د. محمد مدحت مصطفى: النمط المصري للإنتاج (2- 11).. الأصول الاجتماعية
ذكرنا في المقال السابق أن القانون العام الوحيد المقبول من الناحية المنطقية هو القانون القائل (بحتمية تطور المجتمعات الإنسانية)، لأنها المجتمعات الوحيدة التي تملك إمكانيات التطور على سطح الكرة الأرضية، ولكن كيف يتم تطور هذه المجتمعات؟ وما هي العوامل الرئيسية التي تحكم هذا التطور؟ وإلام نرجِع عند توصيف مجتمع ما؟
تُمثل الإجابة على هذه الأسئلة العناصر الرئيسية للمعارف العِلمية التي يجب أن يتسلح بها الباحث عند الخوض في مثل هذا النوع من الدراسات. إلا أنه قبل الإجابة على تلك الأسئلة يجدر بنا التعرف على بعض المحاولات التي تمت في مجال دراسة تطور المجتمعات الإنسانية لأنها تُشكّل خلفية ضرورية للإجابة، حيث توضح أن ذلك التطور لا يتم بطريقة عشوائية، كما توضح أنه كانت هناك محاولات دائمة للكشف عن قوانين تطور هذه المجتمعات، كما أن التعرف على مدى قصور هذه المحاولات يُساعد على اكتشاف أسباب هذا القصور.
وعلى ذلك سنحاول فيما يلي إلقاء الضوء على بعض محاولات دراسة تطور المجتمعات، سواء تلك المحاولات ذات الأصول الاجتماعية التي غاب عنها البُعد الاقتصادي، أو تلك المحاولات ذات الأصول الاقتصادية والتي غاب عنها البُعد الاجتماعي. وعندما نقول (غاب) فإننا لا نقصد الغياب التام بقدر ما نقصد (عدم الاهتمام الكافي). ثم ننطلق بعد ذلك إلى المنهج الصحيح ـ حتى الآن على الأقل ـ الذي يأخذ في اعتباره البعدين الاجتماعي والاقتصادي معاً حتى يُمكن لنا التوصل للفهم الصحيح لمصطلحات مثل نمط الإنتاج، والبناء العلوي، والبناء التحتي، والتكوين الاجتماعي، وغيرها من المصطلحات العِلمية.
الأصول الاجتماعية لنظريات التطور:
لا يُمكن لأي باحث في مجال تطور المجتمعات الإنسانية إلا وأن يتعرض بالضرورة لمراحل تطور هذه المجتمعات. ولا شك أن لعلماء الاجتماع بصفة عامة والمختصين منهم بفرع الأنثروبولوجي بصفة خاصة فضل السبق في هذا المجال، لذلك فإن أول تقسيمات لمراحل تطور المجتمعات الإنسانية كانت للمراحل المبكرة في حياة هذه المجتمعات.
وفي هذا الصدد كانت تقسيمات مورجان للمراحل المبكرة في تطور المجتمعات الإنسانية. يكتسب لويس مورجان Lewis H. Morgan 1818 – 1881 الأمريكي الجنسية أهمية كبيرة في عِلم تطور المجتمعات الإنسانية القديمة، منذ أن طبع كتابه الهام “المجتمع القديم” عام 1877م. فقبل صدور هذا الكتاب كان “الكتاب المقدس” وخاصة أسفار موسى الخمسة في التوراة تُمثل المرجع الوحيد لدراسة تاريخ العائلة، وترفض فكرة تطور العائلة ومن ثم العشيرة.
ويستند مورجان في دراسته إلى المجتمعات الهندية القديمة في أمريكا، ويقدم أول نتيجة في تطور المجتمعات الإنسانية وهي انتقالها من مرحلة “العشيرة الأموية” إلى مرحلة “العشيرة الأبوية”، حيث كان تعدد الأزواج في مرحلة العشيرة الأموية حقا تمتلكه المرأة، ومن ثم كان لها الحق الوحيد المؤكد في نسب الأبناء، وفي العشيرة الأبوية كانت العشيرة أكثر تحضراً وانتزع فيها الرجل حق الزواج من امرأة واحدة ومن ثم اكتسب حق تأكيد النسب إليه. كانت تلك النتيجة التي تبدو بديهية الآن بمثابة انقلاب في ذلك الوقت، أولا لتعارضها بما جاء في الكتاب المقدس، وثانيا لأنها استندت في الأصل إلى جماعات الهنود الحُمر التي كان يُنظر إليها نظرة عنصرية متدنية، ولم يتم الاستناد إلى الجماعات الأوربية القديمة.
وتدريجياً أصبح القبول بتقسيم مورجان يُمثل الأساس الذي قامت عليه بعد ذلك دراسة المجتمعات الإنسانية القديمة في أنحاء أخرى من العالم. وقد أتبع ذلك قيامه بتقسيم أطوار نمو مجتمعات ما قبل التاريخ إلى ثلاثة أطوار هي: الوحشية، البربرية، والحضارة.
- الوحشية:
وهي مرحلة شهدتها جميع المجتمعات الإنسانية بغض النظر عن موطنها. أما طورها الأدنى، فقد تمثل في الحالة البدائية التي كان عليها البشر حيث يقتاتون الثمار وجذور النباتات، وكان النطق من أهم منجزات هذا الطور. وفي الطور المتوسط، عَرِف الإنسان النار وغذاء الأسماك، وارتفعت درجة تنقله مع مجاري الأنهار، وتوصل لأدوات الإنتاج الحجرية غير المصقولة. وفي الطور الأعلى توصل لاختراع القوس والسهم، وتمكن من اصطياد الحيوان، وحقق قدرًا ضئيلًا من الإقامة في قرى.
- البربرية:
وهي المرحلة التالية لمرحلة الوحشية، وقد اختلفت درجة تطور المجتمعات فيها باختلاف الموطن، وقد بدأت في طورها الأدنى مع ظهور صناعة الفخار المحروق الذي يتحمل حرارة النيران، والتوصل لاستئناس الحيوان، وبداية الاستقرار في القرى. وفى طورها المتوسط عرِف الغرب زراعة الذرة وتدجين الطيور بينما لم يعرف تربية الحيوان، وفي الشرق تم التوصل لتربية حيوانات اللبن واللحم في حين تأخرت المعرفة بتربية النبات، لِذا فقد ظهرت تربية القطعان الضخمة والترحال وراء غذاء الحيوانات بشكل أكبر من الاستقرار بغرض زراعة غذاء الإنسان. أما الطور الأعلى فقد تميز أساساً بصهر الحديد، وظهور المحاريث ذات السلاح الحديدي، واستخدام الماشية كقوة جر، وعَرِف الشرق الزراعة والاستقرار بشكل أرقى لأنه كان قد توصل لنمط غذائي أرقى في المرحلة السابقة مباشرة ( اللبن واللحوم )، بينما تأخر الغرب في التوصل لذلك النمط. ومن هنا أيضاً ظهرت الكتابة في الشرق عند نهايات هذا الطور.
ج- الحضارة:
وهو الطور الذي بدأ بتمكن الإنسان من تحقيق قدر متزايد من وفورات مواد الغذاء، وقدر متزايد من الاستقرار والتنظيم لأسلوب الإقامة، وهو الطور الذي تعامل معه مورجان كمرحلة واحدة بدلاً من تقسيمها إلى مراحل ثلاث كما كان الحال بالنسبة للوحشية والبربرية. إلا أن هذا الطور قد حفل بعد ذلك بالعديد من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، باعتباره أصل الحضارة الإنسانية، وبداية الانقسام الطبقي والصراع في المجتمعات الإنسانية.
إذا كان هذا النموذج السابق يُمثل نموذجا تطوريا للمجتمع الإنساني القديم من وجهة نظر علماء الاجتماع فهو مجرد مثال فقط ـ له ما له وعليه ما عليه ـ إلا أن هناك أمثلة أخرى عديدة، فهناك تقسيم فريدريك ليست للمراحل الخمس والذي نشره عام 1841م، والذي يُقرر فيه أن المجتمعات الإنسانية تطورت عبر مراحل خمس هي: المرحلة الوحشية، المرحلة الرعوية، المرحلة الزراعية، مرحلة الزراعة والتصنيع، مرحلة الزراعة والتصنيع والتجارة.
ثم هناك المدخل الاجتماعي التاريخي الحديث لماكس فيبر Max Wwber 1864 – 1920 وهو الألماني الذي وإن اتفق مع مواطنه كارل ماركس في حتمية تطور المجتمع الإنساني، إلا أنه اختلف معه في أسباب ودوافع هذا التطور، واتهم ماركس بأنه فشل في التفرقة بين ما هو “حتمي اقتصادياً” وما هو “مُلائم اقتصادياً”، رغم أنه لم يقدم بالمقابل أي أساس لهذه التفرقة.
ثم أسس فيبر نظريته في التطور التاريخي والتي قام بتطبيقها على المجتمع الألماني بإرجاع أصل التطور إلى الفعل الاجتماعي وتوصل إلى مقولته الخاصة “بأن الرأسمالية الحديثة نشأت من خلال العقيدة البروتستانتية وأخلاقياتها الاقتصادية، فروح الرأسمالية هي نفسها روح العقيدة البروتستانتية بما تتضمنه من سلوك وأخلاقيات عملية، ولقد وُجدت الأخلاقيات الاقتصادية في نطاق الديانة البروتستانتية، فروح الرأسمالية ظهرت قبل أن تظهر الرأسمالية ذاتها”. وقد توصل فيبر إلى ذلك من خلال تحليل لتعاليم مارتن لوثر، وهو لاشك مدخل يُعلي من شأن العوامل الاجتماعية ويعتبر التطور الاقتصادي تابعاً لها.