عشر سنوات على ثورة يناير.. تامر أبو عرب يكتب: حكايات الميدان المهجور.. (مشهد ختامي)

مشهد صادم..

ميدان التحرير (25 يناير 2021)

يوافق اليوم الذكرى العاشرة لثورة يناير التي أطاحت بنظام حسني مبارك، ذكرى استثنائية لحدث أجبر العالم على متابعته، وتأثر الإقليم كله بتبعاته لسنوات كثيرة لاحقة.

هنا ميدان التحرير، مهد الثورة والشاهد على غالبية أحداثها، الميدان الذي تحول إلى أيقونة للثورات ومصدر إلهام للحالمين، لذلك، يُفترض أن يشهد الميدان تجمعًا مليونيًا يحيي ذكرى الثورة وشهدائها.

لكن شيئا من هذا لم يحدث، سيطر الصمت والبرود على الأجواء، وخلا الميدان تقريبًا إلا من مارة يتعجلون الخروج منه قبل أن يتحولوا إلى مصدر شك، وعناصر شرطة يمشطون جنباته في ترقب.

لم يكن الأمر يستدعي كل ذلك، فلن ينزل أحد محتفلا أو محتجًا، ليس خوفًا من العصا الغليظة وفقط، لكن لأن مشاهد كثيرة دارت كلها في المكان ذاته، وأدت إلى ذلك المشهد الحزين..

الحزين جدا.

المشهد الأول

ميدان التحرير (25 يناير 2011)

“ياعم هو فيه ثورة بميعاد؟”

قالها صديقي ونحن نعبر الميدان في الحادية عشرة صباحًا بعد أن طلبت منه أن نتفقد الأجواء قبل الذهاب إلى مقر عملنا في حي الدقي، كان صديقي كما الجميع مقتنعًا بأن الدعوة للثورة على مبارك الراسخ على مقعده منذ ثلاثين عامًا في مكان وموعد محدد سلفًا، محض جنون، أو انتحار.

هززت رأسي موافقًا لتجنب سخريته من سذاجتي المفرطة إذا عرف أنني كنت فعلا أتوقع أن نجد الآلاف قد احتلوا الميدان بعدما أجبروا الشرطة على التراجع، وأن مبارك بدأ فعلا في صياغة خطاب التنحي، لكن نظرة إلى النسور والنجوم الذهبية الكثيرة اللامعة على أكتاف الضباط المتواجدين كانت كافية للاقتناع بأن الثورة ليست قريبة.

لكنها كانت قريبة فعلا، وأقرب مما أتخيل وأتمنى.

فبعد أربع ساعات دخلت ميدان التحرير مجددا، ليس مع صديقي هذه المرة، لكن ضمن مسيرة ضخمة كانت في بداية شارع الدقي عدة عشرات، وبلغت نهايته عدة آلاف، انضموا إلى آلاف غيرهم سبقوهم إلى الميدان.

وهكذا بدأت الثورة.

فجأة..

المشهد الثاني

ميدان التحرير (25 يناير 2012)

عام واحد مرة على اندلاع الثورة، عاد المتظاهرون مرة أخرى إلى الميدان، لكن حول ثلاث منصات.

كنت هناك حين بلغت الخلافات بين من كانوا حتى وقت قريب يدًا واحدة حدًا أصبح صعبًا معه أن تعبر عنهم منصة واحدة، فأقام الإخوان المسلمون واحدة، ومثلهم فعل حزب الوفد، والجمعية الوطنية للتغيير.

صدحت مكبرات الصوت في كل منصة بمطالب وهتافات تختلف عن المنصة المجاورة، رفعت جماهير المنصات المختلفة الأحذية في وجه بعضها البعض، حملت العيون كراهية لم يحاول أحد إخفاءها.

تتهم القوى المدنية المدنية الإخوان والإسلاميين بدخول البرلمان عبر عتبات مفروشة بدماء لم تجف، ويتهم الإخوان والإسلاميون القوى المدنية بالمزايدة والغيرة وعدم الوعي بمتطلبات السياسة وضرورات المرحلة.

بعد كثير من الضجيج والهتافات المبتورة قرر الإخوان ترك الميدان عند غروب الشمس، وقرر الآخرون إعلان الاعتصام لحين تسليم السلطة إلى المدنيين!

هكذا انقسموا..

هكذا اختاروا أن ينقسموا..

المشهد الثالث

ميدان التحرير (25 يناير 2013)

بدأ اليوم باشتباكات بين متظاهرين والشرطة في جنبات الميدان، بدا أن الذكرى الثانية للثورة ستصبح ذكرى في حد ذاتها، فالاحتقان بين جماعة الإخوان التي أصبح أحد أعضائها رئيسًا للجمهورية، وباقي القوى السياسية الشريكة في الثورة بلغ مداه، وعلى هامش هذا الصراع مواطنون أرهقتهم الظروف الاقتصادية، وفي القلب منه وفي غرفة عملياته أجهزة أمنية تتلمس طريقها للتسلل بين شقوق الخلاف، ومؤسسة عسكرية سلمت السلطة وعينها فيها.

لم يُخلف اليوم العصيب وعوده، تجمع الآلاف في الميدان دون الإخوان لأول مرة، عاد هتاف “الشعب يريد إسقاط النظام”، ظهر ملثمون بملابس سوداء يطلقون على أنفسهم اسم “البلاك بلوك” ويعرضون خدماتهم، أو يفرضونها، كدرع وسيف للثورة في مواجهة نظام الإخوان، وثقت المنظمات الحقوقية 19 حالة اغتصاب جماعي في قلب الميدان وجنباته.

دوت صافرات إنذار كثيرة تنبه إلى الدخول في منعطف خطر لكن أحد لم يلتقطها، فالإخوان كانوا منشغلين حينها بدهان أسوار المدارس وغرس أشجار الزينة ضمن حملة أطلقوها إمعانا في إثبات تجاهلهم للتظاهرات المناهضة لهم، والقوى المدنية المعارضة كانت غارقة في ترتيبات ما بعد محمد مرسي ومن سيتولى حقيبة الإعلام في الحكومة الانتقالية.

لم يلتقوا في المنتصف..

لن يلتقوا بعدها ثانية..

المشهد الرابع

ميدان التحرير (25 يناير 2014)

يبحث الميدان عن الوجوه التي ألفها طوال سنوات ثلاث سابقة فلا يجد أيًا منها، الوجوه المنتشرة في أرجائه اليوم غريبة عليه، ربما تدخله للمرة الأولى، والأكيد أنها لم تأت للاحتفال بذكرى الثورة والمطالبة بإقامة دولة مدنية حديثة كما هي العادة بدليل أن معظمهم يحملون صورًا لرجل في حلة عسكرية كاملة مع عبارات تطالبه بالترشح لرئاسة الجمهورية.

لم يغب شباب الثورة عن الميدان بإرادتهم، بل كانوا على أطرافه فعلا يشتبكون مع قوات الشرطة التي تمنعهم من الدخول بكل ما أوتيت من قوة وأسلحة وتعتقل كل من تطوله يدها، فيما يدخل الزوار الجدد في حماية الشرطة بعد أن توزع عليهم صور وزير الدفاع والمرطبات على الأبواب.

وفي حين لم تتوقف أصوات الطلقات النارية والقنابل المسيلة للدموع على أطراف ميدان التحرير وفي الشوارع المؤدية إليه طوال ساعات النهار، كانت الأصوات داخله، وعلى بعد أمتار فقط، خليط من الموسيقى والأغاني الحماسية والاستعراضات الراقصة.

عالمان يفصل بينهما شارع..

مرحلتان يفصل بينهما يوم..

المشهد الخامس

ميدان التحرير (25 يناير 2015)

خلا الميدان تمامًا من البشر في ذكرى الثورة للمرة الأولى منذ اندلاعها بعدما أغلقته قوات الجيش بآلياتها، لذلك لم يكن صعبا ملاحظة آثار دماء متجلطة في أحد المداخل.

كان هذا ما تبقى من شيماء الصباغ، الشابة اليسارية التي انخرطت في الثورة من يومها الأول، وأخلصت لمبادئها وشاركت زملائها الحلم بدولة لا يُظلم فيها أحد، ولم تكن تعلم أنها في ذكرى ثورتها الرابعة ستتحول هي نفسها إلى ذكرى.

في اليوم السابق كانت شيماء ضمن مسيرة تحمل الورود لإحياء ذكرى شهداء يناير، والمطالبة بمحاسبة قتلتهم الذين ما زالوا طلقاء، هاجمت قوات الشرطة المسيرة بقسوة وأمطرت المشاركين بالطلقات النارية، أصابت واحدة منها قلب شيماء لتسقط الوردة في دمائها، وبحسب شهادة المشاركين معها فقد منعت الشرطة سيارة الإسعاف من الوصول إليها وقبضت على الطبيب الذي كان يحاول إسعافها.

كانت الرسالة واضحة تماما..

لا مكان للرومانسية في عالمنا الجديد..

المشهد السادس

ميدان التحرير (25 يناير 2016)

لم يُغلق الميدان هذه المرة، فقط أُغلقت محطة المترو المؤدية إليه.

تواجد عدد كبير من رجال الشرطة في الميدان بملابسهم الرسمية، في الأثناء كان رجلا يحمل عددا كبيرا من الورود الحمراء يطوف بينهم ويوزع عليهم وروده بينما تتبعه شابة عشرينية بكاميرا تصور المشهد المُفتعل.

ليست الذكرى الخامسة لثورة يناير، بل عيد الشرطة، هكذا أكدت وكررت وألحت كل القنوات الرسمية والمستقلة التي لم تعد كذلك بعدما اشترتها أجهزة في الدولة من أصحابها، لم يأت ذكر الثورة طوال اليوم إلا إذا كان أحد الضيوف المُختارين بعناية يوجه إليها لعنات عابرة في سياق حديثه عن الشرطة وتضحياتها.

محاولة للتأكيد على أن كل شيء عاد لما كان عليه وأن تلك الهبة كانت مجرد حدث استثنائي.

لن يتكرر..

لن نسمح له أن يتكرر..

المشهد السابع

ميدان التحرير (25 يناير 2017)

شخص واحد، يحمل صورة واحدة، يظهر فيها شخص واحد.

كان هذا الظهور الوحيد الذي يمكن وصفه بأنه يحمل صبغة سياسية داخل الميدان طوال يوم ذكرى الثورة السادسة، رجل يتجول في الميدان بين المارة والتمركزات الأمنية حاملا علم مصر وصورة كبيرة للرئيس عبد الفتاح السيسي، وبقدر ما كان ذلك غريبا بقدر ما كان متوقعا.

فهذه هي أول ذكرى للثورة تأتي بعد المظاهرات الحاشدة التي خرج فيها آلاف المصريين ضد تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، والذي اعتبرها النظام الوليد مؤشر خطر لعودة الناس إلى الشارع فتعامل معها بكل القسوة الممكنة وألقت الشرطة القبض على آلاف المحتجين الذين بقى بعضهم رهن الحبس الاحتياطي حتى اللحظة.

وهذه هي أول ذكرى تأتي بعد القرارات التقشفية وتحرير سعر الصرف التي سببت أزمات اقتصادية للمصريين أكثر مما كان الوضع عليه قبل اندلاع موجة الغضب العارمة في يناير والتي كان جزءا لا يستهان به من دوافعها اقتصاديا واجتماعيا.

لكن لا المعارضة المنهكة كانت مستعدة للمخاطرة بسجناء جدد، ولا المؤيدين المصابين بتبعات الإجراءات التقشفية التي اتخذتها الحكومة قبل شهرين عندهم فائض وقت بعدما صارت حياتهم حلقة مفرغة من الركض حلف حاجاتهم الأساسية.

لذلك لم يعد في الصورة سوى شخص.

شخص واحد..

المشهد الثامن

ميدان التحرير (25 يناير 2018)

حتى الشخص الواحد اختفى، وإن بقت الصورة الواحدة في كل جنبات الميدان على لافتات التأييد والمبايعة ، ومباركة الترشح لفترة رئاسية ثانية.

لم يشهد الميدان حدثًا يجعل من ذكرى الثورة السابعة يوما مختلفا عما يسبقه أو يليه، لا هتافات تأييد أو معارضة ولا صرخات حزن أو فرح، لا شيء سوى أصوات محركات سيارات تنتظر فتح الإشارة، وباعة جائلين يبحثون عن زبائن مازالوا يملكون رفاهية الشراء.

تشابهت الأيام، كما تتشابه عناوين الصحف كل يوم، بنفس رتابة تكرار المعارك على مواقع التواصل والوجوه على الشاشات.

لا شيء يتغير.

لا شيء حي..

المشهد التاسع

ميدان التحرير (25 يناير 2019)

انظر المشهد الثامن، مع استبدال لافتات تأييد الترشح لرئاسة ثانية بلافتات المطالبة بتعديلات دستورية تفتح مدد الرئاسة إلى الأبد. 

المشهد العاشر

ميدان التحرير (25 يناير 2020)

تغير شكل الميدان هذه المرة، تواجدت قوات الشرطة بكثافة في كل أرجائه بعدما دعا أحد الفنانين إلى التظاهر لإسقاط النظام في ذكرى الثورة، أوقف الضباط المارة وبدأوا يفتشون هواتفهم وفتح صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل، ولا مجال لرفض هذا الانتهاك المروع للخصوصية والكرامة لأنك إن لم تفتحه بإرادتك في الشارع ستفتحه بالقوة في قسم الشرطة، وإن لم توافق على انتهاك خصوصيتك، سيُنتهك جسدك.

بالتوازي مع ذلك كانت الرافعات تعمل بنشاط داخل الميدان لتغيير شكله وكعكته الحجرية التي كانت يوما ما حديث العالم، المُعلن أنها عملية لتطوير ميدان التحرير، لكن ما يعرفه الجميع أنها رسالة، كما كان هذا الانتشار الأمني الكثيف وتوقيف الناس في الميدان الذي لم تكن الدعوة للتظاهر فيه أصلا رسالة..

ووصلت.

لذلك، لم يكن المشهد الصادم هذا العام مفاجئًا، فكل المشاهد لم تكن لتؤدي لمشهد مختلف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *