رحاب إبراهيم تكتب: في المطعم الهندي (ابداعات)
يؤرقني هاجس ، أنني في اللحظة التي أصل فيها لباب البيت ، سأفتح حقيبتي فلا أجد المفتاح . رغم أن هذا الموقف لم يحدث أبداً.
في المرات القليلة التي فقدت فيها مفاتيحي ، لاحظت ذلك قبل الوصول للبيت بفترة كافية لتغيير المسار وإيجاد حل بديل ، أما أن أقف على عتبة البيت منهكة القوى بعد رحلة طويلة أو عمل شاق ، أفتش في الحقيبة وأقلبها بيأس ، فهذا ما لم يحدث. لكن المشهد ظل يؤرقني لدرجة الوسوسة ، الدرجة التي تجعلني أمسك بالمفتاح في يدي وأقبض عليه بقوة من أول الشارع المؤدي للبيت.
متى بدأ هذا الهاجس ، لا أدري . لكنه لا يفارقني إلا في الأوقات القليلة التي أضطر فيها إلى السفر للخارج بسبب العمل ، والمبيت في فندق .
أحب الفنادق ، ليس فقط لأنها مرتبطة بالسفر مع كل ما يعنيه من احتمالات جديدة ، لكن لأنها تمنحني الخصوصية بغير إحساس الوحشة أو العزلة .
الفندق مكان خاص وعابر ، وميزته أنك لن تضطر إلى حمل مفتاح مع ثقتك بأنك ستجد الغرفة مرتبة والطعام ساخناً …ثم لا أحد هناك .
الليلة الأخيرة في الفندق سبقها نهار مشحون بالعمل والاجتماعات ، نظرت للساعة فوجدت أمامي أقل من خمس ساعات على موعد الطائرة .
لا أريد أن أنام لسببين ، أخاف ألا أستيقظ في الموعد ، والسبب الأهم أن هذه الرحلة مرت سريعاً بلا دقيقة راحة أو نزهة واحدة . فكرت في الخروج لكن بدا هذا خياراً مرهقاً . كان الحل الوسط هو النزول لبهو الفندق وتناول مشروب خفيف .. بعد استبعاد صالة الديسكو وقاعة عرض مباريات الكروكيت بقي أمامي المطعم اللبناني والمطعم الهندي ..الموسيقا المناسبة من داخل المطعم الهندي حسمت الاختيار بسهولة ..كانت الفرقة الموسيقية مكونة من فتاة سمراء ترتدي سارياً هنديّاً تقليديّاً أخضر اللون ، وعازفين شابين يقفان خلفها …ابتسمت لي فابتسمت لها ، اخترت مكاناً قريباً من المسرح وجلست ..كان المطعم خالياً إلا مني ومن أسرة هندية كبيرة العدد جلست في أحد الأركان مستغرقة في الأكل والكلام .
طلبت فنجاناً من الشاي الأخضر بالنعناع ، وأرهفت السمع محاولة ارتشاف الموسيقا وفك طلاسم اللغة .
بدا على الفرقة الموسيقية السعادة بجمهورهم الوحيد الذي هو أنا ..تجلّت المغنية وتمايلت باندماج وهي تشدو بأغنية بعد أخرى ، وبدأ العازفان يرقصان ويشيران لي فأرفع يدي بتحية استحسان .
لم نلتفت لرحيل الأسرة الوحيدة التي كانت تشاركنا السهرة
مستغرقون تماماً ، هم في العزف والغناء وأنا في التشجيع حتى توقف العزف فجأة ، واقتربت مني المغنية السمراء محيية ، قالت بالإنجليزية : سيدتي ، أهدي لك هذه الأغنية..
انسابت الموسيقا الهادئة وبدأت تغني وهي تنظر لي ..حاولت أن أفهم شيئاً بلا جدوى ، لكنها كانت تغني من أعماق قلبها ..ونجحت في نقل إحساسها إلي .. صفقت لها طويلاً حين انتهت ، ثم سألتها : عم تحكي ؟
قالت بهمس : فتاة تناجي حبيبها …البعيد
قلت : انفصلا ؟ أومأت برأسها إيجاباً ، لكن العازف الأكبر سنّاً والواقف على يمينها أسرع قائلاً : سافر …فقط سافر
وبصوت مرح أضاف : وهذه أغنية عربية من أجلك
وعلت الموسيقا من جديد ” حبيبي يا نور العين “
صفقت محاولة إكمال طقس المرح ، رغم الدموع التي بدأت تلمع في عيني .
كان موعد الإغلاق قد حان ، وكان الوقت الباقي بالكاد يكفي تجهيز الحقيبة. أشرت للفرقة بابتسامة قبل أن أصعد لغرفتي ..
تناولت المحفظة الجلدية الصغيرة ، أخرجت صورتنا ، وجلست على طرف الفراش أتأملها..
كنا مبتسمين …كنا أصغر سنّاً ..كانت العيون تبرق بفرح وثقة ، وكنت تحيط خصري بكلتا يديك ، وأنا أميل برأسي قليلاً نحوك ، وأنظر إلى بعيد.
كانت قبضتي مضمومة بشدة ولم أرخها على كتفك ..احتفظت بها مضمومة كأنها في حالة تأهب للدفاع أو الهجوم ..أو ربما كأنها تود أن تحتفظ في داخلها بشيء لا تفلته ولا يراه أحد ..
ربما كان جديراً بك أن تحيط خصري بذراع واحد ، وتترك الآخر طليقاً..وربما لو كنت فردت كفي وأسندتها على كتفك كنا نجحنا في الاستمرار لوقت أطول .