سنة أولى درب.. د. أحمد حسين يكتب: الشهداء والكلمة ودرب

منذ أسابيع كانت عبارات السيسي الصادمة للوسط الطبي في محفل عام، عن عدم قدرة الحكومة عمل شيء لشهداء القطاع الصحي وأن جزاءهم عند ربهم، ومنذ أيام صدق رئيس الجمهورية السيسي على قانون بتعديل بعض مواد القانون 16 لسنة 2018 الخاص بصندوق تكريم شهداء وضحايا ومصابي العمليات الحربية والإرهابية والأمنية وأسرهم، التعديلات تتضمن زيادة في موارد الصندوق، ومزايا المستفيدين منه.. كان هذا التعديل من أوائل ما ناقشه مجلس النواب، وفي ردهات نفس المجلس أكدت وزيرة الصحة أنها لا تستطيع ضم شهداء ومصابي القطاع الصحي لقانون 16 رغم أن نص القانون يتيح للوزير المختص بالعرض على رئيس الوزراء بضم فئات أخرى، كما يقبع بأدراج نفس مجلس النواب مشروع قانون مقدم من أحد النواب لضم العاملين بالقطاع الصحي إلى القانون المُشار إليه.

كلمات تحية وإشادة من الرئيس السيسي بالعاملين بالقطاع الصحي وشهدائهم، تبعه فيها مسؤولين كثر..كلمات لم يعتد المجتمع سماعها سوى في أعياد القوات المسلحة والشرطة وحفلات خريجيها والمسلسلات وأفلام السينما،عن أبطال قواتنا المسلحة والشرطة، وحتى لا تختلط معاني وربط الكلمات لدى المجتمع، ساعدتهم الحكومة فأطلقت مسمى “الجيش الأبيض” على الفريق الطبي.

القطاع الصحي يضم في أركانه مواطنين مصريي الجنسية، وكما هو الحال تقوم أركان القوات المسلحة والشرطة على مصريين وقد يكونون أشقاء دم لأولئك العاملين في الصحة، ولكن شتان في واقع كل منهم وحتى في أسر شهداءهم.. من استشهدوا وهم يدفعون عن المجتمع خطر وباء قتل وأباد أضعاف ما خلفته حروب عدة، تعاني أسرهم شظف العيش بالمعنى الحرفي، على أسرة شهيد الصحة المكونة من أربعة أولاد وأرملة أن تعيش بمعاش مقداره ألفي جنيه أو أقل، حتى معاش الوفاة الإصابية الذي يقره القانون تعاني الأسر من صلف وتعنت الهيئة القومية للتأمنيات ولم تصرفه أسرة واحدة حتى تاريخه.. تلك المقارنة في واقع ونظرة النظام لمواطنين من أصول واحدة ولكنهم يعملون في مجالات مختلفة، اختصرها أحد الإعلاميين الناطقين بإسم نظام الحكم عندما أودى بالطالب المحدب من ثقل حقيبة المدرسة وضعيف النظر من الإستذكار، إلى الفشل بإمتهانه الطب أو الهندسة.

صدقت وزيرة الصحة فهي لا تستطيع حتى أن تطالب بضم أعضاء القطاع الذي ترأسه إلى صندوق شهداء القوات المسلحة والشرطة، ويدرك الجميع عجز مجلس النواب حتى عن مناقشة مشروع قانون بهذا.. لكلٍ وظيفة حدود، والمروؤسون جميعهم لهم رئيس لا يتخطونه، تمامًا كما أوهمونا بالحدود والألغام المحيطة بكلمة “السياسة”، هنا أنت طبيب في مجال الصحة أو نقابيً في مجال أخر،لا تتحدث في السياسة حتى لا تحيط بك الشكوك وتفقد مصداقيتك، أحصر نفسك أو اسجنها في مشاكل مهنتك، بل مشاكل ممتهنيها فقط، وكأنك عندما تتحدث في السياسة تخون قضايا مهنتك والعاملين بها، مفهوم مشوه لكلمة “السياسة” نتيجة إرث لتاريخ قديم من الظلم والتجهيل، يتجلى لك التشويه عند مناقشة ناصحيك من جيرانك وأصدقائك بالبعد عن السياسة، فتكتشف أنها تعني للكثير الصدام ومهاجمة النظام الحاكم، نعم النظام وليس الحكومة أو الدولة وقد تتسع الدائرة عند البعض فتشمل البوليس.

على مدار عقود مضت، نجحت أنظمة الحكم في مصر أن تجعلنا نعيش المفهوم الضيق أو المشوه للسياسة، سواء كنا مرتضين أو مُجهلين، أنت طبيب أو مهندس أو عامل أو غيره، كنت بإرادتك تقبع في سجن حياتك الشخصية ومهنتك إلى جانب ناديك المتعصب له و نجمك المفتون به، وإن إعترت حياتك الشخصية مشكلة استعنت بجارك أو صديقك، وإن كانت مشكلة في عملك تقدمت بعدة شكاوى إلى جهات مختلفة قبل أن تجرب الطريقة الأقوى والأقدر على تحريك الأمور وهي تلغراف إلى رئيس الجمهورية، أما إن كانت مشاكل مهنة فيكفي أن تتناولها صحيفة واحدة لتقوم الدنيا ولا تقعد قبل حل أو حتى مُسكن، حقيقة كانت أنظمة الحكم في الماضي تعطيك مخارج ومبررات لنفسك لتستعين بها على عيش المفهوم المشوه للسياسة بل أيضًا لتنبذه وتستمع بأسرك في نطاق حياتك الشخصية وناديك الكروي ونجمك السينمائي.

اليوم الأمر صار مختلفًا، فجارك مشغول عن سماعك بالبحث عن عقود ملكية منزله، وصديقك متخوف أن تصيبه بعدوى كورونا، وزميلك تُوفي وترك أسرة تحتاج إلى معين، المريض يتهم الطبيب بالإهمال أو الجشع، والمدرس لن يتخلى عن الدروس الخصوصية والطالب لا يزور المدرسة، والإعلامي يوبخ الشعب على التناسل، تكتب الشكاوى وترسل الإستغاثات ولا عائد سوى لمكاتب البريد التي ضاعفت رسومها.

قبل وفاته بشهور كتب صديقي وأستاذي د.أحمد خالد توفيق ضمن مقال له ” لكنك في مصر تتكلم وتتكلم، تشكو، تعرض قضايا، تتساءل، توجه أسئلة للمسئولين، تنتظر ردًا لأن هناك قضية بالغة الخطر، لا يوجد فارق، أنت تسلي نفسك لا أكثر، مصر تعلمك كيف أن الكلمة لا أهمية لها على الإطلاق”.. حتى التسلية التي تحدث عنها العراب لم تعد متاحة لك اليوم، فأنت مطالب أن تتحسس كلمات النقد أو حتى الشكوى وتكبح جماحها فلا تتعدى وزير أو بالأكثر رئيس الحكومة.. إن لم تقرأ رواية “1984” فحسنًا فعلت، فأنت تعايشها وتعيش فصول إضافية مستحدثة، الأخ الأكبر هو الأدرى بصالحك وهو الأقدر منك بالتعبير عنك، غير متاح لك سوى الشكر والثناء عليه وأيضًا سيُعيرك من الكلمات ما تنتقد بها أشقاءك.

في الماضي كان النظام يمنحك متعة الأسر في مشاكلك الشخصية، واليوم ارتأى النظام عدم إستحقاقك لتلك المتعة، بالماضي كانت الكلمة تجد بعض الدروب لنشرها دون تحفظ، واليوم تضيق الدروب وتُغلق، فإما أن تكون الكلمة حبيسة الصدور أو صاحبها حبيس السجون..

تحية لموقع “درب” الذي قد يكون الأوحد المتاح لنشر الكلمة دون تشويه ودون الإضطرار للترميز، وتحية لحراس الكلمة الحرة القائمين على “درب” في عيد ميلاده الأول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *