي الكشافات، لحظات التحفز مرت بطيئة هل سيضرب الأمن ويفض الميدان؟، أعلم أن النظام لن يتحمل مبيت عشرات الآلاف في الميدان وغدا يوم عمل، الحقيقة كان أغلبنا يعلم ذلك لكن النشوة دائما ما تعطل خلايا المخ، ومع أول قنبلة غاز تسقط عادت الخلايا للعمل مرة أخرى ومعها غريزة النجاة، تفرقنا كنمل يختنق، وبعد مطاردات في وسط البلد عدت لموقع الجريدة لأطمئن على الزملاء وبعد ساعة عاد البلشي ومعه إيمان عوف وعدد من الزملاء يلهثون.

25 يناير زي 6 أبريل يوم وانتهى، هكذا ظن النظام.

                                        (3)

استيقظت مصر يوم 26 على واقع جديد، مظاهرات تتجدد في كل حي تقريبا في القاهرة الكبرى، وعدد من المحافظات، لكن الأمن حافظ على منع التظاهر بالعنف في وسط البلد التي امتلأت بالمخبرين يتخطفون الناس من الشوارع ويمنعون ترديد أي هتاف.

مصر ليست تونس، إحنا حاضنين الناس، تقارير أمنية لمبارك عن الحالة الأمنية، والأخبار تتوالى، النظام مرعوب والشعب يتدرب ليوم آخر.

البورصة تنهار، مواقع إلكترونية إخبارية تغلق ويعاد فتحها من بينها البديل والدستور، يتصل بي صديق يعمل سمسارًا في البورصة غاضبا، إيه اللي بتعملوه ده؟، البلد بتقع أرد: حاول تمنعها، كان مقربًا لأفكار الحزب الوطني، ويعتبر جمال مبارك رئيس مصر.

يتراجع طيب أعمل أيه؟، بثقة ويقين لم أعهده أبدا: تروح تشتري خزين لبيتك وتقعد في البيت.

في 27 يناير خرجت شمال سيناء عن السيطرة تمام بعد سقوط أول شهيد في الشيخ زويد، وتراجع الأمن واختفى من المدينة، والسويس أيضا لم يظهر بها عسكري، كانت تلك حصيلة أهم أخبار الثورة.

غادرت موقع البديل قبيل المغرب عائدا إلى المنزل في الهرم، حينما دخل الليل، جاءني صوت خالد البلشي على الهاتف: يا عريان مفيش شرطة في الشارع، بيستعدوا لبكرة، غالبا هيقطعوا الاتصالات والإنترنت، أغلق الهاتف، هذه ليلة بلا نوم.

(4)

صباح 29 يناير توسل إلى ضابط يرتدي بدلة مدنية ألا أمر من شارع وزارة الداخلية الجانبي، أغلق الحاجز الحديدي وقال لي: والنبي والنبي هتأذي لو عديت، رديت ليه هو ده شارع مين علشان يتقفل؟، قال بخوف: شارع الشعب يا باشا، شارع الشعب، بس والنبي علشان خاطري مينفعش تعدي، جذبني خالد البلشي خلاص يا محمد تعالى نروح الميدان من شارع تاني.

بعث الشعب

أجريت آخر مكالمة من خط فودافون بعد إغلاق شبكة موبينيل، صباح يوم “جمعة الغضب”، القاهرة الكبرى تحولت لمدينة أشباح، أسفلت وشجر منثور على جانبي الطريق يقاوم سواد ملابس الشرطة.

في مقر البديل تجمعنا، لا عمل اليوم سوى التظاهر، سرت أنا والبلشي نحو ميدان التحرير نستطلع ما يدور قبل صلاة الجمعة، سيارات الأمن المركزي تسد شارع محمد محمود تقريبا، عساكر يتناولون الوجبة الأخيرة فيما يحتسي بعضهم الشاي، والضباط لا يهتمون بعدم انضباطهم قبل المهمة، قبل أن ننتهي من الشارع نحو الميدان، رأينا اجتماع عدد كبير من أفراد الشرطة يرتدون ملابس مدنية توقعنا أنهم من مباحث أمن الدولة.

يجلس كبيرهم على كرسي بلاستيك أبيض وأمامه طاولة خشبية عليها أجهزة لاسلكي وفي يده ورق، وحوله العشرات من الأفراد يبدو أنهم أمناء شرطة، في مسافة السير بينهم سمعنا ” محمد سامح وأشرف سعيد وعاصم جابر المطرية” ، سمير.. وطارق.. عين شمس”، لم يلحظونا ونحن نسرع الخطى إنهم يوزعون المهام، بعد أن تأكدنا أنهم لن يسمعونا في نفس واحد قلت أنا والبلشي النهاردة مش هيعدي على خير.

انتهت صلاة الجمعة في حي عابدين، خرج الناس يتسوقون، الشارع مزدحم بهم يتحركون بطريقة عادية، أنظر إليهم مترقبًا، هل كلنا مخدوعون؟ ما هذه اللامبالاة؟، اتفقنا على العودة للمقر الساعة الرابعة عصر ومن لم يعد بحلول الليل نبحث عنه في المستشفيات ومقرات الاحتجاز.

نتحرك متفرقين نحو الميدان، نتجمع في شارع باب اللوق الجراج خال من السيارات، ساحة معدة لمعركة بلا أثر لبشر سوانا، نذهب إلى شارع صبري أبو علم ومنه إلى شريف لا أثر لشيء سوى الفراغ والصمت..

وفجأة نسمع صوت “الشعب يريد…” ضعيفًا واهنًا يأتي من بعيد، هل نتخيل؟، أم أن الهتاف في قلوبنا يتسرب إلى آذاننا لنردده، ننظر إلى بعضنا البعض لنتأكد من أننا سمعناه، نشير لبعضنا بأصابعنا بعفوية حتى لا يتكلم أحد، نتوقف عن التنفس، ونشحن آذاننا لتسمع، ويهدر الصوت أقوى ” الشعب يريد إسقاط النظام” نجري في اتجاه الصوت وقلوبنا تدق في عنف، آلاف لا نعلم من أين أتوا؟ يتقدمهم علم مصر وبدأت المعركة، وكأني رأيت الله.

كأن الميدان أرض المحشر والهتاف نفخ في الصور فخرج الشعب ليوم الحساب

                                            (5)

كنا نريد الميدان تلك المساحة المطلة على الحرية لنعرض مظالمنا ونحاسب جلادينا، على بعد عشرات الأمتار من مظاهرتنا غربا ميدان التحرير وشمالا وزارة الداخلية، يمنعونا من الميدان بينما الشارع المؤدي للوزارة يحميه 3 عساكر مذعورة وحاجز حديدي صدئ، كنا نهتف “الشعب يريد إسقاط النظام” ترد علينا أصوات قنابل الغاز وسارينة النجدة، نهتف “سلمية.. سلمية” يتحول الشارع إلى ضباب أبيض يحاول أن يخنق صدورنا ليطرد الأحلام والأمل، خضنا معارك بالهتاف، كر وفر من شارع الفلكي وصبري أبو علم وهدى شعراوي، نلوذ بمداخل العمارات من الغاز، يسقط علينا البصل والخل والمياه من الشرفات والغاز من المدرعات، أري البلشي يهتف وفي يده “بصل أخضر” أضحك وأردد الهتاف، أتابع أشرف جهاد حتى لا أفقد الصحبة، ظننت أنها نصف ساعة لكنها كانت ساعات ولم نشعر بها.

فجأة لم أجد أحدًا من الزملاء في الأفق، وبعد فترة رأيت العساكر والضباط والمدرعة التي تضربنا تلقي قنابل الغاز داخل ميدان التحرير فعرفت أن الشعب انتصر ودخل الميدان، شعرت أن المعركة انتهت ما نريده حدث وإن لم أدخل الميدان عدت سريعا إلى الموقع وفي الطريق مررت بمحيط وزارة الداخلية، اشتريت عيش وحلاوة طحينية حتى ابتعد عن انتقام الداخلية من ثائر يسير وحيدا ونسيت أن ملابسي المتسخة المبللة بالماء وعيوني الدامعة ورائحة الخل والبصل ستفضحني، ولكن صدمة الهزيمة تضلل العيون.

بدأت أستقبل الزملاء العائدين منهم عمر الهادي الذي كان يحمل فيديوهات لمقهى ينهب، رجل وزوجته لاذا بالمقر من سحابة الغاز، استخدمت التليفون الأرضي لأطمئن على أسرتي وأعرف الأخبار، مرت ساعات أخرى ودخل الليل، من شباك مقر الموقع رأيت بداية معركة وزارة الداخلية من حي عابدين، ميزت أصوات الخرطوش، وأشعل الشباب النار في صناديق القمامة يحتمون بها ويلقون الحجارة على الشرطة.

في الطريق إلى المنزل سيرا على الأقدام بسبب حظر التجول رأيت مدرعات ودبابات الجيش في الشوارع مواطنين بعثوا من جديد غاضبين وخائفين لكن يسيطر عليهم الأمل.

أمام التليفزيون أرى مئات الآلاف يحتلون الميدان ووسط البلد، لن تستطيع الشرطة التي انهارت وانسحبت أن تمنعهم من المبيت في الميدان، شعرت بألم في كتفي وتذكرت أن قنبلة غاز سقطت عليه، كنت أتابع خطاب مبارك الذي يقول تقريبا “فهمتكم” لكنه ما زال متمسكا بخيوط السلطة، لكن السلطة بدون السيطرة على الميدان أصبحت أضعف من خيوط عنكبوت عجوز مثله.

محمد العريان

صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *