عبدالمنعم رياض.. مستبصر النكسة وشهيد الاستنزاف وشرارة معركة التحرير (جميعهم قد هُزموا ووحدكَ انتصرتْ)
كتب- محمود هاشم:
“فقدت الجمهورية العربية المتحدة أمس جندياً من أشجع جنودها وأكثرهم بسالة، وهو الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة، الذي كان فى جبهة القتال، وأبت عليه شجاعته إلا أن يتقدم إلى الخط الأول، بينما كانت معارك المدفعية على أشدها وسقطت إحدى قنابل المدفعية المعادية على الموقع الذى كان يقف فيه وشاء قضاء الله وقدره أن يصاب وأن تكون إصابته قاتلة” .
فجع البيان الصادر عن الرئاسة المصرية في العاشر من مارس عام 1969، قلوب المصريين بعد إعلان نبأ استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض في جبهة القتال، بينما كانت تستجمع الدولة قواها لطرد الاحتلال من أراضيها في حرب الاستنزاف، مرورا بالتحضير لخطة نصر أكتوبر 1973.
كان الجنرال الذهبى – كما سماه السوفييت – مكلفًا بإعداد الجيش المصري لطرد القوات الإسرائيلية من خط بارليف، الذي بناه الإسرائيليون على طول قناة السويس بعد نكسة 1967، إلا أنه استشهد بنيران المدفعية الإسرائيلية خلال حرب الاستنزاف (1968-1970)، حيث كان يتفقد الاستعدادات لشن الهجوم، ووضعت خطته الأساس لنصر أكتوبر فيما بعد.
يحكي الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، في مقاله الصادر في صحيفة الأهرام في يوم صدور البيان الرئاسي، عن تفاصيل استشهاد رئيس الأركان، قائلا: “كان قد عاد بالطائرة قبل ساعات من بغداد، حيث حضر اجتماعات لرؤساء أركان حرب جيوش الجبهة الشرقية، وتابع معارك المدافع يوم السبت من مكتبه فى القيادة العامة، وصباح الأحد ركب طائرة هليكوبتر فى طريقه إلى أحد المطارات الأمامية للجبهة، ثم ركب سيارة عسكرية معه فيها مرافق واحد غير الجندى الذى يقود سيارة رئيس هيئة أركان الحرب”.
وانطلق رياض يطوف بالمواقع فى الخطوط المتقدمة، يتحدث إلى الضباط والجنود، يسألهم ويسمع منهم، ويرى ويراقب ويسجل فى ذاكرته الواعية، وفى أحد المواقع التقى بضابط شاب، وكانت حماسته للشباب مفتوحة القلب ومتدفقة، وقال له الضابط الشاب، ولم يكن هدير المدافع قد اشتد بعد: سيادة الفريق، هل تجىء لترى بقية جنودى فى حفر موقعنا؟ وقال عبدالمنعم رياض، بنبل الفارس الذى كانه طول حياته، وبالإنجليزية التى كانت تعبيرات منها تشع كثيراً سلسة وطيعة على لسانه: Yes. By all means – أى: نعم، وبكل وسيلة.
وتوجه مع الضابط الشاب إلى أكثر المواقع تقدماً، الموقع المعروف برقم 6 بالإسماعيلية، وفجأة بدأ الضرب يقترب، وبدأت النيران تغطى المنطقة كلها، وكان لابد أن يهبط الجميع إلى حفر الجنود فى الموقع، وكانت الحفرة التى نزل إليها عبد المنعم رياض تتسع بالكاد لشخصين أو ثلاثة.
انفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع، وأحدث انفجارها تفريغ هواء مفاجئاً وعنيفاً فى الحفرة التى كان فيها عبد المنعم رياض، وكان هو الأقرب إلى البؤرة التى بلغ فيها تفريغ الهواء مداه، وحدث له شبه انفجار فى جهاز التنفس، وحين انجلى الدخان والغبار كان عبد المنعم رياض مازال حيث هو، وكما كان، إلا تقلصات ألم صامت شدت تقاطيع وجهه المعبر عن الرجولة، ثم خيط رفيع من الدم ينساب هادئاً من بين شفتيه، وتنزل قطراته واحدة بعد واحدة على صدر بذلة الميدان التى كان يرتديها بغير علامات رتب، كما كان يفعل دائماً حين يكون فى الجبهة ووسط الجنود.
لم يكن لدى أطباء المستشفى فى الإسماعيلية وقت طويل للمحاولة، برغم أمل ساورهم فى البداية، حين وجدوا جسده كله سليماً بلا جرح أو خدش، لكنها 5 دقائق لا أكثر ثم انطفأت الشعلة، وتلاشت تقلصات الألم التى كانت تشد تقاطيع الوجه المعبر عن الرجولة، لتحل محلها مسحة هدوء وسلام، ورضى بالقدر واستعداد للرحلة الأبدية إلى رحاب الله، وفق هيكل.
رفض رياض أن يكون قائداً يُصدر الأوامر وحسب، مؤمناً بأن القادة يُصنعون، ولا يُولدون، «يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة»، كما كان يقول، ولعله هو ذاته خير مثال على مقولته تلك، حيث لم يكتف بالعلوم العسكرية التى درسها بالكلية الحربية، فيتعلم اللغات ويجيد منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، ويدرس الرياضة البحتة انتسابًا فى كلية العلوم، ويرى فى الاقتصاد أهمية للتخطيط العسكرى، فيسعى لدراسته فى كلية التجارة، وهو يحمل رتبة «فريق». وتصقله تجارب ما خاضه من معارك فى العلمين عام ١٩٤١، وفلسطين عام ١٩٤٨، والعدوان الثلاثى عام ١٩٥٦، ونكسة يونيو عام ١٩٦٧، وأخيراً «الاستنزاف»، التى كان فيها استشهاده عام ١٩٦٩.
في حرب 1967، عين رياض قائدا عاما للجبهة الأردنية، وكشف تقريره من مركز القيادة المتقدم بعمان عن تفاصيل هزيمة القوات العربية في النكسة، قائلا إن المعركة لم تكن متكافئة بأي حال من الأحوال من وجهة نظر مسرح عمليات الجبهة الأردنية، ولم يكن في الإمكان أن تنتهي إلا إلى النتيجة التي انتهينا إليها فعلاً، فمن ناحية قد أدت المفاجأة التي منيت بها القوة الجوية العربية المتحدة إلى حصول العدو على السيطرة الجوية عموماً منذ أولى ساعات العمليات، وبالتالي تكبدت القوات الجويـة السورية خسائر فادحة أبعدتها عملياً من جو المعركة، مما أدى إلى خوض المعركة في الجبهة الأردنية بلا معاونة أو غطاء جوي يذكر، وأصبح العدو في موقف متميز إلى حد كبير، إذ كان يقوم بتدمير قواتنا جواً ثم يتقدم بقواته البرية عندئذ بلا عناء.
وأضاف رياض: “لو أن القوات الجوية الأردنية والعراقية قدمت كل ما في طاقتها المحدودة عدداً، إلا أن ذلك لم يكن كافياً بأي حال لمعاونة القوات البرية أو لتغطية عملياتها جواً، وذلك يرجع أساساً إلى قلة عدد الطائرات وعدم وجود مطارات في الجبهة الأردنية تسمح للمقاتلات العراقية المحدودة المدى بالعمل منها لتغطية عمليات القوات البرية الأردنية، وعليه كاستنتاج عام، فإن المعركة كانت جوية أولاً وأخيراً، حصل فيها العدو على السيطرة الجوية منذ الساعات الأولى وسهل ذلك لقواته البرية النجاح بلا عناء كبير
بصيرة رئيس الأركان المصري الراحل كانت واضحة في تقريره، الذي كشف أوجه الخلل في خطة مواجهة العدو قائلا: “أن خوض المعركة مع العدو يلزم التنسيق والتحضير المسبق، والذي حدث هو أن القيادة العربية الموحدة التي كانت قائمة بهذا العمل قد شلت أيديها قبل المعركة بحوالي سنة، وعليه لم يكن هناك تنسيق بالمعنى المفهوم ولم يكن هناك تجهيز لمسرح العمليات بشكل مقبول، والقيادة المتقدمة التي شكلت قبل المعركة بأيام لم تكن في وسعها أن تفعل أكثر مما فعلت، وهذا خطأ من السياسة العربية التي جنت على الجندية العربية قبل أن تجني على إسرائيل”.
بعد عودة عبد المنعم رياض من الأردن، حيث قاد قواته فى المعركة، وفى عملية إعادة بناء القوات المسلحة، بعد الأنقاض التى تخلفت من النكسة، وقع اختيار عبد الناصر على رجلين عهد إليهما بالمهمة التى بدت فى ذلك الوقت مستحيلة. الفريق أول محمد فوزى قائداً عاماً ثم وزيراً للحربية، والفريق عبد المنعم رياض رئيساً لهيئة أركان الحرب
يقول هيكل إنه رياض بدأ مع توليه منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة فى ١١ يونيو ١٩٦٧، فى إعادة بناء ذلك الصرح الذى انهار مع النكسة، فيضع العامل النفسى للجنود والضباط نصب عينيه، ويقرر إعادة الثقة لهم، مؤكداً أنهم لم يخوضوا حرباً ليهزموا، وأن الفرصة لم تضع بعد، فتكون رأس العش، التى حالت دون سيطرة القوات الإسرائيلية على مدينة بورفؤاد المصرية عند قناة السويس وبعد أيام من الهزيمة تلاها تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات فى ٢١ أكتوبر ١٩٦٧، فيثبت لجنوده صحة رؤيته وإيمان الوطن بقدراتهم التى لم تختبر بعد، واعداً إياهم بحرب لا مناص منها تكون فيها استعادة الكرامة الكاملة، قائلاً لهم: «إذا وفرنا للمعركة القدرات القتالية المناسبة، وأتحنا لها الوقت الكافى للإعداد والتجهيز، وهيأنا لها الظروف المواتية، فليس ثمة شك فى النصر الذى وعدنا الله إياه».
حانت اللحظة الحاسمة فى حياته، حينما أصر على الإشراف بذاته على تدمير جزء من مواقع خط بارليف، فى الثامن من مارس عام ١٩٦٩، تنطلق النيران على طول خط الجبهة، وتقع الخسائر على الجانب الإسرائيلى الذى لم يتوقع ذلك الهجوم، ينتهى اليوم الأول، ويجىء صباح يوم التاسع من مارس، فيبادر عبدالمنعم رياض بالتوجه للجبهة لمتابعة المعركة عن قرب، ولا يكتفى بذلك فيذهب للموقع السادس بالإسماعيلية الذى كان لا يبعد سوى ٢٥٠ مترا فقط عن مرمى المدفعية الإسرائيلية، ويستشعر العدو وجود شخصية مهمة فى الموقع فيكثف نيرانه، فيقع الفريق عبدالمنعم رياض شهيداً، تصعد روحه إلى بارئها، ويظل جسده فى الأرض دافعاً لجنوده وزملائه الذين واصلوا المعركة التى أشرف عليها وبدأها
وقال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، في بيان نعي رئيس الأركان: “لقد وقع الجندى الباسل فى ساحة المعركة ومن حوله جنود من رجال وطنه يقومون بالواجب أعظم وأكرم ما يكون من أجل يوم اجتمعت عليه إرادة أمتهم العربية والتقى عليه تصميمها قسماً على التحرير كاملاً وعهداً بالنصر عزيزاً مهما يكون الثمن ومهما غلت التضحيات”.
جنازة مهيبة كانت خير ختام لمسيرة حافلة بالبطولات والتضحيات لرئيس الأركان، ودعه خلاله أحباؤه من زملاء السلاح وأبناء الوطن، مستحضرين سيرته ووصيته لهم باستكمال مسيرة مقاومة العدو ودحره من كافة أراضي الوطن.
منح عبدالناصر الشهيد رتبة «الفريق أول»، و«نجمة الشرف العسكرية»، أعلى وسام عسكرى فى مصر، مقررا الانتقام لمقتله فى شهر أبريل من العام ذاته، فى عملية «لسان التمساح»، التى قادها بطل آخر من أبطال المحروسة هو إبراهيم الرفاعى، ونحو ٤٣ ضابطًا وعسكريًا، كانت نتيجتها تدمير الموقع الذى انطلقت منه النيران على عبدالمنعم رياض، وقتل ٢٦ جنديًا إسرائيليًا.
ليس هناك أفضل مما يكتب في رثاء الجنرال الذهبي من شعر نزار قباني فيه: (لو يعرفونَ أن يموتوا مثلما فعلت، لو مدمنو الكلامِ في بلادنا قد بذلوا نصفَ الذي بذلتْ، لو أنهم من خلفِ طاولاتهمْ قد خرجوا، كما خرجتَ أنتْ، واحترقوا في لهبِ المجد كما احترقتْ، لم يسقطِ المسيحُ مذبوحاً على ترابِ الناصرة، ولا استُبيحتْ تغلبٌ وانكسرَ المناذرة، لو قرأوا – يا سيّدي القائدَ – ما كتبتْ لكنَّ من عرفتهم، ظلّوا على الحالِ الذي عرفتْ، يدخّنون، يسكرونَ، يقتلونَ الوقتْ ويطعمونَ الشعبَ أوراقَ البلاغاتِ كما علِمتْ وبعضهمْ، يغوصُ في وحولهِ، وبعضهمْ يغصُّ في بترولهِ، وبعضهمْ قد أغلقَ البابَ على حريمهِ، ومنتهى نضالهِ جاريةٌ في التختْ، يا أشرفَ القتلى، على أجفاننا أزهرتْ الخطوةُ الأولى إلى تحريرنا، أنتَ بها بدأتْ، يا أيّها الغارقُ في دمائهِ جميعهم قد كذبوا، وأنتَ قد صدقتْ جميعهم قد هُزموا، ووحدكَ انتصرتْ”.